ربى عياش
يقولون “كثرة الطباخين تحرق الطبخة”، وهذا ينطبق على الدول أيضًا. كثرة اللاعبين حرقت الشرق الأوسط. الأمر أشبه بفيلم هوليوودي، بدأت القصة في غزة ليتفاقم الصراع ويصبح مخطط إعادة تقسيم المنطقة بأياد أميركية وإسرائيلية وتركية وروسية وعربية، وباستخدام أدوات مصنفة إرهابية.
هذا المشهد شُوهد مرارًا في بقاع كثيرة، وهناك شواهد تاريخية عديدة تذكرنا بما نراه اليوم مما وقع في العصرين القديم والحديث.
بداية، من المهم التنويه بأني لا أدعم نظامًا ولا جهة، ولا أولي الطاعة إلّا للإنسان وللحرية والعقل والسلام والتوازن. أما الوحل السياسي فلا شأن لنا به. لذا، من المهم كسر القيود وتحرير الشعوب لذاتها. هذا من مبادئ حقوق الإنسان، لكن وأنت في طريقك للتحرر احذر أن تقع في جحيم جديد أشد ظلمة. وهذا ما يُقلق كثيرين اليوم في المشهد الحالي.
ما حدث مؤخرًا هو توجيه ضربات قاضية لمحور إيران. الأخطبوط الإيراني تم قطع أذرعه في المنطقة بأياد إسرائيلية – أميركية في المقام الأول. لكن هل حدث ذلك مقابل تحرير الإنسان؟ هل حدث ذلك للأسباب الصحيحة، وهل هيئة تحرير الشام تفهم معنى الحرية والديمقراطية والإنسانية والتعددية واحترام الاختلاف؟
* من المضحك المبكي، أيضا، أننا في 2025 مع كل التقدم التكنولوجي والعولمة والانفتاح الحضاري العالمي مازال هناك من يفضل فكرًا متطرفًا قاسيًا رافضًا للحياة.
إن الأمر يتعدى فكرة إن كنت تدعم النظام أو المعارضة. الفكرة تكمن في أن كل السيناريوهات الهوليوودية القائمة في الشرق الأوسط ليست من صنْع أهالي المنطقة؛ لا النص من كتابتهم ولا الإخراج وليد رؤيتهم وبصيرتهم. يجلسون منتظرين دائمًا جهة تقرر مصيرهم، وهم يهللون لقضاء طرف على آخر.
نعيش في نظام عالمي بُنيت أسسه ووضعت هيكليته بعد الحرب العالمية الثانية. بمعنى أن الشرق الأوسط بشكل خاص يعاني من تبعات نتائج هذه الحرب ويقاسي بسبب صراع الدول المنتصرة آنذاك؛ صراعها المستمر حتى يومنا هذا على تقسيم الغنائم بينها. أما أهالي الشرق الأوسط فمجرد ضحية، هم الطرف الذي يدفع ثمن صراعات الصقور، وليس من يخطّ التاريخ.
في العقود الأخيرة حاولت بعض الأطراف الأساسية المتصارعة تغيير النهج المتبع وقواعد اللعبة بتعظيم مكاسبها، وبسط سطوتها أكثر. كل طرف يحاول وضع قواعد نظام حسب رؤيته ومصالحه. لذا، لن يهدأ المشهد إلّا بعد حسم الصراع الدائر بينهم، عسكريًا وتكنولوجيًا وأمنيًا واقتصاديًا وسياسيًا، ثم ربما يتم ترسيم المشهد بشكل مغاير بما يعود بالنفع عليهم.
منطقة الشرق الأوسط لم تأخذ فرصتها تاريخيًا في تحديد مصيرها وعيش تجربتها الخاصة في إيجاد مشروعها الوطني الخاص بها، واختبار تجربتها الخاصة في تشكيل دولها، سياساتها، دساتيرها، أفكارها، مواطنتها، حرياتها واقتصادها، كما ترى “هي” مناسبًا لها. لطالما كانت هناك أطراف خارجية بمشاريعها الوطنية الاقتصادية السياسية الفكرية وأيديولوجياتها وأهدافها تفرض نفسها على المنطقة.
ما تعيشه المنطقة اليوم ليس وليد اللحظة، إنما هو نتيجة وخلاصة ما حدث في العقود الماضية؛ بمعنى حين فرق الاستعمار أهالي منطقة الشرق الأوسط على اعتبارات واختلافات دينية وإثنية وطائفية وحرص على إيجاد أزمات مستمرة بينهم. ومن اختلافاتهم صنع صراعًا على المصالح بينهم. ساهم في خلق تركيبة مجتمعات هشة داخلية، متصارعة على مدار الساعة، لا تتفق إلا على دمارها.
بتعزيز الجهات الخارجية لمثل هذا الفكر والثقافة، استطاعت لاحقًا أن تُنكل بأهالي المنطقة ببنيتهم الأخلاقية والفكرية، ثم كان من السهل القضاء عليهم وإعادتهم إلى عصور حجرية خلال أيام. إن هشاشة التعاضد الداخلي وغياب مفهوم الانتماء الوطني، والمصلحة العامة، واحترام الآخر، وغياب تعريف واضح للدولة والحريات والإنسانية والقيم المشتركة، وغياب اتفاق صامت بينهم بشأن الأخلاقيات، واستشراء الفساد في هذه الدول على مدار عقود طويلة، كان سببا في الزج بأهالي الشرق الأوسط في جحيم دائم.
* تحرر الشعوب أمر ممتاز، ونتمنى لها التحرر والاستقلال التام اليوم قبل الغد، لكن ما يحدث أبعد من فكرة تحرير الشعوب من ظلماتها
قال أينشتاين يومًا “إن الإله لا يلعب النرد،” وأنا أقول “إن الولايات المتحدة لا تلعب النرد،” بل تفرض نظامًا عالميًا قائمًا على بصيرة قطب واحد. تعي تمامًا ماذا تفعل في الشرق الأوسط، قسمته، وأسقطت سقف المنطقة على رؤوس أهلها. أسقطوا بغداد وتركوا فراغًا يسمح للميليشيات الإيرانية بملئه، وبعد سقوط ليبيا تركوها في حلقة مفرغة من الصراعات السياسية، بعد سقوط كابل في أيادي طالبان انسحبت واشنطن منها بيسر وسهولة تاركة أفغانستان مظلمة ومتخلفة ومتحجرة يحكمها من لا أهلية لهم في الحكم.
الولايات المتحدة بدولها العميقة استثمرت في الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط، خلقت القاعدة وداعش وطالبان لتدمير الأمة؛ واشنطن هي من خلقت القاعدة بدعم من الاستخبارات الباكستانية لمحاربة الشيوعيين لإسقاط السوفييت، باعترافات من مسؤوليها وعلى رأسهم هيلاري كلينتون. واشنطن ذاتها التي خلقت داعش ودمرت العراق وسوريا. يقول ترامب في تصريحاته إن أوباما والحزب الديمقراطي مسؤولان عن خلق داعش.. والأهداف مازالت كثيرة، ومخططاتها متشعبة وكبيرة، بينما أهالي المنطقة يصفقون.
لكن يصفقون على ماذا؟ شرذمة المناطق أم الدمار الذي حل بهم أم الحروب الأهلية التي تنتظر المنطقة والصراعات التي لن تهدأ وليس مقدرًا لها أن تهدأ. هل يريدون استنساخ تجربة طالبان في بلاد العرب؟
أعود وأسأل: الولايات المتحدة وأبناؤها وحلفاؤها كان لديهم هدف واحد هو القضاء على أذرع إيران بالمنطقة، أليس كذلك؟ جميل جدًا، نتمنى لهم القضاء على أدواتهم في المنطقة أيضًا. ألّا يستبدل الإيراني بالداعشي ولا يستبدل الظلم والقهر والاستبداد بفوضى وفراغ وصراعات لا تنتهي، يفتح شهية الإرهاب للتمكن من مفاصل المنطقة.
وفي رواية أخرى، يُقال إن السلطان العثماني ينتشي الآن، وربما ستتفتح شهيته على تحقيق المزيد من الأحلام لاحقًا، هكذا يقول البعض. إن العثماني قابع في ليبيا، فلم لا وأدواته أصبحت بمنتصف دار العرب!
◄ ما حدث مؤخرًا هو توجيه ضربات قاضية لمحور إيران. الأخطبوط الإيراني تم قطع أذرعه في المنطقة بأياد إسرائيلية – أميركية في المقام الأول. لكن هل حدث ذلك مقابل تحرير الإنسان؟
تحرر الشعوب أمر ممتاز، ونتمنى لها التحرر والاستقلال التام اليوم قبل الغد، لكن ما يحدث أبعد من فكرة تحرير الشعوب من ظلماتها. نخشى أنهم يخرجون من نفق لدخول نفق مظلم أكثر. من المضحك المبكي أن أحزابًا متطرفة كالقاعدة وداعش بفكرها المتخلف المتردي مازالت تجد بيئة حاضنة وأهالي قادرين على تفضيلها واختيارها بالرغم من كل المآسي التي حدثت بسببها.
من المضحك المبكي، أيضا، أننا في 2025 مع كل التقدم التكنولوجي والعولمة والانفتاح الحضاري العالمي مازال هناك من يفضل فكرًا متطرفًا قاسيًا رافضًا للحياة. إن هؤلاء يقودون بالعسر لا باليسر، دستورهم الرعب والقوانين الصارمة وعدم احترام الإنسان والآخر والتعددية. مهما حاولت واشنطن تجميل صورتهم وتلميع وجوههم، يبقى الظلام ظلامًا.
إن رفض مثل هذه الفصائل بأفكارها المرعبة لا يعني القبول بالخنوع وتعزيز سلطات فوضوية استبدادية هشة جائرة. إنما يكون بالمحاولة في إيجاد بديل صالح بدلًا من الفوضى المستمرة وسحب المجتمعات إلى المزيد من الهلاك والظلمات الفكرية والثقافية والأخلاقية. على الشعوب التحرر من ظلماتها وبصيرتها المشوهة بدلًا من الاستمرار في تقديم الطاعة لجهات مختلفة.
لكن، لا حياة لمن تنادي. تحاول أن تصرخ ليل نهار تقول إننا نقبع في الجحيم ولا مخلص لنا إلا ذواتنا بعقولنا وفكرنا وتطورنا وحضارتنا، لكن لا أحد يستجيب. نقول المستيقظ منا فليوقظ النائم، الواعي منا فليحاول قيادة المركب، لكن دون جدوى. ربما اعتاد أهالي المنطقة نار الجحيم فاعتقدوا أنها ضوء في آخر النفق. على أي حال، يبدو أن هذه حرب الخطيئة، وربما لا مفر منها. هذا الصراع الذي سيغير مصير الإنسان في الشرق الأوسط إلى الأبد.
نفلا عن العرب