كريتر نت / كتب- منى يسري
تبدو الحروب العالمية في القرن العشرين أكثر فتكاً بالبشر عن سابقاتها من حروب، فوقودها اليوم لم يعد نهب موارد الدول الأغنى فحسب، بل صار المحرك الخفيّ هو اختلال المناخ العالمي، الذي يحطّ بقدميه في الدول الأكثر فقراً، ويخلق نزاعات في أماكن متفرقة من العالم، قادتها الولايات المتحدة الأمريكية، من أجل كوكب أصغر.
أولاً: معركة أوغادين
تحت عنوان ثلاثية التجمع الكارثي: “الفقر والعنف والتغير المناخي”، صاغ الصحفي الأمريكي، كريستيان بارينتي، آلية جديدة لفهم الصراعات التي عاشها العالم بشكل خاص في القرن العشرين، والتي كان التغير المناخي أحد عواملها التي لا تخفى على الباحث، ويؤسس كتابه “مدار الفوضى: تغير المناخ والجغرافيا الجديدة للعنف”، لنظرة جديدة تجاه الحروب، التي بدأت في أفريقيا المنكوبة، وصاحبة نصيب الأسد من التغير المناخي، بداية من الصومال، والذي آلت أحواله إلى التمزق، رغم الثروات الهائلة التي يتمتع بها، وبينما تشتدّ حمى الحرب بين الولايات المتحدة وفيتنام، قام محمد سياد بري بتولي زمام السلطة في البلاد، وأعلن، عام 1970؛ أنّ الاشتراكية العلمية ستكون العقيدة الرسمية للبلاد، موضحاً للشعب مدى التوافق بين مبادئها ومبادئ الدين الإسلامي، وواقع المجتمع الرعوي، وبحسب المتخصص في التاريخ الصومالي، الأمريكي آي إم لويس، قدّم النظام الجديد برامج مميزة لمحو الأمية، والنهضة بالتعليم والرعاية الصحية، وأنشأ التعاونيات الزراعية، لكن سرعان ما انقلب السحر على الساحر، وبدأ بري في موجهة الإرث الاستعماري الذي خلّفه الأوروبيون والإثيوبيون.
كان الجفاف الساحلي الذي فتك بالمزارعين الإثيوبيين مطلع عام 1974، هو السبب في اندلاع احتجاجات عنيفة ضدّ إمبراطور البلاد، هيلاسي لاسي، ما جدّد أحلام سياد بري بتوسيع إمبراطوريته، وضمّ الأراضي الصومالية التي تقع داخل إثيوبيا، ومن هنا انطلقت معركة “أوغادين”، كان القرن الأفريقي هو المعسكر الأهم في الحرب البادرة بين السوفييت والولايات المتحدة الأمريكية، وبسبب فقدان الاتحاد السوفييتي نفوذه في مصر، برحيل عبد الناصر، نشأ التحالف بين “اليمن الجنوبي، الصومال، وإثيوبيا، التي كانت تضمّ إريتريا، وجيبوتي التي ستنفصل لاحقاً”، هنا يؤكد مدرس العلوم السياسية في معهد الدراسات الأفريقية، بجامعة القاهرة، الدكتور أحمد أمَل، في حديثه لـ “حفريات” أنّ “العدوان الذي شنّه بري على إثيوبيا كان أول مسمار دقّ في نعشه؛ حيث فقد حلفاؤه في الاتحاد السوفييتي وكوبا؛ إذ لم تكن البلاد المستفيقة لتوّها من استعمار طال أمده أن تحتمل حرب مع جيرانها، خاصّة بعد تولي منغستو الذي كان حليفاً للسوفييت، وكانت معركة أوغادين مكاناً مميزاً استعرض فيه السوفييت نفوذهم في الشرق الأوسط، وبسط سيطرتهم على بحر العرب والمحيط الهندي، الممر الأهم للنفط المتجه إلى أوروبا”.
أسوأ مجاعات أفغانستان
مع نهاية الستينيات، عام 1969، مرّت أفغانستان بثلاثة أعوام من الجفاف المتتالي، تبعها شتاء قارس البرودة، دفع المزارعين الذين يمثلون 90% من السكان، إلى أكل بذورهم وذبح ثيرانهم، فما كان لهم من شيء يزرعونه في الربيع التالي، وهو ما يتطابق مع المثل الشعبي الأفغاني الأشهر “العام الجيد يعرف من ربيعه”، وبالفعل كان عاماً كابوسياً، وفق كتاب “التراجيديا الأفغانية”، للصحفي الباكستاني راجا أنور؛ فإنّه “بحلول نيسان (أبريل) عام 1972، بدأت أكبر مجاعة في التاريخ الأفغاني، شهدت مقاطعة غور الأفغانية تضرراً أكبر من باقي المقاطعات؛ فالمدينة المعروفة جغرافياً، بكثافة غاباتها، التي تكمن تحتها رواسب معدنية، جُرّدت بالكامل لصالح الاستعمار الأوروبي من أشجارها، حتى إنّها اليوم أشبه بسطح القمر، صخورها جافة، ولا يمكن العيش فيها، وبحلول الصيف وصل الصحفي الأمريكي، جيمس ستيربا، من جريدة “نيويورك تايمز”، وكتب عدة مقالات للجريدة عمّا رآه من جثث على الطرقات، أو بقايا بشر أنهكهم الجوع، ولم يعودوا قادرين على دفن ذويهم، وآباء تركوا أطفالهم بعد عجزهم عن إطعامهم، وأطفال آخرين يصرخون من الجوع بجوار جثث آبائهم.
تحت عنوان ثلاثية التجمع الكارثي: “الفقر والعنف والتغير المناخي”، صاغ الصحفي الأمريكي بارينتي، آلية لفهم الصراعات التي عاشها العالم
قدّم ستيربا أيضاً فيلماً وثائقياً بعنوان “أطفال تركوا للجوع”، نشرته الصحيفة على نطاق واسع، في تلك الأعوام، كان الملك محمد ظاهر شاه، منعماً بعرشه منذ عام 1933، وبعد عقود من الجمود والركود ومجلس نواب يرفض أيّ مشروع للتنمية والتحديث، كانت المجاعة التي قسمت عرش ظاهر شاه، قدّرت “نيويورك تايمز” عدد قتلى المجاعة بـ 80 ألفاً، أغلبهم من المزارعين والأطفال، وفي تموز (يوليو) عام 1973؛ حدث انقلاب عسكري بقيادة الجنرال محمد داوود خان، ابن عم الملك وصهره، الذي ربطته علاقات جيدة بالسوفييت والأمريكيين، لذلك نحّاه الملك سابقاً من أيّة مناصب إدارية، إلّا أنّ الانقلاب العسكري جاء كحلٍّ عاجل للأزمة المتفاقمة؛ حيث ألغى داوود الملكية وأعلن قيام الجمهورية، وخفّض أسعار السلع الغذائية على الفور، وأقام حكومة من عناصر متعارضة، جمعت بين الشيوعيين والإسلاميين الأكثر تشدداً، ولم يدم وفاق تلك الحكومة طويلاً، فسرعان ما جاء انقلاب حزب الشعب الديموقراطي على خان، عام 1978، وقام بإصلاحات زراعية بتخطيط سيئ، سرعان ما جلب الفوضى إلى البلاد، وخلال عام واحد كان الجيش الأفغاني قد تمزّق تماماً بفعل الاستقطابات العقائدية، وكانت تلك الأرضية التي جلبت السوفييت والأمريكيين إلى أفغانستان في حرب قاسية.
ثورة الجفاف الهندي
رغم تمتّع الهند بأكبر نظام ديموقراطي في العالم، إلّا أنّها تضمّ أكثر الحركات المتمردة ثورية في العالم، حركة “الناكسال” الماوية، التي بدأت حربها ضدّ النظام غرب البنغال، عام 1967، وتحتدم الحرب وفق أعوام الجفاف والسياسات الاقتصادية التي تتبناها الحكومات المتعاقبة، يلاحظ بارينتي في كتابه “مدار الفوضى”؛ أنّ ارتفاع وتيرة حرب الماويين في الهند يتوازى مع مواسم الجفاف القاحل، خاصّة في إقليم أندرا براديش، صاحب الكثافة الخضرية الأكبر، والذي تندلع بسببه حروب بين المتمردين والقوات النظامية التي تعمل على تجريفه للتعدين، ويوضح بارينتي؛ أنّ التغيّر المناخي في الهند، تصاعد مع تصاعد السياسات النيوليبرالية والسوق الحرة، وتخلي الدولة عن الفلاحين وصعود اليمين منذ الثمانينيات.
في هذا الصدد، يتحدث مدرّس الاقتصاد بمدرسة العلوم الاجتماعية في جامعة نهرو الهندية، فيفيك إكسزينا، لـ “حفريات”: “نشأت حركة الناكسال كردّ فعل على السياسات التقشفية التي اتخذتها الدولة بشأن المزارعين، الذين يدفعون وحدهم ثمن الجفاف، ومن السبعينيات تشهد الهند اتساعاً في فجوة اللامساواة بين الطبقات، وهو ما أجّج الصراع بين الماركسية الماوية التي تبناها الناكسال، وبين الدولة”.
يلاحظ بارينتي في كتابه “مدار الفوضى” أنّ ارتفاع وتيرة حرب الماويين في الهند يتوازى مع مواسم الجفاف القاحل
ويتابع: “شهدت بداية، عام 2019، أعمال عنف جديدة من الناكسال، تخبرنا بأنّهم في حالة استعادة النشاط، فرغم اشتراك الاستخبارات للقضاء عليهم، إلّا أنّهم يتقنون الهرب من تلك المحاولات، ورغم التشويه الإعلامي لهم، إلّا أنّ مؤيديهم من المدنيين البسطاء يتواجدون في المنازل والمزارع والجامعات والمشردين في الشوارع”، تكتمل الصورة بالاطلاع على تقارير اللجنة الدولية للمناخ، تحديداً تقرير عام 2015، الذي حمل أنباء سيئة، بتغيرات كارثية في شبه القارة الهندية بالمستقبل القريب، خاصة أنّنا بصدد تناقص جليد الهيمالايا، الذي يعتمد عليه ثلثا المزارعين الهنود، لذلك يرى بارينتي أنّ حرب المياه في الهند هي الوقود الفعلي للأزمة الهندية الباكستانية على كشمير.
وأورد تقرير الاستخبارات المركزية الأمريكية، عام 2010، أنّ الهند ستتعامل مع نقص المياه حتى عام 2030، بعد ذلك ستتراجع هذه القدرة، بسبب خفض الإنتاج الزراعي الناجم عن نقص المياه، وضغط المهاجرين عبر الحدود.
وبالرجوع إلى كتاب “النمط الآسيوي في الإنتاج”؛ يرى الفيلسوف الألماني، كارل ماركس؛ أنّ أنظمة الريّ في جنوب الهند، هي نواتج دول منظّمة ومستقرّة، وربط مشاريع الري الضخمة بالبيروقراطيات الإدارية التي تستوعب الفائض الذي ينتجه المجتمع، فبموجات متتابعة من الجفاف، دُمِّر الصومال وأفغانستان، وتخوض الهند حرب البقاء مع الناكسال، ونقص المياه، حرباً لا تخرج للشاشات والأحاديث الإعلامية، لكنّها حتماً ستفرض بساطها على العالم أجمع.