غوبي بولا
أدى عدد مخيف من الوفيات بكورونا سُجّل الأسبوع الماضي في بريطانيا بين صفوف أشخاصٍ من أصول أفريقية وآسيوية وأقليات عرقية أخرى (يُعرفون اختصاراً بمصطلح “بي إيه إم إي” BAME)، إلى تبديدٍ سريع لمزاعم عن كون الوباء “عادلاً إلى حد كبير بين الأفراد”، إذ دعت شخصيات صحية بارزة وعدد من وزراء حكومة الظل الجديدة التي شكّلها حزب “العمال” البريطاني، حكومة المملكة المتحدة إلى التحقيق في سبب كون أكثر من ثلث من يموتون بالفيروس في وحدات العناية المركزة، هم من أصول أفريقية وآسيوية وأقليات عرقية أخرى. ومن شأن تحقيق عن معدل الوفيات غير المتكافئ، أن يكشف بلا شك مزيداً من الأدلة على العلاقة المعقدة واللافتة بين الصحة وعدم المساواة في بريطانيا. وتُصنّف مجتمعات الـ”بي إيه إم إي”، في مرتبة سيئة لجهة المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية المتعلّقة بالفقر والحرمان. ويُعتبر ذلك نتيجة العنصرية المؤسساتية الطويلة الأمد التي اعتُمدت في السياسات الحكومية الخاصة بالهجرة والإسكان والعدالة الجنائية، والدعم المقدم للضمان الاجتماعي.
ثمة خرافة يروّج لها عدد من “مدّعي المعرفة” وتحتاج إلى أن تُفضَح، تتمثل في تفسير ساذج يعتمد على الاختلافات الجينية بين الأفراد من أصول أفريقية وآسيوية وأقليات عرقية أخرى من جهة، والأشخاص البيض من الجهة الأخرى. وقد يكون هناك فعلاً عامل من عوامل الضعف الوراثي، إلّا أنّ الغالبية الساحقة من محدّدات الصحة يجري تكوينها اجتماعياً. واتصالاً بذلك، يجدر تذكّر أنّ النقاشات حول عامل الخطورة الجينية لها تاريخ طويل سيئ السمعة، إذ تضرب جذورها في فكرة متجذّرة في اصطفاء النسل (“يوجينيا” Eugenic). وفي متابعة للآثار المترتبة على الحياة أو الموت نتيجة التباعد الاجتماعي الفعال، فإنّ فحص الظروف التي يعمل فيها الأفراد ويعيشون فيها، قد يساعدنا على الأرجح في تحديد مَن منهم الأكثر عرضةً لخطر الإصابة بفيروس كوفيد-19، والوصول إلى مرحلة المرض الشديد نتيجة الإصابة.
يأتي أفضل مثل على ذلك في حقيقة أنّ عائلات الـ”بي إيه إم إي” تكون أكثر عرضةً لأن تكون ضمن فئة الأسر المنخفضة الدخل، وتعاني ظروفاً من الاكتظاظ السكاني. وفي وقت سابق، أشار “معهد الدراسات المالية” IFS فعلاً إلى أنّ الأسر ذات الدخل المنخفض، يرجَّح أن تتأثر أكثر من غيرها في المدَيَيْن المتوسط والطويل. وتكشف الأرقام الأخيرة أيضاً عن حضور فائق الارتفاع للمجتمعات من أصولٍ أفريقية وآسيوية وأقليات عرقية أخرى، بين أعداد المشردين أو المسجونين، وهما مجموعتان تعانيان نقصاً كبيراً في وسائل الحماية من انتشار فيروس كورونا.
ويعتمد أيضاً عمال الـ”بي إيه إم إي” بصورة أكبر في الواقع من الأشخاص البيض، على عقود اقتصاد “العمل من دون عقد”، وتُسمّى أيضاً “عقود الصفر ساعة عمل”، فيما هم يشتغلون حاضراً في أعمال تضعهم في درجة عالية من التعرض للإصابة، وتفتقر إلى شبكات أمان اجتماعية واقتصادية. ومن المفارقات أن كثيراً من الأعمال في بريطانيا باتت تعتمد الآن على تلك العقود والأدوار ذاتها بهدف جعل العزلة الذاتية أكثر قابلية للإدارة، ما يعني أن الجانب العنصري للأزمة يزداد تعقيداً. واستطراداً، يتعين على الحكومة البريطانية أن تضمن أن الشركات الخاصة تُزوّد عمّالها المعرّضين بشدة للإصابة بالمرض، بمعدات الحماية الشخصية، بالطريقة ذاتها التي نعطي بها أولويةً للمتخصصين في الرعاية الصحية.
وإضافةً إلى ذلك، فإنّ السياسات المصممة لحماية الفئات الأكثر ضعفاً والحفاظ على مجتمعاتنا آمنة، تتكثف فيها أيضاً جوانب من عدم المساواة. ومثلاً، يتجاهل مشروع قانون العنف المنزلي الأخير، وجود أفراد الـ”بي إيه إم إي”، ممّن قد يكونون من المهاجرين ويُحرَمون من الحق في اللجوء إلى طلب الدعم من الأموال العامة، ما يجعلهم غير قادرين على الوصول إلى ملاذٍ آمن. يُضاف إلى ذلك أنّ مجتمعات الفئات من أصول أفريقية وآسيوية وأقليات عرقية أخرى، تكون أقل قدرةً على الوصول إلى المعلومات المناسبة اللازمة للبقاء في أمان. وقد تفاقمت تلك النقطة من الضعف بسبب التخفيضات المالية على مدار العقد الماضي لفصول تدريس اللغة الإنجليزية. ويؤثر كذلك إقفال الحدائق العامة أثناء فترة الإغلاق الصحي بشكل غير متناسب في المواطنين من الـ”بي إيه إم إي” الذين يفتقرون غالباً إلى مساحة معيشية كافية لممارسة الرياضة والعناية بصحتهم الذهنية.
وإذا وضعنا جانباً مسألة أن هؤلاء ينتمون إلى المجموعات الأكثر ضعفاً أمام المرض، ثمة عوائق كبيرة أيضاً تحول دون حصول مجتمعات الـ”بي إيه إم إي” على رعاية جيدة من قبل هيئة “الخدمات الصحية الوطنية” NHS. ويبدأ ذلك مع تجارب التمييز داخل نظام الرعاية الصحية ذاته، في التخصصات كلها، لا سيما رعاية الأمومة والصحة النفسية ورعاية مرضى السرطان. وتلعب الرسوم المفروضة على الأجانب ممّن يقصدون مرافق “الخدمات الصحية الوطنية”، دوراً مهماً أيضاً في تكوين بيئة معادية للأشخاص الذين يحاولون الحصول على الرعاية الصحية. إنّ مطالبة أفراد مجتمعات الـ”بي إيه إم إي” نفسها التي تعاني أصلاً من التمييز، “بإثبات الحق” في تلقي الخدمة العامة، قد قوّضت الثقة في نظام الرعاية الصحية.
ومن المحتمل أنه أثناء اندلاع أزمة صحة عامة كتفشّي فيروس كوفيد-19، تكون لتلك الجوانب آثار خطيرة في الأشخاص المعرضين فعلاً للخطر. واستطراداً، يشكّل ذلك الأمر عبئاً إضافياً على الحاجة الملحة إلى الحدّ من العدوى.
ومن شأن تعليق الرسوم التي تفرضها مستشفيات “الخدمات الصحية الوطنية”، وما يرتبط بها من مشاركة البيانات مع وزارة الداخلية، أن يؤكد ذلك [وجود توجه إيجابي لبناء الثقة]، عندما يحتاج الأشخاص للوصول إلى الرعاية الصحية، بحيث يعرفون أنهم سيكونون موضع ترحيب. وكذلك، من شأن استراتيجيات تشمل الإفراج عن المحتجزين لدى سلطات الهجرة، ودعم الأشخاص الذين يقيمون في مساكن لجوء مشتركة، وتأكيد عدم جعل كل شخص “متجاوزاً لفترة إقامته”، لأنه كان يعزل نفسه، من شأن ذلك كله أن يمكّننا من معالجة الوباء بشكل أسرع وبصورةٍ أكثر أماناً.
وعلى غرار عددٍ كبيرٍ من الاستراتيجيات المالية الملحة، خصوصاً تلك التي قدمها وزير الخزانة البريطانية في الشهر الماضي، تبدو معالجة التباينات الهيكلية ضرورية الآن لمواجهة هذا الوباء. وستحتاج الحكومة إلى تمحيص كاف لاستراتيجيات الإغلاق وعمليات الإنقاذ المالي، بدءًا من فهم الفوارق العرقية.
وقد تكون نقطة البداية لهذا الأمر، إلزام هيئة “الصحة العامة في إنجلترا” برصد ونشر البيانات على أساس العرق والكثافة السكانية للمجتمعات من أصول أفريقية وآسيوية وأقليات عرقية أخرى، وعوامل الخطر المرتبطة بالمرضى. وبمجرد أن تمرّ هذه الأزمة، ينبغي أن يكون تركيزنا منصباً على التخفيف من التأثيرات الأسوأ التي قد يخلّفها الركود في المستقبل على التفاوتات العرقية القائمة.
في سياق متصل، يلاحظ أن الدعوات إلى الحصول على الحد الأدنى من الدخل آخذة في التزايد، لكنّ ذلك النوع من الأفكار لن يعمل إلّا إذا تضمّن تحليلاً يشمل شرائح المجتمع كلها. وإذا فعلنا ذلك بشكلٍ صحيح، سيمكننا أخيراً أن نتصدى جدياً لتلك السياسات طويلة الأمد التي تقود عدم المساواة الصحية العنصرية في المملكة المتحدة.
( غوبي بولا خبيرة في الصحة العامة ومديرة مؤقتة سابقة لمؤسسة “ميدآكت” الخيرية البريطانية التي تُعنى بالصحة العالمية )
المصدر : الأندبندنت