قدم ثلاثة خبراء أمريكيون سيناريو لوقف الحرب في اليمن، لن يتطلب قطع الدعم الأمريكي للتحالف، بل يستوجب التهديد بمضاعفة ذلك الدعم ما لم يحترم الحوثيون التزاماتهم تجاه الأمم المتحدة ويظهروا استعدادهم لتسليم الأسلحة والمدن التي استولوا عليها.
وشدد مايكل نايتس وكينيث إم بولاك وباربرا إف وولتر في مقال تحليلي مشترك، نشرته مجلة “فورين افيرز” الأمريكية، على أن وقف القتال في اليمن يتضمن الاستمرار في دعم المملكة العربية السعودية:
ترجمة حرفية للمقال من مجلس فورين افيرز:
بشكل نسبي، عاد مستوى من الحياة الطبيعية إلى مدينة الحديدة الساحلية التي تضم أكبر ميناء في اليمن، بفضل وقف إطلاق النار بين الفصائل المتحاربة في البلاد استمر منذ ديسمبر 2018. لكن، تدور خلف مشارف الميناء، معارك شرسة بين المتمردين الحوثيين والقوات اليمنية المشتركة.
في واشنطن، يدعو عدد متزايد من المحللين والسياسيين الولايات المتحدة إلى تكثيف أو سحب الدعم الأمريكي للمجهود الحربي السعودي، وتحويل وقف إطلاق النار الذي توسطت فيه الأمم المتحدة إلى سلام دائم، مجادلين بأن القيام بذلك هو المسار الوحيد الذي يمكن الدفاع عنه، من الناحية الأخلاقية والاستراتيجية. غير أن من بين جميع الخيارات المتاحة أمام الولايات المتحدة، يعد هذا الخيار الأقل احتمالاً لإيقاف القتل والموت والأضرار التي قد تلحق بمصالح الولايات المتحدة.
لم يبدأ التحالف العربي الذي تقوده الرياض الحرب، وبالتالي فإن دفع السعوديين للانسحاب لن ينهي سفك الدماء في اليمن.
كما أن انسحاب التحالف لن يؤدي إلى الوصول لتسوية تفاوضية في اليمن، بل حتماً سيقود إلى مزيد من الاقتتال، وسيستمر اليمنيون الأبرياء في الموت إلى أن ينتصر طرف واحد – وهم المتمردون الحوثيين على الأرجح.
سيظل السلام الحقيقي في اليمن بعيد المنال ما لم يقبل الطرفان بأنه ليس لديهم ما يكسبونه من مزيد من القتال. وهو ما لم نصل إليه بعد. حيث إن بلوغ تلك المرحلة لن يتطلب قطع الدعم الأمريكي للسعودية، بل يستوجب التهديد بمضاعفة ذلك الدعم ما لم يحترم الحوثيون التزاماتهم تجاه الأمم المتحدة ويظهروا استعدادهم لتسليم الأسلحة والمدن التي استولوا عليها. وإذا كانت واشنطن جادة بشأن إنهاء هذه الحرب، فيتوجب عليها مواجهة هذه الحقيقة المُرّة والتكيف عليها.
كيف تنتهي الحرب
على مر عصور التاريخ، انتهت الحروب الأهلية كما في اليمن إما بانتصار طرف نصراً عسكرياً حاسماً، أو بتفاوض طرف ثالث على تسوية بين الفصائل المتحاربة.
في الشرق الأوسط، فإن خيار السماح للقتال بالاستمرار، غالباً ما يعني قبول إراقة الدماء والتطهير العرقي. والأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها إبادة حماة، معقل المعارضة السابق بسوريا في عام 1982، وصحيح أن تلك الانتصارات أنهت النزاعات بسرعة وواضحة، لكن على حساب مئات الآلاف من الأرواح.
التسوية التي يتم التفاوض عليها بمقدورها أن تنهي الحرب في وقت مبكر، وبالتالي بكلفة دماء أقل. لكن المتقاتلين عموماً لا يوافقون على مثل هذه الحلول حتى يصلوا إلى طريق مسدود عسكرياً، بحيث تكون جميع الأطراف مقتنعة باستحالة ظفرها بانتصار عسكري. ومع ذلك، يتعين على الأطراف المتحاربة أن تدرك أن بإمكانها نزع سلاحها دون القضاء عليه، وذلك شرط لا يمكن تلبيته في بعض الأحيان إلا بالتزام خارجي بحفظ السلام لمدة عقد أو أكثر.
وبمجرد تقابل الأطراف في طاولة واحدة، سيتعين أن تتضمن أي تسوية تفاوضية ناجحة ترتيباً لتقاسم السلطة يمنح جميع الفصائل القوة السياسية والمزايا الاقتصادية بما يتناسب مع ثقلها الديموغرافي (أي وفقاً للحقائق العسكرية على الأرض).
فيما يتعلق باليمن، فإن عرقلة دعم الولايات المتحدة – الذي يتألف إلى حد كبير من المساعدة الاستخباراتية واللوجستية – للسعوديين ستعيق جهود التحالف الحربية وستشجع الحوثيين وداعميهم الإيرانيين، مما يجعلهم أقل استعداداً لقبول وقف إطلاق النار على مستوى البلاد وقبول اتفاق تقاسم السلطة.
في الواقع، فإن النقد الذي وجهه الكونغرس الأمريكي للسعوديين قد شجع الحوثيين الذين يبدو أنهم عازمون على الاستمرار في القتال. فمنذ أن توسطت الأمم المتحدة في وقف إطلاق النار في ميناء الحديدة، الذي يسيطر عليه الحوثيون في شهر ديسمبر، قام المتمردون بتحصين مواقعهم في المدينة، في انتهاك مباشر لبنود الاتفاقية. كما تخلف الحوثيون عن الموعد النهائي للانسحاب وتقاعسوا مرة تلو الأخرى (أولاً في أوائل يناير، ثم في منتصف فبراير)، وبالتالي تراجعوا عن تنفيذ الالتزامات الصريحة أمام الأمم المتحدة.
يحاول فريق الأمم المتحدة ومبعوثه الخاص، تنفيذ خطة ثالثة لإخراج قوات الحوثيين من الحديدة وغيرها من موانئ البحر الأحمر، ومن ثم يتوجب على كلا الجانبين الانسحاب من الخطوط الأمامية في مدينة الحديدة. لكن ما لم يتم إعطاء الحوثيين دافعاً قوياً للتراجع، فليس هناك من الأسباب ما قد تجعلنا نتوقع أنهم سيفعلون ذلك.
وبدلاً من إحداث حالة من الجمود، قد يؤدي خفض الدعم الأمريكي للتحالف الذي تقوده السعودية إلى تمكين الحوثيين من الانتصار عسكرياً، تماماً كالانتصار الذي حققه نظام الأسد وإيران وروسيا ببطء في سوريا. وهذه النتيجة بالكاد القبول بها. فالحوثيون معادون للولايات المتحدة ومعادون للسامية، ومعادون للسنة بشكل متزايد.
في الحقيقة، ليس الحوثيون، الذين ينتمون إلى المذهب الشيعي، سوى مجرد قبيلة واحدة من بين المئات في البلاد. ولا يوجد أي أساس تاريخي أو قاعدة شعبية للحوثيين تؤهلهم لحكم العاصمة أو للسيطرة على الموانئ. ونتيجة لذلك، فإن اليمن بعد انتهاء الصراع تحت حكم الحوثيين قد يشهد على الأرجح ممارستهم قمعاً كبيراً لإبقاء حكمهم مستمراً.
وقد لا يحبذ أعضاء الكونغرس الأمريكي الحرب الأهلية أو التدخل السعودي، حيث يلقي المنتقدون اللوم على هذا التدخل، في ازدياد اعتماد الحوثيين على إيران، وبالتالي تعزيز نفوذ طهران في البلاد. بيد أن هذا النفوذ أصبح اليوم حقيقة واقعة. وبالفعل أطلق الحوثيون صواريخ إيرانية على الرياض وعلى السفن (بما في ذلك السفن العسكرية الأمريكية) في باب المندب، وهو ممر الشحن الحيوي الذي يربط البحر الأحمر بخليج عدن.
وبالتالي، فإن وضع نهاية دموية للحرب الأهلية بحيث تترك الحوثيين منتصرين ومدينين لإيران، لن يؤدي إلا إلى تقويض مصالح الولايات المتحدة وإرهاب حلفائها في المنطقة.
“الانتقادات التي وجهها الكونغرس للسعوديين، شجعت الحوثيين على مواصلة القتال والتخلي عن العنف”
بيد أن الوضع الراهن غير مقبول من منظور إنساني. وحظي وقف إطلاق النار الجزئي في الحديدة بحالة ارتياح دولية جماعية، حيث أعرب مراقبون عن أملهم في أن تعود الحديدة، مرة أخرى شريان الحياة للبلد الذي مزقته الحرب.
وبدلاً من ذلك تم شحن 619،085 طناً فقط من الغذاء خلال الربع الأول من عام 2019، وهو رقم بعيد جداً عن الرقم 1.7 مليون طن من الأغذية التي دخلت عبر الميناء خلال نفس الفترة من عام 2016، وفقاً لبرنامج الغذاء العالمي.
ولن يعود الشاحنون التجاريون إلى أن يتم الوصول لتسوية طويلة الأمد للوضع في الحديدة وغيرها من موانئ البحر الأحمر، وإلى أن تستقر العملة اليمنية، وتعود القوة الشرائية للأسر اليمنية من خلال استئناف دفع الرواتب الحكومية. ورغم ذلك، لا يزال خطر المجاعة كبيراً.
الحقيقة الثابتة، هي أن وقف إطلاق النار في الحديدة جاء فقط بسبب الضغط العسكري من القوات اليمنية المشتركة والتحالف الذي تقوده السعودية. حيث أجبر احتمال حدوث هجوم التحالف على الحديدة، الحوثيين على الاختيار بين أمرين: إما إبرام اتفاق في الوقت الذي ما زالوا يحتفظون بسيطرة في المدينة، وبالتالي يمكنهم أن يستخدموها كورقة مساومة، وإما القيام بذلك لاحقاً، لكن بعد خسارتهم لها، وبالتالي سيكون لديهم نفوذ أقل بكثير.
اليوم، وبعد اتفاق وقف إطلاق النار، لم يعد الحوثيون يتعرضون لمثل هذه الضغوط للمضي نحو اتفاق سلام أشمل. فهم يعرفون أن إبرام اتفاق لن يقلل من قوتهم، في حين أن النصر العسكري من شأنه فقط أن يعززها.
وتباعاً، فشلت الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، في استبدال الضغط العسكري على الحوثيين بالضغط الدبلوماسي. وأفضل ما يمكن وصفه هو وجود حالة أشبه بمسرح تمثيلي للسلام – وهم بحصول تقدم يوفر تبعات حرب شاملة في الحديدة مع ترك الأزمة الأساسية تراوح مكانها.
أقل الخيارات سوءاً
إذن، ما الذي يمكن أن تفعله الولايات المتحدة لوقف الاقتتال؟ يشير تاريخ الحروب الأهلية في اليمن وأماكن أخرى، إلى أسلوب مُضاد للحدس: وهو زيادة دعم الولايات المتحدة للقوات اليمنية المشتركة والتحالف الذي تقوده السعودية، وتمكينهم من السيطرة على الحديدة، ثم استخدام النفوذ الناجم عن ذلك لإجبار الطرفين على إنهاء القتال وتوقيع اتفاق تقاسم سلطة.
هذا السيناريو ليس منطقياً فحسب، بل إنه الحل الوحيد على المدى القريب الذي يمكن أن ينهي الحرب الأهلية، ويوقف القتل وينهي الوجود السعودي والإيراني في اليمن.
إن انتصار التحالف والقوات اليمنية ليس صعباً، فقد حققت القوات اليمنية المشتركة المتجمعة خارج مدينة الحديدة العديد من النجاحات العسكرية، وذلك بفضل الدعم القوي من الإمارات. وفي عام 2016، سيطرت قوة أصغر بكثير من الجنود اليمنيين والإماراتيين على عدن، وهي مدينة أكبر بكثير من الحديدة. وفي العام الذي تلى ذلك، توغلت الإمارات وقوات القبائل في مدينة المكلا، وهي مدينة ساحلية كبيرة أخرى، ودحر تنظيم القاعدة المتشدد.
ومذ ذلك الحين، ازدادت دولة الإمارات وحلفاؤها من القوات اليمنية المشتركة خبرة أكثر في القتال العنيف الذي اندلع في شوارع الحديدة قبيل وقف إطلاق النار مباشرة، حيث استطاعت القوات اليمنية المشتركة المسنودة بقوات التحالف من تحرير أكثر من 3 أميال مربعة من مساحة المدينة التي تبلغ مساحتها 17 ميلاً مربعاً في غضون أسبوع فقط، باستخدام ذخائر دقيقة لتحييد قناصة الحوثيين في المناطق السكنية.
إن الانتصار في الحديدة سيمكن السعوديين والإماراتيين من إرسال رسالة قوية إلى منافسهم الإقليمي، إيران وشعوبها أيضاً، بأنهم أقوياء ويجب عدم استفزازهم. وفي الوقت ذاته، فإن فقدان الحوثيين لمدينة وموانئ الحديدة لابد وأن يقنعهم بأنهم لا يستطيعون الانتصار، وأنهم في حال استمروا بالقتال، فقد يفقدون سيطرتهم على صنعاء وغيرها من المناطق التي سيطروا عليها منذ عام 2014.
كما أن حقيقة أن إيران ستشجع المتمردين على الأرجح على مواصلة القتال في معركة خاسرة، لابد وأن تساعد الحوثيين على فهم أن مصالح طهران ليست مصالحهم.
التسوية المتفاوض عليها ستكون أفضل -أو أقل- نتائج للحرب الوحشية في اليمن سوءاً. وتجدد الهجوم على الحديدة سيمهد الطريق للوصول إليها. وسيكون الحوثيون أكثر تقبلاً لعرض سخي بعد خسارتهم المدينة. وبالنسبة للسعوديين، يمكن أن تحذرهم واشنطن من أنهم إذا عرقلوا عملية السلام، فإن الولايات المتحدة ستعلق كل المساعدات العسكرية – وليس فقط لعملياتهم في اليمن.
تتطلب كل من المصالح والقيم الأمريكية إنهاء الحرب في اليمن حيث يهدد الصراع البلاد بالمجاعة. كما استغل تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية فوضى الحرب لتجنب القوة الكاملة لجهود مكافحة الإرهاب الأمريكية – الإماراتية – اليمنية المشتركة. كما تتعرض المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لانتقادات شديدة، فيما إيران هو من يستفيد من إطالة أمد هذه الحرب القذرة.
بيد أن وضع حد للقتال يتطلب اتخاذ خيارات صعبة يمكنها أن تنجح بالفعل، وليس الخيارات السهلة التي من المحتمل ألا تنجح. وإذا بقيت خطوط المعركة على ما هي عليه الآن، فسيكون الحوثيون قد انتصروا بالحرب فعلياً، بعد أن حصلوا على عاصمة اليمن وأكبر موانئها.
ما يحتاجه اليمن حالياً هو دبلوماسية أمريكية وأوروبية أكثر صرامة، مدعومة بضغط عسكري نشط وفعال. عندها فقط سيفهم الطرفان المتحاربان أنهما إذا واصلا القتال، فليس أمامهما سوى الخسارة فقط.
****
مجلة “فورين افيرز” الأمريكية
*مايكل نايتس: خبير أمريكي مختص بشئون اليمن وزميل أقدم في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى. زار معظم الجبهات الكبرى في اليمن هذا العام.
*كينيث إم بولاك: محلل سابق في المخابرات الأمريكية وخبير في السياسة والشؤون العسكرية في الشرق الأوسط
*باربرا إف. وولتر: خبيرة في الأمن الدولي والحروب الأهلية