يوسف الامين يوسف
لطالما لعب الإعلام دوراً محورياً فى توجيه الرأى العام، لكن حين يتحول إلى أداة تضليل، فإنه يصبح أخطر الأسلحة فى طمس الوعى العام، وفى التاريخ أمثلة كثيرة على قوة التضليل الاعلامى فى صناعة الأكاذيب وتحويلها إلى حقائق راسخة في أذهان الناس .
من أشهرها قصة الملكة الفرنسية مارى أنطوانيت، التى انتشرت عنها مقولة: (دعهم يأكلون الكعك) ، ورغم أنها لم تقلها أبداً ، لكن هذه الأكذوبة، التى روجتها طبقة النبلاء الحاكمة والمالكة للصحف آنذاك، لعبت دوراً رئيسياً فى تأليب الرأى العام ضدها، مما أدى إلى إعدامها بعد قيام الثورة الفرنسية، رغم أن السبب الحقيقى للأزمة الاقتصادية كان فساد الحكومة والنبلاء .
هذه القصة تجسد مقولة إنجليزية شهيرة :
(يمكن للكذبة أن تسافر حول العالم، بينما لا تزال الحقيقة ترتدى حذاءها) .
ما حدث مع مارى أنطوانيت قبل أكثر من قرنين، يتكرر اليوم بوسائل اكثر تطوراً مع فارق الزمان، فالتضليل الإعلامى أصبح سلاحاً تعتمد عليه منظومات وقوى كثيرة فى طرح اجندتها .
الحركة الإسلامية ليست إستثناءاً، إذ جعلته من اهم ادواتها وأكثرها فاعلية، فى نشر مخططاتها، وتحسين صورتها وتشويه اعدائها، فقد رصدت له مبالغ ضخمة، وحشدت له كوادر إعلامية متمرسة، بل وسخرت له أجهزة الدولة بكل امكانياتها .
التضليل عند الحركة الاسلامية ليس وسيلة فقط، بل فقه راسخ لديها، مثل فقه التمكين، وفقه التحلل، وفقه الضرورات، (فالحرب خدعة) وفق تأويلهم التبريرى للنصوص الدينية، وأن ممارسة الخداع هو جزء من التدين، كما ذكر أحد واجهاتهم الاعلامية، اسحاق فضل الله فى إحدى اللقاءات التلفزيونية .
يعتمد التضليل على ترويج الكذبة بكثافة وتكرارها بوتيرة منتظمة، ثم تتلقفها ألسنة المناصرين والمناكفين بإعادة تدويرها خلال الوسائط الاجتماعية حتى يستقبلها الوعى العام كحقيقة راسخة لا تقبل الجدال.
من أهم الأباطيل التى روجتها الحركة الاسلامية مؤخراً، اكذوبة أن (تقدم هى الجناح السياسى للدعم السريع) .
وكما صدّق الفرنسيون آنذاك كذبة مارى أنطوانيت، نجد اليوم جزء كبير من السودانيين قد وقعوا فى فخ هذه الدعاية الخبيثة، بسبب التكرار، والمناخ المشوّه الذى خرجت فيه، والاستعداد النفسى للمتلقين بسبب حالة الاحتقان والضغائن التى افرزتها الحرب .
نجحت الكذبة رغم غياب أى دليل على ذلك، ورغم ثبات موقف (تقدم) وقياداتها بأنهم مع رفض الحرب واعلانهم لخيار التفاوض والسلام .
لكن لماذا روجت الحركة الإسلامية لهذه الأكذوبة؟
منذ الثورة التى اطاحت بالحكومة الانقلابية، سعت الحركة الإسلامية لمعاقبة الشعب الثائر عبر تشويه أى منظومة سياسية مدنية يمكن أن تقود عملية التغيير في السودان، لذلك كان طبيعياً ان تكون الاحزاب المعروفة ب قوى الحرية والتغيير، بحكم موقعها كمنظمة سياسية مدنية، هدفاً رئيسياً مباشراً لذلك التشويه .
عندما اشتعل القتال وجد الإسلاميون ان مناخ الحرب هو الفرصة المناسبة لخلط الاوراق واستثمارها لإضعاف البديل المدنى عبر تصوير موقفه الرافض للحرب بأنه موقف مناصر للمليشيا المجرمة التى صنعوها، وأن القيادات المدنية ليسو سوى خونة وعملاء لدول اجنبية.
الهدف الثانى، هو إبعاد المسئولية عنهم وتشتيت الانتباه عن جرائمهم ومنها (صناعة المليشيا نفسها) ، وخلق صراعات وهمية مع عدو اكثر جرماً لإلهاء الناس فى تناسى اجرام ما قبل الحرب .
وكان من ضمن الاهداف ظهور الاسلاميين فى المشهد وتقديمهم كأبطال ، وإيهام الوعى الشعبى بأن (كل الخيارات المتاحة سيئة، وأنهم الخيار الأقل سوءاً إن لم يكن الامثل ).
هل نطلب الدليل لإثبات هذا الادعاء ام نردده وراءهم دون تمحيص؟
المروجون لهذه الكذبة لم يقدموا أى دليل يثبت أن تقدم هى الجناح السياسى لمليشيا الدعم السريع، بل على العكس، مواقف الحزب وتصريحات قياداته تؤكد دائماً التزامهم بالحل السياسى ورفض عسكرة الدولة وتوحيد كل المليشيات المسلحة لتكون تحت إمرة جيش قومى موحد ، وهو موقف يتناقض مع نهج وإرادة أى مليشيا مسلحة .
الخلاصة : اكذوبة ان تقدم هى الجناح السياسى للدعم السريع ليست سوى امتداد لحملات التشويه التى اعتاد الإسلاميون استخدامها لضرب أى بديل محتمل، فقد استغلوا مناخ الحرب، والإعلام الموجه، والتكرار المستمر لتثبيت هذه الرواية وتغييب الوعى العام .
الهدف كان واضحاً وهو إضعاف اى بديل غيرهم، وتشتيت الانتباه عن مسؤوليتهم فى صناعة مليشيا الدعم السريع، بالاضافة لتقديم أنفسهم كأفضل الخيارات.
مواجهة هذه الأكاذيب لا تكون بالسكوت وكفى، بل بتفنيدها من خلال نشر الحقائق، وتعزيز الوعى، حتى لا تتكرر اللدغات من ذات الجحر، وما أبلغ العظات والامثال :
( عار عليك ان خدعتنى مرة ، والعار علىّ إن خدعتنى مرتين ).