قادري أحمد حيدر
للحب تعريفات عديدة، ومعان مختلفة، ومع أنها التعريفات والمعاني المتعلقة بالحب كما تبدو في الظاهر لها صلة فقط، بالقلب، وبالعاطفة والوجدان الإنساني الخاص بكل حالة وظاهرة على حدة، فإن لها – في تقديري – علاقة كذلك، بالفكر وبالفلسفة، وإلا كيف نفهم ونفسر ظاهرة الفكر الصوفي الفلسفي، والحب الصوفي الإنساني/ الفلسفي, بل والمتعدد الأشكال عندهم، كما هو في فكر ونظرات الصَّوفة الكبار .. الحب حالة خاصة وعامة، أي حالة إنسانية لا يتحلل منها إلا الوحوش الأدمية، وهنا تتساوى مع الحيوانات المفترسة في الغابة، وهناك في الحياة، حب المرأة، إلى حب الأولاد، إلى حب المال، إلى حب السلطة، وهو أسوأ اشكال الحب، حتى الحالة الذاتية “النرجسية”, للحب المتمثلة في الحب المتطرف للذات.
وللفقيه والعلامة، ابن حزم، في كتابه (طوق الحمامة)، تعريفات وتفسيرات رومانسية وفكرية وحياتية إنسانية عديدة للحب، حب المرأة وحب الإنسان في الإجمال لما حوله، وللصوفية في صورهم المختلفة تعريفاتهم للحب، ومراتبه ودرجاته، وهي في الغالب مرتبطة بحب الذات الإلهية، كما يراها وينظر لها المتصوفة، تصل للقول، عند بعضهم، بوحدة الوجود، وبالحلول، والاتحاد بالذات الإلهية، وفي إشعارهم العديدة من هذه التمثلات والتجسيدات التي تقدمها نصوصهم الشعرية وخطاباتهم الفكرية حول حب الذات الإلهية، وهي مرتبة سامية خارقة ومتجاوزة لمفهومنا للحب المتعارف عليه في علاقاتنا الاجتماعية الإنسانية، كما هي مع بعض شطحات الوجد الصوفي عند بعضهم ومع بعضهم وهو ذاته ما أراه في حب البعض ولكنها مسقطة أو نازلة للبشرى/ الأرضي في صورة حبهم لأوطانهم الذي يصل حد التضحية بالذات لصالح الوطن، والدفاع عنه حد الذوبان في ذرات أرضه، في التوحد بالمعنى والمفهوم الكلي للذات الوطنية، وهي حالة ذاتية بشرية من الاتحاد والحلول، اتحاد وحلول الذات الفردية الشخصية الإنسانية، بالذات الوطنية بغية جعل الوطن “الأرض والإنسان”، في أبهى وأسمى حالاته على الأرض، وليس في السماء، ومع السماء، حب ذاتي/ واقعي، قيمي/ أخلاقي إنساني، لا تكتمل فيه الذات البشرية في صورتها المثلى الإنسانية إلا باكتمال تماثلها أو توحدها بصورة المثال الاخلاقي والسياسي الوطني على الأرض، “الأرض والإنسان”، كقيمة إنسانية كلية، حب سعى ابن الصريمي جاهداً من خلاله لتعميم نشر حالة الخير العام على الأرض، “عدالة وحرية”، لكل أبناء المجتمع/ الوطن، حيث الذات الفردية الفاعلة، الذات الوطنية، لهذا الفرد أو ذاك، أو تلك الجماعة، لا يكتمل معناها وصورتها في الواقع إلا بأن تكون هيئة الوطن هي الأرفع والأسمى والأقدس، وهي حالات نجد نماذجها في العديد من الصور والنماذج في السياق التاريخي الإنساني اليمني، والعربي والعالمي، من الخليفة العادل، عمر بن الخطاب، إلى الإمام الحسين بن علي، إلى زيد بن علي، إلى خالد بن الوليد، إلى الحلاج الشاعر والثائر والفيلسوف، وابن عربي، إلى صلاح الدين الأيوبي، إلى جيفارا، وعلي عبدالمغنى، ومحمد مطهر زيد، وعبد الفتاح إسماعيل، وسالم ربيع علي، وعبدالرقيب عبدالوهاب، وعبدالنبي مدرم، وعبود، وصالح الرحبي، إلى عبدالله البردوني والمقالح، والثائر أبداً، عمر الجاوي، وعبدالله باذيب، وصولاً إلى سلطان الصريمي الإنسان والشاعر، المقاوم بالكلمة حتى أخر نفس.
سلطان، عاشق الفرح الممتلئ حباً لكل من حوله، ولذلك هو بالفعل حالة حب ، وجميعهم حالات ونماذج فيها تجسيد لمعنى ومفهوم البطولة في عمقها الإنساني الخالد.
جميعهم حاول أن يجعل من الحب طريقاً إلى تقدم مجتمعاتهم، أوطانهم / بلدانهم هدفهم الاستراتيجي، وهم من يمكنني أن أسميهم المثقفين العضويين الثوريين، الملتحمين بقضايا شعوبهم وتقدم مجتمعاتهم، وهم الذين بالفعل يقترب حبهم لأوطانهم من الحب الصوفي الثوري والانساني، الذي يوحد الأرضي، بالسماوي ،ويجعل من الإنسان الفرد، سيداً على أرضه.
حب يجمع بين العقل النقدي الثوري (التغييري)، وبين القلب والعاطفة، فالحب على أي مستوى كان ، حب للأرض، أو للسماء، أو حباً للمرأة أو للصديق. لا يكون ولا يكتمل إلا ضمن جدل ثنائية العقل والقلب ، فحتى التفكير الفلسفي الذي يبدو مجرداً، ينطوي بين ثناياه على معنى وبعد عاطفي، روحي، وإلا خلت الفلسفة من عمقها الوجودي الإنساني، ولذلك ستجد البعد الفلسفي والعقلاني حاضراً في تجلياته الإنسانية في نصوص جل الشعراء من امريء القيس، إلى أبي فراس الحمداني، إلى فكر غيلان الدمشقي، وشعر وفكر ابن عربي، وصولاً إلى شعر عبدالرحمن فخري، والسياب، والبياتي، وسعدي يوسف، وعبدالله البردوني، والمقالح، وجرادة، وإدريس حنبلة، وجنيد محمد جنيد ، وعبدالودود سيف، وشوقي شفيق، وعبدالكريم الرازحي، وسلطان الصريمي، ذلك أن الفلسفة هي في الأصل حب، ليس حب المعرفة وحب الحكمة، فحسب بل وحب للإنسان الفرد، لرؤيته في أجمل وأسمى صورة الحياتية الإنسانية، ولذلك فالحب فكرة وعاطفة، وفلسفة، وفي أشعار سلطان الصريمي تجد ظاهرة الحب وحالة الحب هي الأعمق حضوراً في نصوص كلماته/ قصائده .
يمكننا تصور الحياة بدون أشياء كثيرة في حياتنا الخاصة، بدون مال، بدون سلطة، وحتى بدون أولاد ولكن من غير الممكن تصور الحياة بدون الحب، وبدون الوطن، ذلك أن الحب والوطن، وجهان لعملية حياتية إنسانية واحدة، وهو ما تقوله جل نصوص سلطان الشعرية، وهو ما نجده متجسدا ومتمثلاً في سلوكه الحياتي اليومي، في علاقته بالناس من حوله.
كان سلطان، حالة حب في جميع تفاصيل حياته، في الشعر، وفي الحياة اليومية، حتى وهو يمارس السياسة يكون فعل الحب حاضراً، يجعل من الفعل السياسي الصعب، والمختلف حوله، شيئاً قريباً من حالة الحب، وساعده في ذلك، بساطته وتواضعه، وتكونه الثقافي المدني، والأهم رهانه على الفعل الثقافي المدني السلمي، من خلال منصة الشعر، أداته ووسيلته في التعبير عن حالة الحب المهيمنة عليه.
الحب عند ابن الصريمي، هو حب إنساني، هو حب”الأرض والإنسان”، هو حب صيرورة حياتية ابداعية خلاقة تهدف إلى جعل الإنسان / الفرد مركز الكون في الوطن، وفي حالة تقدم مستمر، وهو التفسير البشري لمعنى الكمال والمثال للتقدم الإنساني، على الأرض، الذي حلم به المثقفون الثوريون في بلادنا وفي كل العالم، وسلطان الشاعر والثائر والإنسان صورة نموذجبة لذلك المثال في الحب، الذي أحاول الاقتراب من تقديم صورة ذاتية عنه، في صورة المحب سلطان، للمحبوب الوطن/ اليمن.
إن محبة الصوفي للذات الإلهية هي شطحات فكرية ووجدانية هي محبة وتعلق بالذات الإلهية حد الذوبان، محبة خالصة للخالق عز وجل، وهي عند سلطان ذات اتحاد وحلول الثوري في محبته للوطن، وللآخر في الوطن، هي محبة من محب يتمنى أن يرى وطنه أجمل .. أكثر حرية وعدالة، وهو يكافح لإحداث ذلك الانتقال من الصورة إلى المثال، من التخلف إلى التقدم على الأرض، وليس في السماء كما يذهب إلى ذلك الصوفي في شطحاته الروحية والفكرية والوجدانية الإنسانية.
وبهذا المعنى فالحب عند سلطان الصريمي هو حالة وعي وفكر وعاطفة ، حب مرتبط بالمعرفة بالحياة وبالوجود، وكلما أزددنا معرفة بالحياة، تعمقت معرفتنا وصلتنا بمن حولنا (الوجود/ الوطن والإنسان)، فالمعرفة الأعمق بالإنسان وبالوطن هي طرائق تحقيق تقدمه، نحو المثال الإنساني المنشود .
ولذلك كان وبقي ابن الصريمي حتى في أقسى أيام الإرهاب والعنف والقتل متماسكاً ومتوازناً، ثابتاً على قول ما يجب أن يقال، في الحب, لا يعنيه ما لا يلزم من القول، بل هو يوظف القول الحق للسخرية من الفعل الباطل.
فهو – سلطان – بطبيعته الذاتية التكوينية ساخر، يمتلك روحاً عقلانية نقدية تجاه ما يجري، ويترجم ذلك شعراً باللغة الشعبية والفصحى باتجاه تنمية روح المحبة والحب لروح الجمال في الحياة.
فالحب عنده ليس ضد الحرب, ودحض للباطل، ومقاومة للفساد على الأرض، بل تتويج لفكرة صناعة الجمال والمعنى في حياة الناس.
سلطان، بذاته كان حتى الرحيل، حالة حب، حالة فرح لمن حوله .. حالة فرح من عطائه بلا حدود، وما أن رحل حتى بادله كل الناس في مختلف مناطق اليمن، حالة الحب التي كأنها بحالة وفاء تعكس مكانته وقيمته الأدبية والثقافية والاخلاقية، بين الناس وفاء لما كانه في حياتهم، من محبة وعطاء، فقد فتحت العديد من مناطق البلاد صالات لاستقبال العزاء في الريف والمدن.
سلطان الصريمي حالة حب في حياته حتى رحيله القاسي على الروح.
سلطان الصريمي قصة حياة لم تمت، فرحيله الفاجع بداية ترسيم لحياة جديدة صرنا نراه فيها بعد رحيله، وذلكم هو ما يسمى الإقامة في الحياة، أو الرحيل في الحياة ، هو خالد في نتاجه الشعري، وفي القيم التي تركها لنا وبيننا.
يقول، غاندي “لا يفهم الحب إلا من عاشه”، وابن الصريمي / سلطان، كان هو بذاته حالة حب، لا يحتاج لأن يعيشه حتى يفهمه، هو شيء في تكوينه الذاتي البنيوي كان.
لك الرحمة والخلود يا صديقي فأنت الراحل الباقي والخالد.