احمد عبدالحكيم
في أيامه الأخيرة وبعد دخوله المركز الطبي لجامعة برنستون الأميركية، إثر معاناة من تمدد الأوعية الدموية، لخّص عالم الفيزياء الشهير والمعروف بـ”أبو النسبية” ألبرت إينشتاين، رؤيته للحياة والعالم قائلاً: “أريدُ الموتَ حين أقرر ذلك، لقد أدَّيت دوري في الحياة، ولا نفع من إطالتها بشكلٍ مصطنع، لذلك سأرحل بلباقة”، رافضاً في ذلك إجراء الجراحة لعلاج المرض.
لم يكن إينشتاين الذي تحلّ اليوم ذكرى وفاته الـ65، علامة فارقة في العلم والمعرفة الكونية فحسب، إذ لا يزال العالم ينبش في إرث الرجل المعرفي، الذي قال عنه الكاتب الأيرلندي الشهير جورج برنارد شو في خطاب قصير عام 1930 إن “نابليون ورجالاً عظماء مثله بنوا إمبراطوريات، لكن إينشتاين وأمثاله بنوا أكواناً كاملة، من غير أن يُسيلوا قطرة واحدة من دم إخوانهم البشر”. فمن يكون الرجل الذي أصبح اسمه مرادفاً للعبقرية، وبات تاريخه مقترناً بالعلوم والمعرفة، وهو الحاصل على جائزة نوبل للفيزياء حين كان عمره 42 عاماً؟
حياته ونشأته
في الرابع عشر من مارس (آذار) 1879 وُلِد إينشتاين في مدينة أولم بألمانيا، ونشأ في أسرةٍ يهوديةٍ علمانية. والده هيرمان كان مهندساً وبائعاً، أسس مع شقيقه شركةً في ميونيخ لصناعة المعدات الكهربائية.
ورغم ما كان يُعرف عن إينشتاين أنه كان كسولاً في المدرسة، قبل أن يصبح صاحب نظرية النسبية التي تعدّ أهم نظرية في علم الفيزياء، فإنه درس الابتدائية في ميونيخ ولم يتأقلم مع النظام التدريسي، وهو ما زاد شعوره بالغربة، إضافة إلى ذلك عانى صعوبات في النطق. وبالمقابل أبدى شغفاً بالموسيقى الكلاسيكية، وتعلّم عزف الكمان، بينما بقي الفضول وحب الاستطلاع أهم ما ميزه في شبابه.
وفي نهاية ثمانينيات القرن التاسع عشر، حسب المصادر التاريخية الموثوقة، أصبح طالب الطب البولندي ماكس تالمود الذي كان يتناول الطعام أحياناً مع عائلة إينشتاين معلمه، وقدّم له كتيباً علمياً للأطفال ألهمه ودفعه إلى الاهتمام بطبيعة الضوء، وخلال سنين مراهقته صاغ ما يمكن اعتباره أوّل أوراقه العلمية بعنوان “التحقيق في حالة الأثير في الحقول المغناطيسية”.
بعد ذلك، انتقل هيرمان إينشتاين مع عائلته إلى ميلان في إيطاليا، بينما بقي ابنه ألبرت عند أقاربه في ميونيخ ليكمل دراسته، وبعد أن وصل ألبرت إلى سن الخدمة العسكرية استخدم تقارير طبية تدّعي معاناته من مشاكل عصبية ليلتحق بعائلته في إيطاليا، والذين أبدوا قلقاً على مستقبل ابنهم، خصوصاً أنه لم يُكمل دراسته.
في هذه الأثناء، استطاع إينشتاين الحصول على قبولٍ في المعهد الفيدرالي السويسري للعلوم التطبيقية، نظراً إلى علاماته المرتفعة في الرياضيات والفيزياء في امتحان القبول، إلّا أنه أكمل دراسته الثانوية قبل دخول المعهد.
وتخلّى إينشتاين عن الجنسية الألمانية في مطلع القرن العشرين ليحصل على السويسرية. وخلال عمله في مكتب براءات الاختراع، كان لديه الوقت ليتوسّع في أفكاره التي كان يفكّر بها في أثناء دراسته، وعزز نظرياته حول ما عُرِف لاحقاً بنظرية النسبية.
ونشر عالم الفيزياء، وهو في عمر الـ26 عاماً، أربع أوراق بحثية في إحدى أشهر المجلات الفيزيائية وهي “أنالن دير فيزيك”، ركّزت على التأثير الكهرضوئي، والحركة البراونية، والنظرية النسبية والعلاقة بين المادة والطاقة، وهو ما فتح آفاقاً جديدة في عالم الفيزياء. وفي ورقته الرابعة توصّل إلى العلاقة الشهيرة E=mc2 (الطاقة = الكتلة في مربع سرعة الضوء)، مقترحاً إمكانية تحويل جزيئات صغيرة من المادة إلى طاقةٍ هائلة، وهو ما شكّل بداية تطور الطاقة الذرية.
وأكمل إينشتاين النظرية العامة للنسبية في أكتوبر (تشرين الثاني) من عام 1915، التي اعتبرها ذروة حياته البحثية، حيث سمحت بتفسير والتنبؤ بأدق مدارات الكواكب حول الشمس وكيفية عمل قوى الجاذبية.
هذه الفرضيات أكدها من خلال الملاحظة والقياسات عالما الفلك البريطانيان السير فرانك دايسون والسير أرثر إدينغتون خلال كسوف الشمس عام 1919، وبالتالي شهد العالم الاعتراف بإينشتاين أيقونة علمية.
وفي عام 1921 حصل على جائزة نوبل في الفيزياء، لكنه لم يتسلّمها حتى العام التالي، نظراً إلى بعض الأمور البيروقراطية، ولأن أفكاره حول النسبية كانت لا تزال موضع شك وتساؤل فإن الجائزة حصل عليها لتفسيره التأثير الكهرضوئي، رغم ذلك فقد تحدّث عن النسبية في أثناء خطاب تسلُّم الجائزة.
وبينما كان إينشتاين يسافر متحدثاً عن نظرياته، كان الحزب النازي بقيادة أدولف هتلر يكسب النفوذ في ألمانيا، مستفيداً من حالة الإحباط في البلاد بعد خسارة الحرب العالمية الأولى، واستطاع الحزب النازي أن يؤثر في كثير من العلماء الذين سموا أعمال إينشتاين “الفيزياء اليهودية”، وأدّى التحريض إلى طرد المواطنين اليهود من الجامعات والمناصب الحكومية، حتى إن إينشتاين نفسه كان هدفاً للقتل.
وتسلّم عالم الفيزياء منصباً في معهد الدراسات المتقدمة في برنستون، نيو جيرسي، عام 1933، حيث أمضى بقية حياته ولم يعد إلى وطنه الأصلي أبداً.
أهم إنجازاته
يعد إنجاز إينشتاين الفكري فريداً من نوعه، فنظريته النسبية العامة قلبت المفاهيم في تفسير حركة الكون وظواهره، وما زالت قواعد هذه النظرية عصيّة على النقض ومؤيَّدة بنتائج التجارب العلمية الكثيرة التي جرت بعد ذلك.
ووفق ما ذكره في كتابه “كيف أرى العالم”، أتت الفكرة للعالم الفيزيائي فى عام 1907 عندما كان يجلس في مكتبه، ورأى من نافذته عمالاً يعملون على سطح المبنى المقابل، الفكرة جوهرها أن الأجسام خلال سقوطها تكون في حالة انعدام الوزن. أي أن انعدام الوزن مكافئ للسقوط الحر، ليتمخّض عن هذه الفكرة أحد المبدأين الأساسيين في نظريته والمعروف بـ”مبدأ التكافؤ”. أما المبدأ الآخر في نظريته فهو مبدأ النسبية الذي استعمله أيضاً في وضعه النظرية النسبية الخاصة، وهي ما قادت في النهاية إلى انقلاب كامل في الفيزياء وفهمها الطبيعة.
وفي الخامس والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1915، قدّم إينشتاين نظريته أمام الأكاديمية البروسية للعلوم، ونشرت في مارس (آذار) 1916 في مجلة “”أنالن دير فيزيك”، وشكّلت حينها ثورة علمية في الفيزياء، وقفزة كبيرة عن قانون الجاذبية الذي وضع أسسه إسحاق نيوتن في عام 1687. إذ بيّن إينشتاين أن الزمان والمكان ليسا ثابتين كما كان يُعتقد في السابق، وإنما هما ظاهرتان تتغيران على غرار كل الظواهر الموجودة في الكون.
وكتب ديفيد كيسر، أستاذ الفيزياء وتاريخ العلوم في جامعة ماساتشوستس، “لقد غيّر إينشتاين مفاهيمنا الأساسية حول الفضاء والزمن، وفتح أعيننا على الكون وبعض ظواهره مثل الثقوب السود”.
كما قالت عالمة الفلك بجامعة كاليفورنيا، أندريا غيز، “قدم إينشتاين نظرية أكثر اكتمالاً عن الجاذبية من العالم إسحاق نيوتن”، وشاركت غيز بدراسة مطوّلة كشفت عن اختلاط مشترك بين المكان والزمان بالقرب من الثقب الأسود، كما تنبأت به نظرية إينشتاين.
ووضع عالم الفيزياء معادلة تحول الكتلة إلى طاقة، مشككاً في الاعتقاد السائد بأن المادة والطاقة أمران منفصلان، وأظهر أنهما شيء واحد في مظهرين مختلفين. وبعد ذلك بعشر سنوات، وضع نظرية النسبية العامة مقدماً فيها نظرة أكثر شمولاً، ومبيناً فيها أن الجاذبية ما هي إلا انحناء في الزمان والمكان يسببه وجود جرم ذي كتلة كبيرة، ولهذا يجذب الأشياء القريبة منه فتسقط عليه. وأثبت أيضاً أن الوقت يمر أبطأ قرب الحقول المغناطيسية القوية، مثل الحقول المغناطيسية للكواكب، مما يكون في الفراغ.
وظلت افتراضات إينشتاين باقية للتفسير والبحث طوال العقود التي تلت وفاته، في الثامن عشر من أبريل (نيسان) 1955، كما بقيت محل شكوك من البعض. وفي يوليو (تموز) من عام 2019 قال علماء فلك إن الضوء الصادر عن نجم يدور في مدار حول الثقب الأسود الهائل وسط مجرتنا، قد يمثل دليلاً جديداً يدعم نظرية النسبية للعالم الراحل ألبرت إينشتاين.
وبعد أن راقب الباحثون نجماً يدعى “S0-2″، يفوق وزنه نحو 10 أضعاف كتلة الشمس، ويدور في مدار بيضاوي الشكل مدة 16 عاماً حول الثقب الأسود، وجدوا أن سلوك الضوء المنبثق من النجم، وهو يقاوم الجاذبية الشديدة التي يفرضها الثقب الأسود، يتوافق مع توقعات نظرية إينشتاين، وفق ما ذكر موقع صحيفة “نيويورك بوست” الأميركية.
الجانب الآخر
حسب ما روي عمن عاصرو حقبة إينشتاين، كان عالم الفيزياء يعشق الموسيقى ويجيد العزف على الكمان، إذ بدأ تعلم العزف على آلة الكمان وهو ما زال طفلاً صغيراً، وواصل العزف حتى توقف كفه الأيمن عن الحركة بالسرعة والدقة المطلوبتين عندما شاخ. كما كان يعزف في الحفلات الموسيقية التي تقام لأغراض خيرية، ويستخدم الموسيقى وسيلة للاسترخاء طيلة حياته.
ومن ضمن الطرائف الأخرى، كان إينشتاين كسولاً في التعلُّم وأصاب أسرته القلق بعدم قدرته على التعلم، هذه الرواية رواها عالم الفيزياء وأسرته للصحافة إنه تأخر في المشي والنطق. وقالت شقيقته مايا، في معرض كتابتها عن شقيقها الشهير، إنه عندما كان ألبرت ولداً صغيراً في وطنهم ألمانيا، كان المقربون منه قلقين من أنه قد لا يتعلم الكلام أبداً.
كما ذكرت أنه في المدرسة، لم ترق دراسة العلوم الإنسانية لإينشتاين أبداً، كما كان يواجه صعوبات كبيرة في الكتابة، وكان يعتقد على نطاق واسع أنه كان يعاني اضطراب القراءة المرضي، وذلك في زمن لم تكن هذه الحالة تخضع للفحص والتشخيص الدوري، وحسب ما قالت شقيقته، فإن مدرس اللغة الإغريقية وبَّخه مرة وقال له إنه لن يصبح شيئاً في حياته. وروت أن إينشتاين رسب في امتحان الدخول إلى الجامعة، واضطر للعمل كاتباً بسيطاً في مكتب. ولكن في تلك الفترة، وجد الوقت الكافي لتطوير أفكاره ونظرياته.
وفي مراحل متقدمة من حياته، وتحديداً قبل 3 سنوات من وفاته رفض عالم الفيزياء أن يكون “رئيساً لدولة إسرائيل”، ففي العام 1952، كتب السفير الإسرائيلي في واشنطن إلى إينشتاين نيابة عن رئيس الوزراء دافيد بن غوريون طالباً منه تولي منصب رئيس الدولة، وذلك كتعبير عن “أعمق احترام يمكن أن يكنّه الشعب اليهودي لأي من أبنائه.” وأكد السفير في رسالته أن إينشتاين “سيُمنح كل الحرية لمواصلة عمله العلمي العظيم.”
لكن عالم الفيزياء رفض العرض، قائلاً إنه “تأثر جداً” به، لكن المنصب لا يناسبه نظراً إلى كبر سنه وشخصيته. وكتب “طيلة حياتي لم أتعامل إلا مع القضايا والأمور الموضوعية، لذا افتقر إلى الميل الطبيعي والخبرة الضرورية للتعامل بشكل صحيح مع الناس وللقيام بالمهام الرسمية.”
وبعد أن تُوفِّي إينشتاين في عام 1955، شرَّح علماء التركيبة الدماغية لعالم الفيزياء، ووجدوها أنها “غير طبيعية”، وتوصلت حينها بحوث جامعة برنستون أن دماغ “أبو النسبية” تميزت بأن خلاياها العصبية مرصوصة بشكل غير طبيعي، الأمر الذي ربما أتاح له التعامل مع المعلومات بشكل أسرع من سواه. كما كانت المناطق في دماغه المسؤولة عن إدراك المكان والتفكير الرياضي أكبر من الحجم الطبيعي.
ولكن يقول البعض إن كل ذلك محض تخمين، وإنه من الصعوبة بمكان إثبات وجود أي علاقة بين تركيب دماغ إينشتاين وعبقريته. وعلى أي حال، يختلف حجم الدماغ بين شخص وآخر. ويحتفظ متحف في ولاية نيو جيرسي الأميركية بمعظم ما تبقّى من دماغ إينشتاين
المصدر :أندبندنت عربية