كريتر نت – متابعات
انتهى التحمّس لإسقاط حكم بشار الأسد، ويجد السوريون أنفسهم أمام معضلة إعادة بناء دواليب دولة متهالكة، وهم يحتاجون في ذلك إلى دعم خارجي عاجل، في وقت تريد فيه تركيا أن تضع يدها على “سوريا الجديدة” وتوجه كل شيء حسب مصالحها. وفي ظل تردد عربي فردي وجماعي في التعاطي مع التطورات المفاجئة يبرز التساؤل التالي: إلى أي حد يسمح بالغياب العربي عن “سفر التكوين” السوري الجاري؟
وفي مقابل دعوات عربية إلى “تغليب الحكمة” وتضافر الجهود لمنع انزلاق سوريا نحو “الفوضى والانقسام”، تقدمت قطر لتعرض نفسها وسيطا ومحاورا مباشرا لهيئة تحرير الشام، التي قادت الانتفاضة المسلحة ضد الأسد. لكنّ محللين سياسيين يحذرون من أن الاندفاعة القطرية نحو سوريا ما بعد الأسد لا تمثل تدخلا عربيا بقدر ما هي مشروع قطري – تركي لوضع اليد على سوريا.
ويشير المحللون إلى أن الابتعاد العربي عن سوريا اليوم سيعني العودة إلى هيمنة الإسلاميين والقطريين والأتراك، وهو خيار غير مدروس ويعيد تكرار تجارب الانسحاب العربي من العراق ولبنان واليمن، وهو انسحاب ترك فراغا سرعان ما ملأته قوى إقليمية أخرى وحولته إلى أوراق للضغط على العرب وتهديد أمنهم القومي.
الابتعاد عن سوريا يعني العودة إلى هيمنة الإسلاميين والقطريين والأتراك، وهو خيار يكرر أخطاء الانسحاب من العراق
يمكن أن يبتعد بلد عربي مؤثر إقليميا لأسباب مختلفة، منها الموقف الحاسم من التطرف والمتطرفين، وهو ابتعاد مبرر ومتناسق مع مقاربة كل دولة في العلاقات الإقليمية أو الدولية، إلا أن المشكلة تكمن في أن ترك سوريا في وضعها الحالي الذي يتسم بإعادة التكوين والبناء وإعادة الإعمار سيفهم على أنه انسحاب لفائدة قوى إقليمية أخرى تتعامل مع “سوريا الجديدة” بعقلية الغنيمة ووضع اليد ولا تحوز ثقة السوريين.
ويحتاج الدور العربي إلى فاعلية على الأرض أكثر من البيانات العامة التي تسجل مواقف عن بعد مثل بيان الخارجية المصرية الثلاثاء، حيث قالت إن “المرحلة الدقيقة من تاريخ سوريا تتطلب تكاتف جهود كل أبنائها لتدشين عملية سياسية شاملة ذات ملكية وطنية سورية خالصة دون إملاءات أو تدخلات خارجية.”
وقال مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية بالقاهرة عمرو الشوبكي إن الحضور العربي محدود جدا في سوريا، وإن معادلة القوى هناك انتقلت من إيران (التي تدخلت في أدق تفاصيل الدولة السورية) وروسيا (التي كان لها حضور قوي) إلى تركيا، وإن طبيعة أداء من وصلوا إلى السلطة من المعارضة ولغة الخطاب التي استخدموها وعمليات التسليم والتسلم، تميزت بهدوء يشي بأن العملية تم الاتفاق عليها مسبقا.
وأشار في تصريح لـ”العرب” إلى أن الدول العربية لم تحسم موقفها بشكل نهائي؛ إذ لم يتضح ما إذا كانت ستتخذ موقفا صريحا من الحكومة التي يسيطر عليها الإسلام السياسي أم ستنخرط في المشهد ولن تترك الساحة لأطراف أخرى. ولفت إلى أن البيانات التي صدرت عن الدول العربية المؤثرة، وفي مقدمتها السعودية والإمارات ومصر، أشارت إلى احترام خيارات الشعب السوري، ما يوحي بدور ما لتلك الدول في المسار الانتقالي.
وهناك مرحلتان في قرار التدخل العربي، الأولى تخص شكل التدخل: هل سيكون جماعيا أو في صورة تدخلات منفصلة لكل دولة حسب مصالحها وأجندتها؟ ويبدو أن التدخل الجماعي المنظم أمر بالغ الصعوبة لما عُرف عن العمل العربي المشترك من بطء وتركيز على التفاصيل دون مراعاة أهمية الوقت بالرغم من أهميته بالنسبة إلى السوريين كخيار ضامن لاستقرار سوريا والحفاظ على هويتها وعمقها العربيين.
أما المرحلة الثانية فتخص هامش التدخل ومن يحدده، وما الذي ستتركه تركيا للعرب إذا قرروا التدخل المشترك باعتبارها مسيطرة الآن على الملف، وما الذي سيبقى لإيران وهي ترى إمبراطوريتها تتهاوى.
وأكد الخبير في الشؤون الإقليمية والدولية بشير عبدالفتاح في تصريح لـ”العرب” أن الأدوار يتم انتزاعها ولا تمنح، ولا يمكن التعويل على موافقة تركية مجانية على دور عربي في سوريا، والدليل على ذلك أن المخطط الذي قاد إلى إسقاط بشار الأسد لم يتم من خلال تشاور مع أي دولة عربية، ويبرهن ذلك على ضعف التأثير العربي في الصراعات الإقليمية.
ودون انتظار تبلور موقف عربي من شكل التدخل لمساعدة سوريا على تجاوز محنتها، بادر القطريون إلى التحرك تحت مظلة أنقرة وفي صالح تثبيت الدور التركي في سوريا، حيث سارعوا إلى فتح قنوات التواصل مع هيئة تحرير الشام، لتعيد الدوحة تدوير إستراتيجيتها المعهودة مع الحركات المتشددة بأن تقدم نفسها كمخاطب ووسيط يتولى شرعنة دور هذه الحركات لدى الأميركيين والغرب عموما، ما يؤهل قطر لأن تلعب دورا تحت الطلب كما في ملفي أفغانستان وغزة.
وتواصل مسؤولون قطريون مع هيئة تحرير الشام، بحسب ما قاله مسؤول مطلع على المحادثات لوكالة فرانس برس الثلاثاء.
وقال المسؤول الذي طلب عدم كشف هويته في إشارة إلى محمد البشير، الذي يرأس ما يسمى “حكومة الإنقاذ” التابعة لهيئة تحرير الشام، “أنشأ القطريون أول قناة اتصال مع هيئة تحرير الشام.”
وفي حين لم يحدد المتحدث باسم وزارة الخارجية القطرية ماجد الأنصاري ما إذا كان التواصل قد تم مع هيئة تحرير الشام تحديدا، قال إن قطر “على اتصال بكل المجموعات التي كنا على اتصال بها دائما داخل الفسيفساء السورية.”
ويرى المحللون أن قطر لن تفكر في تحرك عربي جماعي يحد من اندفاعها إلى إعادة السيطرة على الملف السوري كما حصل في الحرب الأهلية السورية، وأن شراكتها ستكون مع تركيا ضمن عملية تخادم ثنائي تهدف إلى إنجاح خطط تركيا الأمنية والعسكرية وتسليم شركاتها مهمة إعادة الإعمار، والتمكين لمجاميع إسلامية تدربت بإشراف تركي وتم تسليحها وتجهيزها لتنفيذ الهجوم الذي بدأ نهاية نوفمبر الماضي واستهدف المدن السورية والسيطرة في نهاية المطاف على دمشق.
ويحذر هؤلاء من أن تأمين سيطرة الإسلاميين على السلطة في دمشق سيجعل القطريين يفكرون في إعادة تحريك موجة “الربيع العربي” ولو بأشكال مختلفة في دول عربية أخرى بما في ذلك التي فشل فيها “الربيع” الأول.
وبالإضافة إلى التنسيق الوثيق مع الأتراك لإنجاح “الثورة السورية”، من غير المستبعد أن يعمل القطريون على طمأنة إيران على مصالحها في سوريا بما في ذلك حماية الشيعة ومراقدهم، مقابل تهدئة موقفها المعادي لـ”الثوار”، وهو ما عكسته المحادثات القطرية – العراقية حول سوريا الثلاثاء.