طارق أبو السعد
كاتب مصري
في الآونة الأخيرة ثار جدلٌ ديني واسع في مصر حول حادثتي الإسراء والمعراج، شاركت فيه أطراف عدة ما بين إعلاميين ووعّاظ رسميين وكتّاب وغيرهم، بدأ من الإعلام ثمّ انتقل إلى عالم السوشيال ميديا، حتى وصل إلى أحاديث العائلة في البيوت وفي المقاهي الشعبية.
لم تكن الأزمة في الحديث حول العقيدة أو السلوكيات الإسلامية بشكل عام، بل في طبيعة التناول ذاته، وقد بدا واضحاً للعيان انتشار حالة التعصب الأعمى والدوغمائية الشديدة بين العديد من طبقات المجتمع، والتي لم تكن موجودة بهذه الدرجة.
التاريخ يخبرنا بمعارك فكرية وثقافية وتنويرية خاضها كتّاب ومفكّرون، واجهوا فيها موقفاً متشدداً من القوى الأصولية، فهناك الإمام محمد عبده، وأحمد لطفي السيد أستاذ الجيل، والدكتور طه حسين عميد التنوير وعدو الظلاميين، ولحق بهم توفيق الحكيم ويوسف إدريس، صحيح لم تكن معاركهم سهلة، ولم يكن خصومهم مسالمين ولا متسامحين، إلّا أنّهم لم يكونوا بتعصب وتهوّر الجيل الحالي، ربما لأنّ المجتمع وقتها كان يؤمن بالتعددية وبالحرّية في عرض الرأي والرأي الآخر، ويوفر الحماية لأعضائه، ولم يكن هناك من يقبل بالتهديد بالقتل للمخالف أبداً.
إنّ ما حدث مؤخراً من جدال وصراخ وتهويل، وردّ وردّ مضادّ، وتهديد بالقتل ورمي بالردّة والتكفير، قد يكون نتاج أزمة العقل المتدين الذي يميل للتعصب والشخصنة والتسطيح، والذي يسهل استثارته وتهييجه، ومن ثمّ يمكن استخدامه في أغراض تدميرية تخريبية تحت شعار الدفاع عن الدين، وقد يكون نتيجة طبيعية ومتوقعة لمعركة التنوير التي تمّ تأجيلها منذ منتصف القرن الـ20، وحان وقتها، وربما هي معركة مصطنعة لفتح الباب الملكي لعودة التيارات الإسلاموية للعمل العام، بعد تخويف المواطن البسيط أنّ ثمّة مخاطر على عقيدته وعلى الإسلام بعد تحطيم خط الدفاع الأول المتمثل في الجماعات الإسلاموية.
قبل الإجابة عن سؤال لماذا نجح المتطرّفون في شحن المجتمع ضدّ أيّ فكرة جديدة؟ من المهم توضيح أنّ قيادة الجدل كانت بيد السوشيال ميديا، وأنّ المتعصبين يسيطرون عليها بشكل مؤكد، ومن يمتلك العالم الافتراضي، يسيطر على عقول المتابعين له، فيمكنه أن يحرّك الجماهير ويثير غضبهم، عبر حملة ظاهرها الدفاع عن الدين، وباطنها تأجيج الصراعات الداخلية ونشر الكراهية، كما ظهر بشكل جلي تأثر فئات متعددة من المجتمع بهذه الحملات، سواء كانوا شباباً أو شيوخاً، أو عواماً أو مثقفين، ممّا يعني أنّ الحملة مرتبة ومنظمة، وقد سبقها شحن الجماهير ضد “عمل فني” بزعم تهديده لقيم المجتمع، حتى أنّهم ثاروا اعتراضاً على اسم مسرحية (المومس الفاضلة) للكاتب الفرنسي “جان بول سارتر”، وأجبروا القائمين على العمل على تغيير الاسم، وغيرها من الموضوعات التي تمّ الزجّ بالجماهير فيها فخاضوا معركة غاب فيها صوت العقل، فنحن أمام وسيلة تحتاج إلى وعي في استخدامها، أو على الأقل للانتباه لتأثيراتها السلبية في حياة المواطنين.
تبدأ الحكاية مع مطلع القرن الـ20 ونشوء حركة التنوير، التي طرحت موضوعات ذات قيمة حول الإنسان والدولة والمجتمع والدين، ثمّ فجأة ظهرت الجماعات الدينية بأصوليتها وماضويتها، وخطابها الديماغوجي، حتى وقفت كحائط صدٍّ ضدّ التنوير والتفكير والإصلاح، ولضمان نجاحهم في مهمتهم قاموا ببناء العقل المتدين على (3) أسس: الأوّل مناهضة المنطق والعقل والتفكير والاكتفاء بالنقل، فأحيوا مقولات ابن تيمية، الذي لا يؤمن بالعقل ولا بالمنطق، ويعتبر المنطقيين والعقلانيين مناهضين للدين، ويعتبرهم خطراً على العقيدة الإسلامية وعلى أساليب التفكير عندهم، وأنّ الدين لا يؤخذ بالعقل، بل بالنقل، وأوضح ذلك في كتابه (الردّ على المنطقيين)، ومن ثم أوهموا الجماهير أنّ المنطق والعقل بالضرورة ضدّ الدين، كما قاموا بنشر قول بن الصلاح: “وأمّا المنطق، فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه ممّا أباحه الشارع، ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسلف الصالحين”.
الثاني: الإيمان بنظرية المؤامرة على الإسلام، تلك النظرية تفترض أنّ العالم “من غير المسلمين” كلّه كفار يحملون مشاعر الحقد والكره على الإسلام، وهذه النظرية تمّ تدعيمها والتأكيد عليها في كثير من خطب الوعّاظ الرسميين ومقالات الكتاب الاسلامويين، الذين استفاضوا في شرح المؤامرة، وأسهبوا في كشف أبعادها والمشاركين فيها، ومن أمثلة ذلك كتاب أنور الجندي “المؤامرة على الإسلام”.
خطورة الإيمان بالمؤامرة البقاء في دائرة العجز عن التغيير نظراً لأنّ كلّ هزيمة يتمّ تفسيرها على أنّها من هذا الباب، وبالتالي كلّ فكرة وكلّ تطور ينظر إليه على أنّه ضمن المخطط العالمي لهزيمة المسلمين.
الثالث: وضع منظور ماضوي يحكم على الأفكار والسلوكيات، هذه الماضوية عائق شديد نحو التطور ونحو قراءة المستقبل، فهي شكل من أشكال الهروب والاغتراب عن الواقع، وهي مرض مجتمعي يسمح للماضي بجموده الانتصار على الفكر المعاصر بتجدده وحيويته.
وأمام الزعم أنّ هذه الركائز الـ(3) هي الطريق الصحيح والوحيد لفهم الإسلام، والذي بدونه سيضيع الدين وتتحطم العقيدة وينتشر الإلحاد والفسق والفجور، تحوّل العقل المتدين المرن الذي يسمح بقبول الآخر والاستماع له وتفهم موقفه، إلى عقل متدين متعصب متشدد، وأكثر تصلباً في الحياة الاجتماعية والفكرية والسياسية والدينية، ومن ثمّ أصبح العقل الجمعي المتدين العربي جاهزاً وجدانياً لمهاجمة الأفكار المنطقية أو المتجددة أو الإصلاحية بكلّ الوسائل الممكنة ولو كانت القتل، فتكوّنت القابلية للاحتراب الداخلي تحت زعم الدفاع عن الدين والعقيدة.
وخطورة هذا المنحى أنّه يؤسّس لشرعنة الاقتتال لمجرّد اختلاف وجهات النظر، ويكفي فقط تهييج الرأي العام ضدّ قائله، واتهامه بأنّه يحارب الإسلام، شهد المسلمون هذا في تاريخهم كثيراً، فقد ضُرب الطبري وحوصر في بيته نظراً لتهييج العامّة ضدّه، بل مُنع من أن يدفن في مقابر المسلمين، ومُنع الناس من الصلاة عليه، وضُرب النسائي ومات متأثراً بجراحه.
وهناك حكايات شهيرة عن ضرب المالكية للشافعي في المسجد بعد انصراف الناس، وما يُحكى عن حرق الأسواق واقتحام مساجد الأحناف من قبل الحنابلة مشهور.
إنّ إعادة إنتاج العقل المتدين المتشدد المتعصب المتجمّد في العصر الحالي أعاد المعارك نفسها، ربما أكثر وحشية وعلى نطاق واسع، لهذا وللأسف أصبح إرسال أيّ رسالة تنويرية أو إصلاحية تجديدية عملاً محفوفاً بالمخاطر، دفع البعض للتوقف عن إبداء الرأي خشية ردّ فعل الجماهير الغاضبة أو المستغضبة، أو دفع البعض الآخر لنفاقهم والتماهي معهم ليُحملوا على الأعناق، وليتحوّلوا إلى أبطال مدافعين عن الإسلام، الموقفان كلاهما كانا سبباً كبيراً في نشر ثقافة التعصب والتشدد والجمود الفكري.
للتعامل مع هذه الظاهرة ومعالجتها بشكل منهجي، علينا أن نؤسّس لعقل متوافق مع المنطق، ومتفهم للقواعد العلمية، وأن يؤمن بعدم تعارض العلم مع الدين، عقل قادر على الحوار والنقاش وعدم الانسياق وراء سلوك الحشد والغوغاء.
هذا التأسيس ليس بمحاضرة ولا ندوة ولا مقال، بل بأعمال فنية وأدبية، البدء بحوار مجتمعي حول العلم والدين، واحترام العلم وتقديس الدين، نشر ثقافة احترام الآخر، ونبذ التعصب باعتباره سلوكاً شائناً لا علاقة له بالدين، يغضب الرّب ولا يرضيه، البدء في التخلص من الحكايات الخرافية من تاريخنا، والكفّ عن الصراخ والتهديد في أيّ حوار، مع التوسع في تعليم وتدريب الأجيال القادمة على أدب الحوار وقواعد الاختلاف، والتدريب على الردّ المنهجي، والتوسّع في دراسة المنطق، وشرح كيفية عمل العقل، وما هي العمليات العقلية العليا، مع تدريس بعض العلوم التي تحتاج إلى استخدام المناهج الوصفية والتجريبية والتاريخية، وتعليمهم أسسها بشكل صحيح، ربما يمكننا تدارك ما فاتنا وما خسرناه بسبب التيارات الإسلاموية وما زرعته فينا.
نقلا عن حفريات