وسام العبيدي
كاتب عراقي
لا أخفي ضيق الكثير من مثقّفينا حين يستمعون إلى أحد (المتأسلمين) ممّن يُنادي بأصالة مفاهيم مثل الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان إلى المنبع الإسلامي، وتلمّس حقائق معانيها داخل المنظومة الإسلامية، فهم ـ المثقفون- يرون أنّ هذا ما هو إلا ابتسار للحقائق، بدعوى أنّ هذه المفاهيم لم تولد إلا في الحاضنة الغربية، فلا يُمكن بحال مصادرة الجهد الفكري لأولئك المفكّرين الذين اجترحوا مثل هذه المفاهيم (الحرية، الديمقراطية،… إلخ)، بل وأكثر من ذلك، تلك الصورة التي يُشيعها أمثال أولئك العيال على الثقافة بمعناها العميق القائم على الدراية والخبرة لا الاطّلاع السطحي على سائر المعارف، بجعل النص الديني مُحارباً بامتياز لهذه المفاهيم، يقوم على خنق كل ممارسة تدعو إليها تلك المفاهيم..!
ولا نريد أنْ نُعلِن الحرب لا على هؤلاء أو هؤلاء، فبحسب ما خبرته أنّ كلا الطرفين مقصّرٌ في موقفه إزاء نفسه وإزاء الآخر، فمن يدعو إلى مُطلقية الانكفاء على الجهد الفكري لدى الغرب، يُمارس إجحافاً بحق المنجز الفكري العربي الذي لم يجد من يحتضنه ويرعاه، فضلاً عن الالتفات إليه، فقد مارست أكثر الحكومات الجائرة ظلمها بحق العلماء والمفكّرين، فكانت لهم ولمنجزهم حرباً لا هوادة فيها بمجرّد أنْ يُشمّ رائحة المعارضة أو النأي عن التقرّب إلى أرباب السلطة بأيّ سبب، فيلقى العالم كل البلاء من أولئك، فيضيع ثمين منجزه الذي عكف على رعايته، في الوقت الذي يجد من يتلاقفه من علماء ينتمون إلى ثقافة أخرى ودين آخر، فيكملون مسار تلك الأفكار، ويضعونها في أطرها الموضوعية؛ فتأخذ لون تلك الأجواء، حتى يتبيّن للناظر أنّها ابنة تلك البيئة، فتعكس للرائي على كل حال جهدَ أولئك القوم، بما يُوحي أنّهم سادة العالم فكراً على نحو التأثيل الاصطلاحي أو تكييفها تطبيقيّاً على أرض الواقع.
ويأتي المثقفون المبهورون ببهرجة تلك الثقافة؛ ليصفّقوا لمنجز الغرب، وليُبشّروا بما لديهم من تبحُّرٍ في ميادين العلوم والمعارف الإنسانية جمعاء، وليجعلوا ذلك النتاج سبباً لرقيّ البشرية، وطريقاً لخلاصها من مشاكل الحياة وإشكالات العلوم كافة، في حين لم يقم ذلك النتاج إلا بتوظيف الوارد إليه من الآخر، ولا فضل لهم إلا في إلباسه الثوب العصري البرّاق.
ومثل أولئك المثقفين لم يحرصوا على متابعة الجذور المعرفية لتلك الأفكار، ولم يُكلّفوا أنفسهم عناء ذلك البحث، لذلك يقمعون جهلهم بذلك الانشداد الأعمى لما عند الغرب، علماً أنّ الأفكار قد تكون واحدة من حيث المفهوم، لكنّ الظروف الموضوعية تأخذ أثرها في مُراعاة السياق الزماني والمكاني، فضلاً عن المجتمع الذي تنشأ فيه الفكرة، وكيفية توظيفها فيه، كل ذلك يأخذ دوره في إظهار فكرة مختلفة عن أخرى بحسب القشرة الخارجية، أمّا المضمون، فقد تجده نفسه، أو مختلفاً بدرجة ضئيلة لا تدعو إلى كل ذلك التهويل الذي يصنعه أولئك المتشدقون من أنصاف المثقفين، إنْ صح فيهم ذلك الوصف.
وفي الجانب الآخر تجد أولئك الداعين إلى تأصيل كلّ الرُؤى من القرآن، لم يُتعبِوا أنفسهم ببذل الجهد المعرفي لكشف أصالة تلك المُدّعيات من قبل أنْ يُلتَفتَ إليها من الغرب، ولا يخفى اتّساع الشرخ النفسي الذي يتوارى خلف مثل هذه الدعوات، فهي لعدم ثقتها بما لديها من معين تراثيّ، تهرع دائماً إلى ما عند الآخر، وتُحاول أن تحيله ظلاً من ظلال تراثها، وهذا ما يعبّر عن خوفها من الآخر إلى درجة استلاب الوعي بالحاضر، والشعور بالانهزامية من الآخر، فتحاول عبر تلك التأويلات أن تردم الفجوة النفسية التي تُعانيها شعوب الدول العربية، وهذا ما يعكس ضيق ذرعِها بما لديها من تراث غنيّ، لا تعرف كيف توجّهه، ومن ثمّ تكييفه ليكون زاداً يغذّي عصب حياتها، “وما زاد من رسوخ هذه الظاهرة أنّ المؤسسات الدينية فرضت على المؤمنين والمؤمنات خاصة تفسيرات تخدم مصالحها، بحيث إنّه بقدر ما يضع المؤمن فيها من نفسه تصبح قويةً وغنيةً على حسابه، فيُعاني العجز والفقر في لبّ وجوده المعنوي، وحتى في نظرته إلى حياته ودوره في صنع تاريخه، وثمّ أصبح الشعب يعيش بلا تاريخ كي يكون للسلطات السياسية المتحكّمة تاريخها الحافل بالأمجاد” [الاغتراب في الثقافة العربية ـ متاهات الإنسان بين الحلم والواقع، د. حليم بركات: 28]، فضلاً عمّا تحويه هذه النظرة من استخفاف بالآخر، بأنّه لا يملك من بذار التفكير المُنتِج للمعرفة، في أيّ حقلٍ من الحقول، على أنّه لو بحثنا في مأثورنا الإسلامي، لوجدنا فيه ما يُؤشّر إيجابية بعض القيم والأعراف في مجتمع لم يستضئ بنور هدي الإسلام.
وما استعرضناه الآن يؤكّد أنّنا لا نبخس حق الغرب في تقدّمهم في الإنجاز العلمي والفكري، “فقد نشأ العلم في الغرب، أي العلم كنظام للمعرفة المقبولة اجتماعيّاً، عندما بدأ الباحثون يُشكّكون في صحة المعارف اليقينية والنظرية الجاهزة.
ثمّ عندما ألغوا مفهوم المعرفة اليقينية المُطلقة، واستبدلوه بمفهوم المعرفة الموضوعية، أي التي تأخذ بالاعتبار مجموع الشروط المكوّنة للفعل المعرفي، مع السعي إلى استبعاد البعد الذاتي والفردي أكثر ما يمكن.
وما كان للعلم الحديث أن ينشأ لو استمرّ الغربيون في إسناد معلوماتهم إلى النُظُم المعرفية التي ورثوها عمّن سبقهم.
بل إنّ الأصل في نشوء العلم هو هذه الفكرة البسيطة التي تقول إنّ الكافل لصحة معلوماتنا ومعارفنا عن الواقع لا يمكن أنْ يوجد في هذه المعلومات والمعارف، قديمة كانت أم حديثة، وإنّما في التجربة. فالتجربة هي معيار صحة المعارف التي لدينا، ولا يمكن أن يكون هناك معيار آخر يفوقها أو يحلّ محلها، وهذا يعني أنّه يجب أن يُعاد النظر في كلّ معارفنا على ضوء التجربة، وأنّه ليس هناك معارف مقدّسة مسبقاً، وكان هذا الموقف النظري الجوهري هو الذي فتح آفاقاً لا تنتهي أمام العقل، أمام المراجعة وإعادة النظر” [اغتيال العقل ـ محنة الثقافة العربية بين التبعية والسلفية، برهان غليون: 187].
وقد يتحسّس بعض المتحمّسين للدين من كلام الدكتور برهان غليون آنف الذكر، ولكنّي لا أجد فيه أيّ تحامل على الدين، فهو يُشخّص العيب الذي يقع فيه الكثير من المتديّنين الذين يتخوّفون من كل ما يُشمّ منه رائحة خلخلة الثوابت، أو إعادة فحص التراث بعين الحاضر، بما يُثبت صلاحية الفكر من عدمه من خلال التجربة، وهذا ما ينطبق والتوجيه القرآني الكريم، الذي يحثّ الناس على التعلّم، واقتفاء خطوات العلم عبر التجارب، وعدم الركون إلى المسلّمات الجاهزة، فقوله تعالى: “وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا” [الإسراء: 36] وفي (4) آيات في القرآن الكريم، أشارت إلى منطق المعاندين ممّن لا يتقبّلون الحقّ، بتغيير معتقدهم، ويؤثرون البقاء عليه مهما سطعت الدلائل على ضلال ما يعتنقون، لذلك يحتجّون بأنّهم على دين آبائهم، وهذا ما ينطبق على حالة أولئك المتشدّدين أيضاً، حين يعكفون على ما عندهم من فكر، ويُقنعون أنفسهم أنّه لا حقّ يعلو على ما عندهم..! وهو فعلٌ لا يصدر ممّن فقه الدين ووعاه، بل هم والكافرون سواء في هذه الناحية، التي من شأنها أن تجعلهم عبيد قوالب وأشكال نمطية ألفوها وراثةً عن آبائهم، من دون أنْ يُتعبوا أنفسهم ويحترموا ذواتهم الإنسانية، بالتثبّتِ منها، أو مساءلتها على ضوء العلم والتجربة.
على الرغم من تخوّف بعض المجتمعات من كون (العلم والتجربة) وسيلة لقمع الحرية من جهة أخرى، إذ “كلما تقدم العلم في ميدان يتعلق بالعمل البشري وبالمبادرة الفردية، تخوّف الإنسان من أنْ تعطي الاكتشافات الجديدة للبعض وسائل التحكم في إرادة البعض الآخر” [مفهوم الحرية، د. عبد الله العروي: 117]، بما يثبت خطأ الفكرة القائلة إنّ العلم هو الوسيلة لتحرير الإنسان من قيود الطبيعة، ولكنّ التجربة أظهرت إمكانية أن يكون العلم وسيلة لمحاصرة الحرية ومن ثمّ القضاء عليها.
وهذا التشبّث بأهداب التراث من دون فحص مكوّناته وإعادة النظر فيه من جانب المبهورين فيه حدّ التقديس، أو من الذين ركنوه جانباً ولم يرفّ لهم جفنٌ على ما فيه من كنوز جحوداً ونُكراناً، يمثّل فارقاً أساسيّاً بين أمّة العرب، وبين الغرب، فتجد “أنّ الغرب استوعب تراثه وهضمه وابتكر ما هو أرقى منه، فكان من المبرّر له الانشغال بالحداثة على حساب التراث، ثمّ إنّ الماضي القريب عند الغرب ليس هو الماضي الذي يعتزّ ويفتخر به، فمجده المظفر هو ما حققه في القرنين الأخيرين.
بينما نحن لم نستوعب تراثنا ولم نهضمه، ولم نحاول اكتشافه والتعرف عليه” [الإسلام والحداثة ـ من صدمة الحداثة إلى البحث عن حداثة إسلامية، زكي الميلاد: 51]، وهنا تلتبس عدة أغراض للنهوض بالواقع الذي يعيشه الإنسان المسلم الذي لا يريد النهوض من رقدة الاحتماء بالتراث أمام التحديات الخارجية، “فأصبح الماضي هنا مطلوباً ليس فقط من أجل الارتكاز عليه والقفز إلى المستقبل، بل أيضاً، وبالدرجة الأولى، من أجل تدعيم الحاضر، من أجل تأكيد الوجود وإثبات الذات” [إشكاليات الفكر العربي المعاصر، د. محمد عابد الجابري: 26]، وهو موقف مزدوج يكشف مدى العوق المعرفي الذي يُعانيه المسلم في تخوّفه من الآخر، أو استلاب وعيه وانجرافه لما عند الآخر، ولا يمتّ بصلة إلى الموقف الصحيح الذي يريده الله منّا في محكم كتابه العزيز وسُنّة نبيه الخاتم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومأثور أئمة أهل البيت الصادقين الذين كانوا طيلة حياتهم مناراً للعلم ومحلّ اجتماع العلماء على اختلاف مشاربهم الفكرية وتنوّعهم الديني والمذهبي، فلم يأنفوا من حوار أيّ جهة من هؤلاء، أو يرفضوا الجلوس مع من يُخالفهم بالرأي، ولم يُبالوا بمن يؤاخذهم على ذلك، كما نجده عند بعض أولئك المتشدّدين حين يؤاخذون أحد العلماء العاملين أنّه جلس مع فلان من علماء ذلك الدين، أو حاور فلاناً من فقهاء ذلك المذهب (المخالف) وهم يروّجون في تلك المؤاخذات أنّه بمجرّد الجلوس مع أولئك كان الاعتراف بهم خصماً يستحقّ المناقشة، في حين تصبو نفوسهم لرفع ذلك الاعتراف عنهم بعدم الجلوس معهم فضلاً عن نقاشهم، إمعاناً في الاستخفاف بالآخر، وتبخيساً لمقام الآخر في عيون مُريديه، حين يُهمّش بهذه الطريقة المنافية لأبسط آداب الإسلام.
وعبر ما استظهرناه من أدلّة، نجدها كفيلةً بإثبات ما أردنا الوصول إليه، من ضرورة فتح منافذ الحوار، والاطّلاع على فكر الآخر عبر تلك المناقشات الحُرّة، التي لا يُخاف منها بقدر ما تركّز البُعد الخلّاق في الحوار المُنتِج، وتُسهم في ترصين الجانب المعرفي، بفضل تلقيحه بمدارك متنوّعة المشارب، لنستلهم منها الجديد الذي لا يقف عند حد بقدر ما يكون نابعاً من حاجة العصر، وملبّياً لمتطلّبات المرحلة بما فيها من إشكالات نابعة من واقع مأزوم بالتحدّيات.
وأجد أنَّ الخوض فيها لا يستلزم منّا مواجهتها بصرامة، بقدر ما يكون التعاطي لها نافعاً للبحث عن حقيقة مفهوم (الحرية)، ذلك المفهوم الذي يُشكّل عصب الفكرة التي نحن بصددها، وأرى أنّ استلهام الفكر الحرّ جديرٌ بوضع أجدى السُبُل نفعاً في الوصول إلى ما يرضي الحقيقة أيّاً كان مرماها.
نقلا عن حفريات