طاهر شمسان
الاجتماع المدني والدولة ظاهرتان متلازمتان تتعذر إحداهما بدون الأخرى..فالاجتماع المدني ينتج دولته “المطابقة” لرهانه..والدولة مستحيلة بدون اجتماع مدني تجاوز أفراده إنتماءاتهم الطبيعية الموروثة وغير المفكر بها وانخرطوا في قرابة جديدة مفكر بها وتعلقوا برهان جديد..ومعنى هذا أن الدولة في الإسلام ليست دولة الدين وإنما دولة الاجتماع المدني الذي شيَّد الدين قرابته وقام على إجماع ديني..وتأسيسا على هذا الفهم للعلاقة بين الدولة والاجتماع المدني لم تكن حروب الفتوحات في تاريخ المسلمين حروب الإسلام الدين، وإنما حروب المسلمين الأمة..والقول بخلاف ذلك يحمِّل الدين المقدس أوزار أمته غير المقدسة التي لم تقتصر غنائم محاربيها في الأمصار المفتوحة على الصوافي والأراضي الخصبة وإنما طالت السكان الذين تحول كثير منهم إلى سبايا وعبيد وموالي..وهذا ما يعلمه جيدا خاصةُ المسلمين من مصادر معتبرة يتعذر الطعن بصحتها.
إن الدين – أي دين – لا يحتاج إلى حروب تكره الناس على اعتناقه، ونحن نعلم كيف حققت المسيحية انتشارها قبل تنصُّر الإمبراطورية الرومانية واستأثرت بالقلوب والعقول مما دفع الإمبراطورية التي “صَلَبَتْ” السيد المسيح إلى الإفراط في التَّنصُّر حدَّ تأليه النبي “المصلوبْ”..وعلى هذا يجب النظر إلى حروب الفتوحات في تاريخ المسلمين على أنها حروب دولة الأمة غير المقدسة لا حروب دينها المقدس.
أما “الجهاد” – كما فهمه مسلمو زمن الفتوحات – فلم يكن سوى العقيدة القتالية التي مدت الفاتحين بروح الاقتحام ومكنتهم من تحمل أعباء الحروب في ظروف شديدة القسوة تحتاج إلى صبر وجلد وشجاعة استثنائية..وكان كل محارب قبيل كل معركة أمام أحد وعدين: إما الشهادة والجنة في الآخرة وإما نصيبه من “الغنيمة” في الدنيا..ولا أحد يستطيع أن يجزم أن دولة المسلمين كانت قادرة على التوسع الإمبراطوري لو أن الأمر اقتصر على وعد واحد هو الجنة دون الغنيمة.
إن الغنيمة في حروب الفتح كانت من بين أهم الحوافز التي وظفتها العقيدة القتالية في تجييش المحاربين..وكان هؤلاء يتحدرون من عصبيات قبلية طالما مارست الإغارة والفيد قبل الإسلام حتى أصبحت الغنيمة مكونا مستقرا في ثقافتها..وليس صحيحا أن الإسلام المبكر محا هذه الثقافة على النحو الذي تصوره لنا الأفلام التاريخية حول حروب الفتوحات..ولكن حتى في الحالة التي تكون فيها الجنة من نصيب المحارب في جيش الفتح فإنه يذهب إليها مطمئنا على نصيب زوجه وأطفاله من بيت مال المسلمين، فضلا عن روح التكافل التي كرستها العقيدة في المجتمع.
إن “الجهاد” بالمعنى العسكري ليس فريضة دينية..والقول بخلاف ذلك يسبب حرجا كبيرا لأصحابه هذه الأيام..إننا نراهم يقدمون ويؤخرون في الكلام دون أن يقدروا على تقديم خطاب مقنع..وهم في كل ما يقولونه لا يفعلون شيئا سوى دفع تهمة الإرهاب عن أنفسهم من خلال التظاهر بدفع هذه التهمة عن الإسلام الذي لا يحتاج إلى من يدافع عنه وإنما إلى من يفهمه ولا ينسب إليه أشياء ليست من جوهره.
إن الجهاد الفريضة هو جهاد النفس باعتباره الجهاد الأكبر المعبِّر عن ماهية الدين وجوهره..وهو بحكم هذه الماهية جهاد موقَّر من كل الأمم وفي كل الثقافات إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها..أما الجهاد الأصغر فهو في أحسن الأحوال شريعة مقيدة بعصر الإيمان..وليس من الجائز أبدا تخفيض الدين العابر للحدود إلى شريعة مقيدة بزمانها ومكانها.
صحيح أن المسلمين الذين مارسوا حروب الفتوحات كانوا يعتقدون أنهم يفعلون ما يفعلون بهدف نشر العقيدة وكانوا في اعتقادهم هذا على حق..ونحن أيضا على حق عندما نؤكد أنهم كانوا يشيدون إمبراطورية في عصر الإيمان الذي تعذرت فيه الحدود بين التبشير الديني والتوسع الدولني..ومثلما كانت الدولة في الإسلام مرافقة للدين كان التبشير بالدين مرافقا للتوسع الدولني..وهذا ترافق عرضي وليس جوهريا..والدليل على ذلك أن المسلم اليوم يستطيع أن يمارس التبشير بالإسلام في أوروبا دون حاجة إلى قتال وفتح..وقد سبق للمهاجرين الحضارم أن فعلوا هذا في شرق آسيا وأرسوا تجربة فذة وفريدة في التبشير نستريح لها كمسلمين دون أن نفكر في دروسها وعبرها.
أما ما يقال عن التضييق الذي يمارس ضد التبشير بالإسلام في أوروبا فمصدره خوف بعض الأوروبيين المبالغ فيه على الدولة العلمانية من شعار “الإسلام دين ودولة” الذي صاغه حسن البنا، وليس النبي الخاتم (ص)..وإذا كان هذا الشعار يتمتع بالجاذبية لدى أوساط واسعة في العالم الإسلامي فهذا ليس لأنه من الدين، وإنما لأن العالم الإسلامي في معظمه مايزال واقعا تحت سلطة النظام المعرفي لعصر الإيمان..والأمر ليس كذلك في أوروبا التي تجاوزته إلى عصري العقل والعلم..وهذا تجاوز معرفي أسَّس لعقل جمعي أصبحت معه العودة إلى نمط دولة عصر الإيمان مستحيلة حتى وإن دخل الأوروبيون في دين الإسلام أفواجا..فعلى افتراض أن أوروبا كلها أسلمت فإن إسلامها في عصر العلم لن يتقبل شيئا من الفقه الذي أنتجه العرب والمسلمون في عصر الإيمان، كما لن يتقبل أيا من المذاهب التي تملأ الفضاءات المجتمعية في العالمين العربي والإسلامي.
نقول هذا لأن كثيرين في العالم العربي يعتقدون أنه إذا أسلمت أوروبا سيكون بمقدورنا أن نمارس عليها مركزية فقهية حتى على صعيد الدولة وقوانينها..وهذا اعتقاد خاطئ ليس له أصل في الإسلام الدين وإنما هو من مظاهر الشعور الدفين بالدونية الحضارية التي تتجلى من خلال التباهي بالإسلام كما لو كان من عناصر التفوق القومي، وليس دينا عابرا للقوميات.
والحقيقة الأولى التي يلزم لفت الانتباه إليها أن هذا التباهي موجه إلى الداخل المتأخر وليس إلى الخارج المتقدم..إنه تباهي من أجل تسكين الشعوب المقهورة وتخديرها، وعنوانه الأبرز:”الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام”..وهذه جملة طافحة بشحنة عصبوية تعبر عن خطاب قومي مشوَّه وليست من الدين الخالص..وعندما نقول “مشوَّه” فلأننا نعلم أن أصحاب هذا الخطاب يعتبرون القومية بدعة..وهي فعلا بدعة مادامت عقولنا لم تتحرر بعد من سلطة النظام المعرفي لعصر الإيمان.
والحقيقة الثانية التي يلزم لفت النظر إليها هي حقيقة متخيلة، لكنها لا تخلو أبدا من قيمة..وعلى هذا الأساس سنفترض أن العالم المتقدم كله اعتنق الإسلام..إن هذا – على استحالته – إذا حصل لن يكون انتصارا للمسلمين، وإنما انتصار للإسلام الدين الخالص متحررا من آثار تاريخ المسلمين عليه..وفي هذه الحالة فإن المركزية الفقهية – إذا مورست – لن يمارسها الطرف المتأخر في سلم الحضارة وإنما الطرف المتقدم..وبالتالي إذا قدر للغرب كله أن يدين بدين الإسلام خلال ال24 الساعة القادمة فإن ما سيحدث خلال ال24 الساعة التي تليها هو علمنة الدولة في العالمين العربي والإسلامي وليس تعميم فقه الشافعي وفتاوى ابن تيمية على الغرب باسم الشريعة الإسلامية..وفحوى هذه المعادلة أن أوروبا عندما تسلم لن تتخلى عن علمانيتها التي ستصبح فقها جديدا، ونحن عندما نتعلمن لن نتخلى عن إسلامنا الذي سيتضح لنا حينها أنه كدين خالص لا يتعارض مع العلمانية..وهذه معادلة صعبة على أي عقل واقع تحت سلطة النظام المعرفي لعصر الإيمان.. في الإسلام ليس من جوهر الدين
طاهر شمسان
الاجتماع المدني والدولة ظاهرتان متلازمتان تتعذر إحداهما بدون الأخرى..فالاجتماع المدني ينتج دولته “المطابقة” لرهانه..والدولة مستحيلة بدون اجتماع مدني تجاوز أفراده إنتماءاتهم الطبيعية الموروثة وغير المفكر بها وانخرطوا في قرابة جديدة مفكر بها وتعلقوا برهان جديد..ومعنى هذا أن الدولة في الإسلام ليست دولة الدين وإنما دولة الاجتماع المدني الذي شيَّد الدين قرابته وقام على إجماع ديني..وتأسيسا على هذا الفهم للعلاقة بين الدولة والاجتماع المدني لم تكن حروب الفتوحات في تاريخ المسلمين حروب الإسلام الدين، وإنما حروب المسلمين الأمة..والقول بخلاف ذلك يحمِّل الدين المقدس أوزار أمته غير المقدسة التي لم تقتصر غنائم محاربيها في الأمصار المفتوحة على الصوافي والأراضي الخصبة وإنما طالت السكان الذين تحول كثير منهم إلى سبايا وعبيد وموالي..وهذا ما يعلمه جيدا خاصةُ المسلمين من مصادر معتبرة يتعذر الطعن بصحتها.
إن الدين – أي دين – لا يحتاج إلى حروب تكره الناس على اعتناقه، ونحن نعلم كيف حققت المسيحية انتشارها قبل تنصُّر الإمبراطورية الرومانية واستأثرت بالقلوب والعقول مما دفع الإمبراطورية التي “صَلَبَتْ” السيد المسيح إلى الإفراط في التَّنصُّر حدَّ تأليه النبي “المصلوبْ”..وعلى هذا يجب النظر إلى حروب الفتوحات في تاريخ المسلمين على أنها حروب دولة الأمة غير المقدسة لا حروب دينها المقدس.
أما “الجهاد” – كما فهمه مسلمو زمن الفتوحات – فلم يكن سوى العقيدة القتالية التي مدت الفاتحين بروح الاقتحام ومكنتهم من تحمل أعباء الحروب في ظروف شديدة القسوة تحتاج إلى صبر وجلد وشجاعة استثنائية..وكان كل محارب قبيل كل معركة أمام أحد وعدين: إما الشهادة والجنة في الآخرة وإما نصيبه من “الغنيمة” في الدنيا..ولا أحد يستطيع أن يجزم أن دولة المسلمين كانت قادرة على التوسع الإمبراطوري لو أن الأمر اقتصر على وعد واحد هو الجنة دون الغنيمة.
إن الغنيمة في حروب الفتح كانت من بين أهم الحوافز التي وظفتها العقيدة القتالية في تجييش المحاربين..وكان هؤلاء يتحدرون من عصبيات قبلية طالما مارست الإغارة والفيد قبل الإسلام حتى أصبحت الغنيمة مكونا مستقرا في ثقافتها..وليس صحيحا أن الإسلام المبكر محا هذه الثقافة على النحو الذي تصوره لنا الأفلام التاريخية حول حروب الفتوحات..ولكن حتى في الحالة التي تكون فيها الجنة من نصيب المحارب في جيش الفتح فإنه يذهب إليها مطمئنا على نصيب زوجه وأطفاله من بيت مال المسلمين، فضلا عن روح التكافل التي كرستها العقيدة في المجتمع.
إن “الجهاد” بالمعنى العسكري ليس فريضة دينية..والقول بخلاف ذلك يسبب حرجا كبيرا لأصحابه هذه الأيام..إننا نراهم يقدمون ويؤخرون في الكلام دون أن يقدروا على تقديم خطاب مقنع..وهم في كل ما يقولونه لا يفعلون شيئا سوى دفع تهمة الإرهاب عن أنفسهم من خلال التظاهر بدفع هذه التهمة عن الإسلام الذي لا يحتاج إلى من يدافع عنه وإنما إلى من يفهمه ولا ينسب إليه أشياء ليست من جوهره.
إن الجهاد الفريضة هو جهاد النفس باعتباره الجهاد الأكبر المعبِّر عن ماهية الدين وجوهره..وهو بحكم هذه الماهية جهاد موقَّر من كل الأمم وفي كل الثقافات إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها..أما الجهاد الأصغر فهو في أحسن الأحوال شريعة مقيدة بعصر الإيمان..وليس من الجائز أبدا تخفيض الدين العابر للحدود إلى شريعة مقيدة بزمانها ومكانها.
صحيح أن المسلمين الذين مارسوا حروب الفتوحات كانوا يعتقدون أنهم يفعلون ما يفعلون بهدف نشر العقيدة وكانوا في اعتقادهم هذا على حق..ونحن أيضا على حق عندما نؤكد أنهم كانوا يشيدون إمبراطورية في عصر الإيمان الذي تعذرت فيه الحدود بين التبشير الديني والتوسع الدولني..ومثلما كانت الدولة في الإسلام مرافقة للدين كان التبشير بالدين مرافقا للتوسع الدولني..وهذا ترافق عرضي وليس جوهريا..والدليل على ذلك أن المسلم اليوم يستطيع أن يمارس التبشير بالإسلام في أوروبا دون حاجة إلى قتال وفتح..وقد سبق للمهاجرين الحضارم أن فعلوا هذا في شرق آسيا وأرسوا تجربة فذة وفريدة في التبشير نستريح لها كمسلمين دون أن نفكر في دروسها وعبرها.
أما ما يقال عن التضييق الذي يمارس ضد التبشير بالإسلام في أوروبا فمصدره خوف بعض الأوروبيين المبالغ فيه على الدولة العلمانية من شعار “الإسلام دين ودولة” الذي صاغه حسن البنا، وليس النبي الخاتم (ص)..وإذا كان هذا الشعار يتمتع بالجاذبية لدى أوساط واسعة في العالم الإسلامي فهذا ليس لأنه من الدين، وإنما لأن العالم الإسلامي في معظمه مايزال واقعا تحت سلطة النظام المعرفي لعصر الإيمان..والأمر ليس كذلك في أوروبا التي تجاوزته إلى عصري العقل والعلم..وهذا تجاوز معرفي أسَّس لعقل جمعي أصبحت معه العودة إلى نمط دولة عصر الإيمان مستحيلة حتى وإن دخل الأوروبيون في دين الإسلام أفواجا..فعلى افتراض أن أوروبا كلها أسلمت فإن إسلامها في عصر العلم لن يتقبل شيئا من الفقه الذي أنتجه العرب والمسلمون في عصر الإيمان، كما لن يتقبل أيا من المذاهب التي تملأ الفضاءات المجتمعية في العالمين العربي والإسلامي.
نقول هذا لأن كثيرين في العالم العربي يعتقدون أنه إذا أسلمت أوروبا سيكون بمقدورنا أن نمارس عليها مركزية فقهية حتى على صعيد الدولة وقوانينها..وهذا اعتقاد خاطئ ليس له أصل في الإسلام الدين وإنما هو من مظاهر الشعور الدفين بالدونية الحضارية التي تتجلى من خلال التباهي بالإسلام كما لو كان من عناصر التفوق القومي، وليس دينا عابرا للقوميات.
والحقيقة الأولى التي يلزم لفت الانتباه إليها أن هذا التباهي موجه إلى الداخل المتأخر وليس إلى الخارج المتقدم..إنه تباهي من أجل تسكين الشعوب المقهورة وتخديرها، وعنوانه الأبرز:”الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام”..وهذه جملة طافحة بشحنة عصبوية تعبر عن خطاب قومي مشوَّه وليست من الدين الخالص..وعندما نقول “مشوَّه” فلأننا نعلم أن أصحاب هذا الخطاب يعتبرون القومية بدعة..وهي فعلا بدعة مادامت عقولنا لم تتحرر بعد من سلطة النظام المعرفي لعصر الإيمان.
والحقيقة الثانية التي يلزم لفت النظر إليها هي حقيقة متخيلة، لكنها لا تخلو أبدا من قيمة..وعلى هذا الأساس سنفترض أن العالم المتقدم كله اعتنق الإسلام..إن هذا – على استحالته – إذا حصل لن يكون انتصارا للمسلمين، وإنما انتصار للإسلام الدين الخالص متحررا من آثار تاريخ المسلمين عليه..وفي هذه الحالة فإن المركزية الفقهية – إذا مورست – لن يمارسها الطرف المتأخر في سلم الحضارة وإنما الطرف المتقدم..وبالتالي إذا قدر للغرب كله أن يدين بدين الإسلام خلال ال24 الساعة القادمة فإن ما سيحدث خلال ال24 الساعة التي تليها هو علمنة الدولة في العالمين العربي والإسلامي وليس تعميم فقه الشافعي وفتاوى ابن تيمية على الغرب باسم الشريعة الإسلامية..وفحوى هذه المعادلة أن أوروبا عندما تسلم لن تتخلى عن علمانيتها التي ستصبح فقها جديدا، ونحن عندما نتعلمن لن نتخلى عن إسلامنا الذي سيتضح لنا حينها أنه كدين خالص لا يتعارض مع العلمانية..وهذه معادلة صعبة على أي عقل واقع تحت سلطة النظام المعرفي لعصر الإيمان..