كتب : طاهر شمسان
عبد الله سلام الحكيمي من الأسماء التي علقت في ذاكرتي منذ مطلع النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي. حينها بدأت أتعرف على ألف باء الفضاء الوطني العام وأحفظ أسماء الرجال الذين يتحركون داخله بخطى تثير إعجاب كل مراهق تراوده أحلام الولوج إلى ذلك الفضاء. وكان الحكيمي واحدا من أولئك الرجال. كان حينها رئيس تحرير صحيفة “13 يونيو” ومستشارا لمجلس القيادة ومقربا من الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي.
بدأ الحكيمي طالبا في كلية بلقيس بعدن وانتهى به المطاف ليصبح في الصف الأول من القيادات الناصرية وضمن الصفوة التي حملت أكفانها على أكفها كي تقتص للشهيد الحمدي وتعيد الاعتبار لمشروعه الوطني وذهبت من أجل ذلك تصنع حركة أكتوبر 1978 الناصرية تخطيطا وتنفيذا. والدور الذي أسند للحكيمي لحظة الشروع في التنفيذ هو قراءة البيان الأول من إذاعة صنعاء. ودور كهذا لا يسند لرعديد وإنما لشجاع مقدام مستعد لاحتمالات الفشل والموت من أجل قضية رآها، وما يزال يراها وطنية وعادلة. والحكيمي إلى اليوم يعتز بتاريخه الناصري ويعتبر نفسه ناصريا حتى العظم.
وقد شاءت مجموعة من الظروف والملابسات أن تفشل حركة أكتوبر الناصرية وأن يكون الحكيمي بين الناجين من المقصلة التي فتكت بواحد وعشرين من خيرة رجال اليمن الشجعان وعلى رأسهم القائد عيسى محمد سيف الذي شد أزر رفاقه في لحظات المحنة المسماة تعسفا “محاكمة” وقابل حكم الإعدام بشجاعة ملفتة لعلها إلى اليوم من بين أهم عوامل تماسك لحمة الناصريين في اليمن.
والغرض من هذا المقال ليس تقويم حركة أكتوبر الناصرية بالكشف عما لها وما عليها فهذا موضوع تفاصيله في ذاكرة التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، والناصريون أولى به وأقدر عليه من غيرهم. ما يهمني هنا هو إنصاف عبد الله سلام الحكيمي من بعض المسيئين إليه والمتجرئين عليه ممن كانوا في أكتوبر 1978 تلاميذاً في المدارس ثم كبروا في السن دون أن نعرف لهم أدوارا مجتمعية أو نضالية أو سياسية أو ثقافية تنويرية، وفجأة نراهم يستسهلون الإساءة للرجل مستخدمين مفردات وتعابير لا تليق لا بهم ولا بالقراء ولا هي من قاموس الكتابات النقدية المألوفة في مراجعة تجارب الرواد وسير حياتهم.
لقد دفع الحكيمي ثمن دوره في حركة أكتوبر الناصرية تشردا ولكن هذا لم يشفع له عند البعض ممن يعتقدون أنه كان يجب أن يموت مع عيسى ورفاقه لولا أن الله أراد أن يبقيه حيا كي يضرب به الأمثال. هكذا اطلع أحدهم على سر من أسرار الله متفوقا في هذا على عبد الله أحمد العديني رغم سلفية هذا الأخير وناصرية الأول.
وبناء على هذه الذهنية، المناضل الحقيقي هو الذي يموت في مقصلة الجلاد أما إذا نجا فهو ليس كذلك. إننا هنا أمام معايير مضطربة في التقييم والإنصاف توجب على المناضل أن يموت في سبيل قضيته كي يستحق التقدير والأسطرة وكأن الموت غاية مطلوبة لذاتها، أما إذا نجا فعليه أن يدفع ثمن نجاته بالتعرض للشتائم بسبب خياراته في الحياة الموسومة بالتغير والتبدل.
وحتى لا يأتي كلامنا في العموم نسأل: ما هي المآخذ التي أخذها أحدهم على الحكيمي كي يوجه له ذلك القدر من الإساءات الشخصية؟ قبل الاسترسال في الشتائم استهلَّها صاحبها بمقدمة إنشائية قال فيها حرفيا: “غريب ما يحدث في الدنيا من أمور أرى فيها أحيانا أنها لا تتفق ونواميس الحياة المنظمة لدور الإنسان من سلوك ومظاهر حياة ورؤى، وحتى التموضع المفترض إزاء مجمل القضايا المحيطة بنا. ما الذي يجعل بعض الناس يشذون عن هذه القواعد وأصول الحياة”!!.
هذه مقدمة إنشائية ليس لها قيمة معرفية أو مضمون يمكن الإمساك به وإنما ساقها صاحبها من قبيل الاستعراض الكلامي معتقدا أنها تجيز له ممارسة الشتيمة والإساءة للغير. ولست بحاجة إلى إيراد أي من مفردات الشتائم، ولا القارئ يحتاج إلى ذلك.
ولكن لماذا كل هذه الكراهية للأستاذ عبد الله سلام الحكيمي؟ اليكم المبرر الذي ساقه صاحبنا أقتبسُه حرفيا كما هو: “من قيادي قومي ناصري وقريب من الشهيد الحمدي متدحرجا إلى اتحاد القوى الشعبية الحزب السلالي المعروف، ومن ثم انتقاله إلى الحضن الحوثي ليصبح أحد الأبواق النشاز والأصوات الرخيصة المسبحة بحمد السلالة كأصغر مشروع في ماضي وحاضر ومستقبل البشرية”. هذه هي الفكرة الوحيدة التي شغلت صاحبنا وجعلته يقول حرفيا في مقدمته الإنشائية: “إنها لا تتفق ونواميس الحياة المنظمة لدور الإنسان من سلوك ومظاهر حياة ورؤى”. وبما أنها من-وجهة نظره هو-لا تتفق ونواميس الحياة فمن حقه أن يمدِّدَ ويشتمَ ما شاء له أن يشتم. هكذا يفكر صاحبنا. وهذا التفكير الخاطئ ليس سببه الغباء وإنما تضخم الذات على حساب الموضوع. فحين لا يكون (أ) -من أي حزب كان-يمثل قيمة من نوع ما ذات أهمية لحزبه على المستوى السياسي أو الفكري الثقافي أو الجماهيري…. الخ فإنه -عوضا عن التعب الإيجابي وبذل الجهد المثمر في الاشتغال على نفسه وتنمية قدراته-يختار الطريق الأسهل الذي لا يحتاج إلى أي عناء وهو ممارسة الإساءة إلى (ب) أو (ج) أو (د) أو (ه) من أعضاء حزبه الحاليين أو السابقين. أما أمكنة الإساءة فهي التكايا الشللية ومنصات التواصل الاجتماعي التي تعمل بعيدا عن أية معايير منظمة وضابطة لنشاطها. فإن كان (أ) هذا اشتراكيا وأراد أن يقدم نفسه للاشتراكيين على أنه مخلص للحزب وثابت على المواقف والمبادئ فما عليه إلا أن يكون جريئا في كيل الشتائم ل (ب) مثلا من أعضاء حزبه الحاليين أو السابقين. ويكفي (أ) في هذه الحالة أن يقول عن (ب) إنه انتهازي لكي “يثبت” لحزبه أنه ثابت على مواقفه ويستحق كل التقدير بما في ذلك الترقي إلى أعلى هرم الحزب حيث يعتقد أنه لن يكون شيئا مذكورا إلا هناك. وهذا ما فعله صاحبنا مع عبد الله سلام الحكيمي. ولكن هل ما قاله عن الحكيمي يعبر عن نضج فكري وسياسي أم هي الكراهية؟ إنها الكراهية في واحدة من صورها الضارة ببيئة العمل الحزب، وهذا بالتحديد ما حفزني إلى كتابة هذه المقالة ليس دفاعا عن الحكيمي وإنما عن أحزابنا وبالذات الاشتراكي والوحدوي الشعبي الناصري اللذين يعلق عليهما كثير من الناس الآمال في العبور يوما ما إلى الدولة المدنية وهو العبور المستحيل بغير ثقافة سياسية ديمقراطية ووعي مدني.
إن الثقافة السياسية الديمقراطية تفرق بين المبادئ والأهداف. فالمبادئ هي أهداف تحققت وانتصرت نهائيا وأصبحت جزءا من نسيج الحياة اليومية وضروراتها على مستوى المجتمع والدولة. فالديمقراطية في السويد مبدأ وفي اليمن هدف. والديمقراطية في حزب العمال البريطاني مبدأ وفي الحزب الاشتراكي اليمني والوحدوي الشعبي الناصري هدف.
والثقافة السياسية الديمقراطية تفرق أيضا بين الموقف والاصطفاف. فأن يبقى (أ) عضوا في حزبه مهما شرَّق الحزب أو غرَّب فهذا لا يدل على ثبات في المواقف وإنما على قوة الاصطفاف. فالموقف يحتاج أولا إلى وضوح القضية التي تستدعي المناصرة أو المعارضة. والقضية لا تكون واضحة إلا لمن يراها ويمتلك القدرة على جعل أنصاره ومحازبيه يرون ما يرى حقاً أو باطلاً. فالشيخ الزنداني رأى دستور 22 مايو 1990 كافرا وعلى خطاه سار أنصاره ومحازبوه وكل الواقعين تحت تأثير الثقافة التي كرستها الوهابية الوافدة والريال السعودي عبر الإخوان المسلمين الذين لا ولاء عندهم إلا لأيديولوجيتهم الدينية –ولا أقول للدين-أما الولاء للوطن وللدولة الوطنية فهو عندهم بدعة مناهضة لمفهوم الخلافة القائمة على ثنائية الدارين (دار الإيمان ودار الكفر)، ولهذا ليس مستغربا أبدا كلام عبد الله أحمد العديني عندما قال ما معناه: “إن جماعة الإخوان المسلمين في اليمن تشكلت لتكون ضد ثورة 26 سبتمبر 1962 باعتبارها ثورة جاهلية مخرجاتها السلال والإرياني والحمدي وعلي صالح بينما ثورتهم هم هي ثورة محمد ابن عبد الله التي من مخرجاتها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي”.
إن الزنداني والعديني في المثال الذي أوردناه ينتميان إلى القيادة التي تصنع الموقف وتعلنه أما الأنصار والمحازبون فهم الاصطفاف الذي يؤيد الموقف ومستعد أن يسير في تأييده إلى حيث تريد القيادة صاحبة الموقف. ولكن ليس في هذا الاصطفاف فرد واحد يعي أنه بلا موقف وأنه ليس أكثر من ترس صغير في الاصطفاف المؤيد للموقف، وإنما الكل يعتقد أنه صاحب موقف، وكلما كان هذا الاعتقاد قويا كلما كان الاصطفاف أكثر تماسكا. وإذا كان الموقف منتجا معرفيا –أي كان نوع المعرفة التي أنتجته-فإن الاصطفاف هو منتج عصبوي. وعندما نقول “عصبوي” فمعنى ذلك أنه يفتقر إلى العقلانية التي بدونها تستحيل الثقافة السياسية الديمقراطية. وإذا كانت العقلانية تعبر عن النضج المدني في مجتمع متقدم فإن العصبوية تعبر عن الحالة القبائلية في مجتمع متخلف يلقي بظلاله على كل شيء بما في ذلك الأحزاب والنقابات. وعلى هذا الأساس ليس الاصطفاف العصبوي قاصرا على الأحزاب الدينية فقط وإنما يسم كل الأحزاب اليمنية مع الفوارق في الكم وليس في النوع. ففي كل الأحزاب اليمنية تصنع المواقف قياديا وليس بآليات الديمقراطية، والقواعد تصطف وراء الموقف القيادي من باب الثقة المفرطة بقدرات القيادة وبنزاهتها. وصاحبنا الذي كال الشتائم والإساءات للأستاذ عبد الله سلام الحكيمي كالها بعصبية الاصطفاف وليس بوعي الموقف وعقلانيته. فالحكيمي خرج فيزيائيا وتنظيميا من “قبيلته العصرية” فبدا هذا الخروج لصاحبنا كما لو كان تهديدا لتماسك عصبيته. والحقيقة أن الحكيمي لا يهدد الوحدوي الشعبي الناصري ولا الحزب الاشتراكي، وإذا استطاع هذا الحزبان أن يقطعا مسافة معتبرة باتجاه الدولة المدنية فإن الحكيمي لن يكون إلا معهما.
إن الثقافة السياسية الديمقراطية تشترط حضور الوعي المدني الذي يستقبح الإساءة للأشخاص بسبب خياراتهم الفكرية والسياسية أو بسبب آرائهم، ولا يقبل المساس المادي أو المعنوي بأي مواطن من خارج الدستور الديمقراطي والقوانين المنفذة له، ومن خارج منظومة حقوق الإنسان. ولا أحد يستطيع –حتى مجرد الزعم-بأن عبد الله سلام الحكيمي في كامل مسيرته السياسية قد خالف القوانين وانتهك أيا من حقوق الإنسان. وربما وافقني كثير من القراء أن صفحته السياسية أكثر بياضا بما لا يقاس من صفحات كثيرين ممن يقفون الآن مع الشرعية.
ومن منظور الوعي المدني يجب أن نحاكم وجود عبد الله سلام الحكيمي في قيادة اتحاد القوى الشعبية بعد إعلان الوحدة مقترنة بالتعددية الحزبية والسياسية. لقد كان مسئولا عن الأمانة السياسية في هذا الحزب وممثله في اللجنة العليا للانتخابات التي أشرفت على انتخابات أبريل 1993. والسؤال: هل لاحظ ممثلو الوحدوي الشعبي الناصري والحزب الاشتراكي اليمني في اللجنة العليا للانتخابات على عبد الله الحكيمي ما يخدش نقاءه السياسي وإخلاصه لقضية الوحدة والديمقراطية أو ينتقص من كفاءته العملية.
إن اتحاد القوى الشعبية لم يكن وكرا لترويج الممنوعات ولا كان تنظيما يعمل من خارج الدستور والقوانين وإنما كان حزبا مصرَّحا ومع الوحدة والديمقراطية وضد تكفير الدستور. وبعد حرب 1994 كان مع الاشتراكي والناصري مؤسسا لمجلس تنسيق أحزاب المعارضة الذي تطور فيما بعد إلى تحالف “أحزاب اللقاء المشترك”، وكانت صحيفته “الشورى” رأس الحربة في المعارضة للتحالف الذي أشعل حرب 1994 وكان قادة الاشتراكي والوحدوي الناصري يشغلون الصفحة الأولى في كل أعدادها تقريبا. والسياسي المنصف والمسئول لا يبخس الناس أشياءهم ولا يحكم عليهم وفقا لأهوائه وغرائزه.
وفيما يتعلق بموقف الحكيمي في الحرب الراهنة وتأييده لأنصار الله فهذا خياره السياسي المعلن والمسبب بالعدوان ضد اليمن كما يقول هو دائما. وخياره هذا ليس شيئا مقدسا لا يقبل النقد وإنما هو موقف سياسي يستوجب النقاش العقلاني والهادف الذي يخلق وعيا بعيدا عن الإساءات الشخصية التي لا تحترم عقل المتلقي وتروج لعادات كتابية سيدفع ثمنها أحزابنا ورموزنا في بلد يكتظ بالشتامين.
بقي أن أقول إن الحكيمي ليس أول ضحية لصاحبنا ولا هو –صاحبنا-ظاهرة شاذة وإنما له نظائر كثيرة راجت مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وأصبح هؤلاء الأكثر ضجيجا وأصحاب الأصوات المسموعة رغم أنهم ليسوا صحفيين على معرفة بتقنيات الكتابة الصحفية وأخلاقياتها، ولا هم كتَّاب يعون مسئولية الكلمة ودورها في تنوير الناس وتوضيح ما غمض والتبس عليهم من القضايا وإنما هم مجرد أناس اتخذوا من الكتابة في وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة للإساءة لكل من لا يروق لهم ولا يوافق أمزجتهم. ولكن هؤلاء يبعثون برسالة أخرى من حيث لا يعلمون ولا يقصدون، وفحوى هذه الرسالة أن هؤلاء الناس يمارسون هواياتهم في وسط حزبي متواطئ وممالئ ويفتقر إلى الإحساس بهذا التلوث المسيء لبيئة أحزابنا قبل غيرها.