الاتفاقيات المائية معرضة للضغوط بسبب الندرة التي قد تؤدي إلى نزاعات مباشرة بين الدول
منى عبدالفتاح
بينما يركِّز العالم على زعزعة الاستقرار الاقتصادي والنظام الصحي الذي خلقه وباء كورونا، بزرت في جانبٍ آخر أزمة تلوح في الأفق بتعرَّض اتفاقيات المياه على مستوى العالم إلى ضغوطٍ تحت وطأة الندرة. وهو ما ينبئ بإمكانية تحوُّل القضايا المائية العالقة من أزماتٍ صامتة إلى نزاعاتٍ تستثير كوامن الخوف والهلع على حق الإنسان في المياه. وعليه فقد تغيَّرت أنماط القوة، على ألَّا يكون حل أي صراعٍ ناشئ أو قادم حول المياه مبنيّاً على الأنماط التقليدية، فيما يُتوقَّع أن ينقسم العالم خلال القرن المقبل بين من يملكون الماء ومن لا يملكونه.
حمى بناء السدود
احتلت نزاعات المياه بسبب نوبات الجفاف والفيضانات واجهة الأحداث خلال العامين الماضيين. وهي جزء من الصراعات على المياه التي ظلَّت تعمُّ أرجاء الكرة الأرضية، وكأمثلةٍ لها النزاع بين دول حوض النيل، الذي نشأ منه النزاع بين مصر والسودان وإثيوبيا، على بناء سد النهضة الذي شارفت إثيوبيا على الانتهاء منه. وهناك النزاع بين العرب وإسرائيل حول مياه نهر الأردن، وبين تركيا وكلٍّ من العراق وسوريا حول نهري دجلة والفرات. وكذلك النزاع بين الولايات المتحدة والمكسيك حول نهر الكولورادو، وبين الهند وبنغلاديش حول أنهار الجانغ وبراهمابوترا ومغنا. والنزاع بين زامبيا وبوتسوانا وزيمبابوي وموزمبيق حول تقاسم مياه نهر السنغال، والنزاع بين الهند وباكستان حول نهر الاندوس، وغيرها.
تصديّاً لهذه الأزمة، عقد قطاع الممارسات العالمية للمياه في البنك الدولي خطة عملٍ استراتيجية جديدة في أسبوع المياه العالمي عام 2019، بالتركيز على ثلاث ركائز مترابطة هي: الحفاظ على الموارد المائية وتقديم الخدمات وبناء القدرة على الصمود من أجل عالمٍ يتمتَّع فيه الجميع بالأمن المائي. تمَّ هذا التحرُّك بناءً على دراسةٍ للبنك الدولي أشارت إلى أنَّ مناطق بأكملها قد تشهد انخفاض إجمالي ناتجها المحلي بنسبة تصل إلى 6 في المئة بحلول عام 2050، بسبب خسائر مرتبطة بالمياه في قطاعات الزراعة والصحة والدخل والممتلكات. ويزيد الخطر بتزايد الكثافة السكانية والنمو الاقتصادي الذي يعتمد على الممارسة الكثيفة للزراعة والهدر وتغيُّر المناخ.
وهذا ما يلفت إلى آثار السدود التي يتم بناؤها على الأنهار مثل سدَّ النهضة الإثيوبي، ومشروع تحويل المياه في الصين من نهر يولونغ تسانغو جنوب التبت إلى بكين، وسد بايتايبو الذي يقع على نهر البارانا على الحدود الواقعة بين البرازيل والباراغواي ويجري في الأرجنتين ثم الأورغواي قبل أن يصب في حوض لاباتا. وبناء الهند للعديد من السدود في حوض نهر السند، مما جعل الجيش الباكستاني والجماعات المسلحة تضع هذا النزاع جنباً إلى جنب مع قضية كشمير. وبالإضافة إلى السدود، هناك آثار الإفراط في استغلال الأنهار والتلوث وما يمكن أن يحدثه ذلك من فوضى بيئية تستنزف التنوع البيولوجي. إذ أظهر أول مسحٍ للموارد المائية في الصين عام 2013، أنَّ عدد الأنهار والمجاري المائية قد انخفض بنحو أكثر من النصف على مدى العقود الستة الماضية، حيث فُقد أكثر من 27000 نهر.
أنماط القوة
كواحدة من علاقات الموارد بالصراعات الدولية الأزلية، نشأ الصراع على المياه التي أصبحت تلعب دوراً محوريّاً في تقرير سياسات الدول الداخلية وسياساتها مع بعضها بعضاً. ومن المتوقع انفجار صراعات قومية حول المياه، خصوصاً أنَّ هناك أنهاراً دولية تقطع مساحات شاسعة وتمرُّ بالعديد من الدول، في طريقها إلى المصب. وهذا ما جعل عدداً من الدول تتلقى أكثر من 75 في المئة من مياهها الضرورية من الأنهار من خارج حدودها.
وأوضح ديفيد ميشيل، مدير برنامج الأمن البيئي في مركز ستيمسون (منظمة بحوث السلام والأمن) في واشنطن، أنَّ “قضية حروب المياه أكثر تعقيداً من كونها نظيراً لما يوازيها بشكلٍ مباشر من موارد أخرى. فمن المهم أن يتم التمييز بين أنواع الموارد والمسارات التي يمكن من خلالها أن تسهم في النزاع”. وأضاف ميشيل أنَّ “المياه – في مقابل موارد النزاعات الأخرى مثل الماس – غير قابلة للنهب، وهذا يعني أنَّها ليست مورداً يمكنك أن تحمله وتسير به، فالمتر المكعب من الماء يزن نصف طن”.
وقد برزت معايير لحلِّ النزاعات المائية بُنيت على قوة الدولة التقليدية والحديثة. وُجد أنَّ القوة التقليدية تتميَّز بالثبات النسبي مثل المساحة والحدود والموقع والسكان، إلَّا أنَّها لم تعد هي المؤثر الرئيس إلى قوة الدولة، حيث دخلت العوامل الحديثة وهي العوامل المتجددة بحسب ما يفرضه الواقع الدولي، والمرتبطة بالثورة العلمية والتقنية المتطورة باستمرار. وبالإمكان تغير أنماط القوة من زمانٍ إلى آخر، خصوصاً مع حقيقة التحديات التي تؤمن بأنَّ الخيار ليس للدولة وحدها في أن تثبت مكانتها كقوةٍ دوليةٍ أو تتزلزل قوتها إلى ضعفٍ واضح، وإنَّما تحكمها الظروف الدولية المحيطة ويحكمها امتلاكها عوامل القوة الحديثة علمياً وتكنولوجياً وإعلامياً. وهذه العوامل لا تنتعش إلَّا في ظلِّ نظام سياسيّ مستقر وفاعل.
تقنين الأنهار
في مطلع عقد التسعينيات، طرح تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة لعام 1990 فكرة الأمن البشري كإطار يتجاوز المنظور الكلاسيكي لفكرةِ الأمن الوطني والذي كان محصوراً بالجوانب العسكرية والأمنية وما يتصل بها. بعدها نشأ الأمن المائي كجزءٍ لا يتجزأ من مفهوم الأمن البشري، وأصبح يتمثَّل بالقدرة على الحصول على المياه من أجل الاستهلاك والإنتاج وفي الحدِّ من الطاقات التدميرية للمياه وفي حفظ حق الأجيال القادمة منها.
من هنا برزت الحاجة إلى تقنين المياه، وعلى الرغم من تجديد القوانين وتطويرها إلَّا أنَّها استقت مبادئها من القاعدة المرجعية القديمة في القانون الدولي حول المياه العذبة في العالم التي تعود إلى مبدأ السيادة الإقليمية أو السيادة المطلقة. وهو المبدأ الذي يعطي الحق لكلِّ دولة في السيادة المطلقة على المياه المُشتركة التي تنبع من أراضيها. ولأنَّ ذلك القانون لم يعد يلبي الاحتياجات العصرية، تمَّ التوصل إلى قانون “هلسنكي” حول استخدامات المياه العذبة في العالم التي أقرها الاتحاد القانوني الدولي عام 1966. ولكن لا زالت تعترض تطبيق ذلك قوانين المياه الخصوصية والنسبية، التي تتميز بها الأنهار والمجاري المائية الدولية. وهذا يعني عدم إمكانية تطبيق وصياغة القواعد القانونية بصورةٍ واحدة أو مطلقة وتطبيقها على جميع النزاعات المائية الدولية. ومثال لذلك معاهدة نهر النيل 1929، التي تم تحديثها عام 1959، وحددت حصص مصر والسودان لكنها التي لم ترضِ الطرفين.
وفي هذا السياق تؤكِّد باتريشيا ووترز، أستاذة القانون والمؤسسة لمركز دندي لقانون وسياسة وعلوم المياه في اسكتلندا، أنَّ الأمن المائي يتعلَّق بشكل أقل بطريقة تفكير الأمن العسكري، وبشكل أكبر بفهم المزيد حول ما يعنيه التعاون القانوني. وفي ورقة بعنوان “إعادة تأطير حوار الأمن المائي” قدمتها في مؤتمر قمة الأمن المائي في كوالالمبور في 23 أبريل (نيسان) 2014، قالت ووترز “ينتقص التركيز على الجانب العسكري من مهمة إيجاد قواعد قانونية جديدة وفعالة ونظم إدارة… وبالتالي، يحبط التوجهات التي يمكن أن تقدِّم رؤىً جديدة في التصدي للمشاكل القديمة، والتي تتطور لتصبح أكثر تعقيداً”.
وأضافت ووترز أنَّ “سيادة القانون تعني شيئاً مختلفاً قليلاً من مكانٍ لآخر، وكذلك تكتيكات الدبلوماسية المتتابعة – ولكن النظام القانوني الدولي يشدِّد على التعاون لإدارة المياه والتوترات أو النزاعات المرتبطة بها، بدلاً من التحليل بالأسلوب العسكري”. وهناك رأيٌ آخر يركِّز على الجهد والوقت اللذين يُنفقان في محاولة دعم اتفاقيات المياه العابرة للحدود، وإقناع الأطراف المعنية بضرورة التعاون مما يخلق الحاجة لوسائل أخرى ووجود تفاهمات على المستوى المحلي وعلى مستوى السياسات بخصوص الحاجة لتقاسم المياه من أجل منفعة الجميع.
دبلوماسية المياه
لم تحقِّق الوسائل التقليدية في التسوية السلمية لقضايا المياه النتائج المطلوبة لذا لجأت بعض الدول إلى التماس وسائل دبلوماسية للتسوية، بديلاً من الوسائل القانونية القضائية التي تعتمد على إنزال حكم القانون بغير اعتبارٍ للمصالح أو الاعتبارات الذاتية لدولةٍ ما، أو لمدى حساسيتها بالنسبة إلى دولةٍ نهرية أو لأخرى. وهي نهج يمكِّن مجموعة متنوعة من أصحاب المصلحة من تقييم طرق الإسهام في إيجاد حلولٍ مشتركة. ومن هنا قد يثار أحياناً الدفع بعدم قابلية النزاع للعرضِ على التحكيم أو القضاء. يتفق كثيرون أنَّ نهج دبلوماسية المياه، فعَّالٌ لكنه غير سريع النتائج، كونها تحتاج إلى إجراءاتٍ طويلة الأمد تعتمد على البحث والاستقصاء والتفاوض والتوسط بين الدول وهذا يتطلب فهماً حقيقياً للقضايا المحيطة سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية لكل دولة، للوصول إلى نتيجةٍ واقعية وإدارة قضية المياه بشكلٍ متكامل.
. ويمكن تطبيق الدبلوماسية الوقائية وهي مظهر غير تقليدي من مظاهر العمل الدبلوماسي الداعم للتعاون الدولي والوسائل الدبلوماسية عن طريق مفاوضات ومساعٍ دولية ودية ووساطة، مدعومة بجهودٍ دولية شخصية أو جماعية. كما تُبذل مبادراتٍ فردية تدعو إليها منظمات أو تجمعات دولية من أجل التهدئة والعمل للحيلولة دون تطور أزمة المياه إلى نزاع. ويتوقف ذلك على المكانة الدولية ودعم المجتمع الدولي للجهد الدبلوماسي والتعاون من قبل الأطراف ذات العلاقة بالقضية.
نظراً إلى ضرورة استدامة عمليات التعاون عبر دبلوماسية المياه، استعرض معهد ستوكهولم الدولي للمياه (SIWI) في تقرير صدر عنه مؤخراً، موجزاً للسياسة المتعلقة بدبلوماسية المياه، ركَّزت على مبادرات منظمات دولية متخصصة في مجال المياه، من شأنها الإسهام في إيجاد حلولٍ جديدة مبنية على أساس علمي وحساسة للقيود المجتمعية لمجموعة واسعة من مشاكل المياه، كما تشمل أدوات الدبلوماسيين في مجال المياه والسياسة البيئية واستراتيجية إدارة المياه والحلول الهندسية، ويتم تطبيقها في سياق مشكلة المياه الفردية على النطاق المناسب.
نموذج حوض النيل
بين يدينا نموذج لتعطيل الدبلوماسية المائية الذي أفضى إلى انهيار مفاوضات حوض النيل. بالإضافة إلى الهزات السياسية التي عمّت دول حوض النيل وهي ما أثّرت في السياسات المائية الخاصة باقتسام الموارد المائية، حدث اختلال وارتجاج واضح في ميزان القوى المائية. ففي مقالته “سياسات مياه النيل”، أرجع آني فريتاس من معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية، التابع للاتحاد، ذلك الارتجاج إلى دخول عنصرٍ جديد وخطير ضمن الجهات المانحة والممولة لمشاريع الاستفادة من مياه النيل، بالإضافة إلى عنصر معروف منذ سنوات، وهو “صندوق حوض النيل” المشترك بين المبادرة والبنك الدولي.
وقد كانت آلية عمل الصندوق تفترض الموافقة الجماعية المسبقة من كل دول الحوض قبل الدخول في عملية تمويل أي مشروع للاستفادة من مياه النيل، وذلك بهدف تدعيم البنية التحتية لأيٍّ من الدول الواقعة على ضفاف النيل. ولكن ومع ظهور ممولين جدد مثل الصين والهند ودول الخليج العربي، أصبح التقيُّد بشرط الموافقة الاجماعية غير وارد.
وأضاف فريتاس أنَّ ما شجَّع هذه الدول المتلقية على المضي قدماً في تحقيق طموحاتها التنموية الوطنية، حتى ولو تعارضت مع مصالح الدول الأخرى المطلّة على النهر، هو أنَّ هؤلاء الممولين الجدد قد أتوا بشروط مرنة وغير محملة ببنود تعجيزية، مثل تلك التي اشتهر بها البنك الدولي. وبهذا فقدت دول حوض النيل الحد الأدنى من التفاهم، الذي كان بمثابة صمام الأمان وضامن الحماية من المواجهة الصريحة.
المصدر : أندبندنت