كريتر نت / هناء بن بريك
في أعالي جبل شمسان وتحديدا في حي ردفان حيث كان الصعود إلى هناك مشقة والنزول منه أيضا مشقة أكبر لوعورته الشديدة.. هناك يسكن جماعي عياش وأسرته في منزل غير مكتمل البناء ذا باب خشبي رفيع ,حيطانه عبارة عن لبن متلاصقة تتخللها بعض الثقوب التي تتسرب منها قطرات الأمطار وحرارة الشمس, نوافذه عارية عدى من أقمشة مهترئة تلاطمها الرياح وسقفه خشبي تتدلى منه مروحة متواضعة تدل على بؤس الحال..
يحوى المنزل ممر ضيق وحجرة واحدة أرضيتها إسفلتية وفي أحدى زواياها تتراص بطانيات مستهلكة تحل محل فراش الأرضيات المعتاد ..
على أرضية تلك الحجرة كانت غدير جماعي ابنة العشرة أعوام جالسة ولاشي يغطي جسدها النحيل سوى حفاظ أطفال , بنيتها الخارجية لا توحي بأنها قد تجاوزت العشر..وبينما يقضي أقرانها أوقاتهم في اللعب والحركة, تمضي هي أعوامها الحافلة بالمأساة جملة وتفصيلا..
لاتعي غدير بما يدور حولها , ولا تملك القدرة على التعبير أو حتى على الشكوى .. الصوت الوحيد الذي ينبعث منها هو صوت أنين متواصل لا يتوقف ..
“عندما ولدت غدير أدركنا بما لايقبل الشك أنها مقبلة على الموت, لم تكن تنمو نموا طبيعيا , ولدت بنظر ضعيف نتيجة مرضها بضمور في الدماغ , واليوم هي لا تستطيع المشي ولا النظر ولا النطق”قال جماعي عياش.
مؤخرا تفاقمت حالة غدير الصحية وأصيبت بمشاكل أخرى في القلب..
” ظللت فترة أعالجها لكني توقفت فما بيدي حيلة” يكمل الحاج جماعي.
لكن غدير ليست الابنة الوحيدة التي تعاني من المرض في أسرة الحاج جماعي, فإلى جانبها هناك أخيها الأصغر عبد الرحمن البالغ من العمر ثلاثة أعوام يعاني أيضا من ذات المرض ولا يستطيع النطق.
” كنا نعالجه منذ مدة , وتدينت المال من أجل ثمن العلاج , لكني لم أتمكن من الاستمرار في شرائه .. أخبرني الأطباء أنه لايجب أن يتوقف عن المعالجة .. لكنني مجبر “قال الحاج جماعي بحسرة ومرارة.
آلاما متراكمة على عاتق الحاج جماعي عياش .. فلا تتوقف المأساة عند مرض طفليه وعدم قدرته على توفير العلاج لهما ..
” إحنا عايشين بالغصب” بنبرة تنبض بالحزن والأسى نطق الحاج جماعي تلك العبارة معبرا عن وضعه عندما عجز من أين يبدأ بسرد تفاصيله ..
ثلاث كلمات وصفت ولخصت بدقة طبيعة الواقع المرير الذي يتقاسمه وأسرته المكونة من 9 أفراد (خمسة فتيات وثلاثة أبناء أكبرهم يبلغ 19 عاما , وكحال مئات النازحين ممن يمرون بذات المصير يعمل جماعي حمالا في المخازن بمصدر رزق غير ثابت.
اضطرته وطأة الإيجارات الباهظة في المنازل الأرضية بالتوجه نحو أعالي جبل شمسان عله يكون سقفا مناسبا لضيق عيشتهم..
” نزحت من مدينة الحديدة تحديدا من مديرية بيت الفقيه بعد اشتداد القصف وضيق المعيشة هناك وبعد نزوحي الى عدن سكنت في البدء في منزل يبلغ إيجاره 25 ألفا في الشهر وهذا مبلغ باهظ لا استطيع توفيره كل شهر .. ما اضطرني إلى البحث عن منزل إيجاره منخفض نسبيا ودلني أحدهم الى هذا المنزل لأنه لا يمكنني تحمل أعباء الإيجار السابق ”
وأضاف قائلا : أن مالك البيت يمهلهم ويصبر عليهم إذا ما تأخر في دفع الإيجار عند حلول وقت الدفع..
منذ عامين لم يستطع جماعي أن يرسل أطفاله الى المدارس , وحتى حين وصوله إلى عدن .. واجه مشكلة ليست فقط في عدم امتلاك المال وتوفير مستلزمات التعليم, بل أيضا في استخراج شهادات وبطائق لأطفاله في المدارس باعتبارهم نازحين ..
وعن ما يحتاجونه في معيشتهم .. نظر الي الحاج جماعي مشيرا بيده الى منزله وأبنته غدير النائمة على الأرضية قائلا
كماترين .. نحتاج أشياء كثير, ينقصنا المواد الغذائية ففي أحيان كثيرة لانجد مايسد حاجتنا ولاخيار لدينا سوى الصبر..
ابنتي غدير كونها لا تستطيع المشي ,تحتاج الى حفاضات بما يصل معدلها الى 4 حفاضات يوميا ..
وعن سؤالي ما اذا ثمة منظمات نظرت إلى حالهم ..
“أجاب جماعي “جاءت إلينا إحدى المنظمات وقدمت لنا بعض البطانيات والمواد الغذائية والبعض الأخر أتى ورحل دون أن نرى شيئا يخفف عنا ويعيننا”
….
وجع موزع بالتساوي على أهالي حي ردفان !!
بعد كلمات الحاج جماعي الأخيرة هممت بمغادرة المكان ولكني فوجئت بامرأة لديها طفل معاق أصرت على لقائي ظنا منها أنني اتبع منظمة أو جمعية لتقديم المساعدة ..وحين أبلغتها بوضوح سبب وجودي وهو التبليغ اكتفت بطلب نشر حالتها وحسب لعل في الأفق بصيص دعم لها..
أخبرتني باقتضاب بأنها أم لأربعة أبناء لا يعيلهم سواها مع وجود أب لا يكترث.. بالإضافة إلى معاناتها مع طفل معاق يحتاج الكثير من الرعاية الخاصة ثم أحضرت بطاقة ابنها لتبث صحة ما ترويه لي..
والدة الطفل فواز محمد ليست نازحة بل من سكان الحي الأصلين ولم تكن هي محطتي الأخيرة هناك.. استوقفتني أمراه أخرى تعاني.. هي أخت الحاج جماعي والتي لديها ابنة معاقة تدعى فاطمة وتبلغ من العمر 11 عاما .. بمجرد دخولي إلى منزلها والذي بتفاصيله كان نسخة من منزل الحاج جماعي..
هيئت لي أوراقها الطبية التي تثبت وجود الإعاقة في قدمي ابنتها والعلاجات التي يجب أن توفر لها .. هي الأخرى ظنت أنني اتبع منظمة لتقديم المساعدة ..
وأخيرا وليس أخرا انتظرتني مرة أخرى والدة الطفل المعاق لكي تدلني على امرأة مسنة مصابة بالسرطان ولكن الوقت لم يسعفني للوصول إليها وغيرها الكثير الكثير ممن لم يصلهم أحد.
ويبدوا أن الفقر والوجع موزع على ساكني حي ردفان بالتساوي .. ففي كل بيت قصة ومعاناة لم تروى ولم يلتفت إليها بعد.