كتب : عبدالفتاح الحكيمي
خرجت لعبة الحرب في اليمن عن قدرة أو نوايا الأطراف المحلية والدولية في وقفها .. ولعل العائق الأكبر ليس في طبيعة مكونات ما يسمى(أنصار الله) في صنعاء أو في حجمها , بل في تصدر مشروع حكم عائلة بدر الدين الحوثي السلالي وتحكمه بمصير باقي حلفائه من أحزاب وتكتلات طائفية مذهبية وعائلية موازية .. بمقابل ذلك وجود معارضة مذهبية زيدية داخلية كبيرة في حجمها لكنها تفتقد إلى ممكنات تغيير وجه المعادلة وفرض سبيل التسوية السلمية العادلة مع الآخر.
يستند رهان عيال بدر الدين الحوثي في الهيمنة(الطاغية) على مخزون تحالفهم القبلي التقليدي الذي استجلبوه معهم إلى صنعاء وطوقها, يلوحون به لكسر عظم حلفائهم قبل خصومهم في الشرعية,ثم بعد ذلك خيار استراتيجية(الحرب المستمرة) كوسيلة للاستيلاء على كامل السلطة والجغرافيا في اليمن والتحكم بما بعدها إن أمكن ذلك المستحيل.
جرَّد الحوثيون حليفهم الرئيس السابق صالح من عناصر القوة العسكرية الباطشة بتواطوئه شخصيا , وكسبت اليمن بذلك نقطة مستقبلية لصالحها بتفكيك قوة أساسية خطرة مدمرة, أثمها أكبر من نفعها, لكن الحوثة ورثوا عناصر ومقومات ذلك الخراب, فالعتاد العسكري الضخم وقطاع من رجال الصالح والدماء تلاحم ضمن مركز قوى الشر الهادوي الشيطاني الصاعد لاحقا.
مشكلة السلطة الشرعية ليست في تفكك علاقة المكونات المناهضة لمشروع الحكم السلالي والانقلاب, بل أعمق وأسوأ بكثير .. أنها في مصادرة تحالف السعودية الإمارات لقرار حسم المعركة الذي لا يستغرق حجم كل أهوال الدمار والخراب.
أوقفوا قبل عامين خيار تحرير الحديدة قبل ساعات فقط من زحف قوات العمالقة الأخير, ليتسنى للاماراتيين تسليم نصر العمالقة لاحقا للمرتزقة الجدد, وضرب طيران الحلفاء عدة مرات قبل ذلك تقدمات الجيش الوطني في نهم صنعاء على قاعدة(النصر الممنوع) والموت المتاح, فالواضح إن هدف التحالف(العربي) إدارة المعركة بين الانقلابيين والشرعية وليس مساعدة الاخيرة على حسمها.
ولم يحدث أن تم عبر التاريخ العسكري كله تجهيز جيشين متنافرين لقتال عدو مشترك في اللحظة والساعة نفسها دون تفاهمات أو تنسيق وقيادة منسجمة إلا في اليمن حيث تكون العداوة لحليف المعركة أكبر من عداوة الخصم المشترك , فبتشكيل الاشقاء مسمى (قوات مشتركة) من بقايا أنقاض صالح في مأرب والجوف موازي للجيش الوطني وحلفائه تجلت اللحظة القاتلة قبل الأخيرة بتشظي دائرة التناحر الأسوأ بعد معارك الحزم, نهم, والبيضاء لاحقا.
لا يحتاج كسر شوكة الحوثيين كل تلك الحشود(المليشاوية) في مأرب والجوف التي حرفت طبيعة أهداف إسقاط الانقلاب إلى تثبيته وتوسعه .. بل مطلوب قرار واحد فقط أن يعالج الجيش الوطني الموقف بطريقته ودعم محدود متفق عليه من الأشقاء الذين يتهددهم سقوط الجوف أكثر من غيرهم .. فلا يمكن للأنتحار المجاني بهذه الطريقة أن يكون بديلا عن الانتصار.
تمكن الحوثيون على نار هادئة من تدمير ما تبقى من مؤسسات التعليم والإدارة وقطاعات الخدمات العامة والموارد البشرية والاقتصاد وتشويه القيم الدينية والاجتماعية والثقافية, وعبثوا بكل مقومات الحياة والكرامة الآدمية لحساب حالة المسّ السلالي الخبيث , وفتح التحالف كل موبقات أبواب الصراع النكد بين الجيش الوطني وسلطة الشرعية وذيوله المحلية, فلا يوجد تحالف خارجي في العالم عبر التاريخ يضرب مصادر قوة حلفائه الرئيسيين ببشاعة ما حصل( نموذج قتل طيران الإمارات جنود الجيش الوطني ٢٩ أغسطس ٢٠١٩م في مدخل عدن أبين).
* تسوية أطماع التحالف*
أصبح اليوم الاستيلاء على اراضي منافذ أنابيب النفط إلى بحر العرب أهم بكثير حتى من إسقاط نظام حكم ملالي طهران والعراق, والاستمرار في نهب الثروات البحرية في سقطرى بالتجريف, ومصنع الأسماك العائم الغائم فيها غنيمة كبرى تغني حتى عن دعم طارق صالح في استعادة ميناء الحديدة على مسافة حجر أو رصاصة واحدة فقط .. وتهيئة قواعد عسكرية في جزر وبحار اليمن المستقطعة من حنيش وميدي والمخا إلى عدن شبوة وحضرموت سقطرى والمهرة أهم بكثير مما أصبح بنظر أشقاء التحالف العربي( مجرد صراع قوى داخلي يمني-يمني, يخدم أهداف الدول الخاصة في تثبيت مكتسبات لحظة نادرة يستحيل أن تتكرر, ولا في الاحلام والأفلام).
لا يوجد طرف خارجي يريد تسوية سياسية عادلة أو القضاء على الانقلاب, فكل حليف شقيق يسعى إلى تسوية مغانمه عندنا, والاقتتال يغري بتسويات وتمددات وشراهة أكبر .. ومشكلة الجيش الوطني أنه لا يزال قويا بكل المقاييس والقدرات المعنوية والقتالية, وهذه عقدة من يريد تمرير مطامعه في ظل محاذير ممانعة من صحوة جيش يمني خالص لابد من كسر عظمه وجرح كبريائه بأي ثمن.
كلمة السر غير المعلنة بين الحوثيين وتحالف (إسقاط الانقلاب؟) هي هذه الضمانات : إنهاك الجيش الوطني بمعارك جانبية : تمييع أهداف المعركة وفرملتها وخنق الجيش الاستراتيجي بقطع الإمدادات : التدخل بغطاء دولي (ذريعة) لإنقاذ الانقلابيين عند كل تقدم للجيش : تصوير الجيش الوطني كمجموعة إرهابية اكتشف الاشقاء خطورته أكثر من الانقلابيين, وتسويق ذلك لإضعاف سلطة وقوى الشرعية دوليا, وأفاد ذلك السلاليين الحَوَثة في تبرير بشاعاتهم وترويج مقولة (خطأ القضاء عليهم) ..
ويخيل للمرء أنه حتى إذا قبل الانقلابيون بالتسوية (المستحيلة) لإنهاء حربهم سيرفضها التحالف( على لسان الشرعية).
* الحوثي وبحاح خارج السرب *
يتظاهر الحوثيون بتلميحات وتصريحات وزخم اعلامي مبرمج احيانا باختزال كل أزمة وعقدة التسوية في بقاء عبدربه منصور هادي ونائبه على رأس السلطة , وكأنهم على وشك القاء أسلحتهم للتو والاعتذار الخجول للشعب من الغد وإعلان التوبة والندم عن ما الحقوه بالإنسان والحياة اليمنية من دمار .. ويعلمون مدى ثقل وتأثير نائب الرئيس الجاثم على صدورهم, وخبروا ذلك قبل تعيينه وبعدها وفي المستقبل أيضا ..
والآن ولأسباب موضوعية أجزم إن بقاء أمثال الجنرال(المُفْزِع) هو أبرز مصادر قوة جيش الشرعية الوطني, خصوصا بعد فرض مليشيات طارئة تواطأت مع السلاليين في معارك نهم والجوف الأخيرة , فهدف ضرب كل مصادر ونقاط قوة الشرعية لا يخفى , ونعرف أن تباكي قفازات الحوثيين في مناحة هذا الأسبوع ولطم الخدود وشق الصدور(الحسينية) على روح المعزول خالد بحاح باسم(رئيس حكومة و نائب رئيس توافقي) لا علاقة لها ولا مصداقية في رغبتهم بالتسوية المستحيلة, فلا مقارنة إلا بين متشابهين, وليس بين لا شيء نكرة وشيء له وزن وثقل واعتبار .. والدليل الاكبر على شعبية المتنطع خالد محفوظ بحاح المتعاظمة بنظري هو ذهابه بعد كنسه من السلطة إلى مطعم شعبي شهير بالمكلا لأكل الخمير(باخمري) والتقاط مجموعة سيلفي مجانا .. فمؤهله الوحيد عند الحوثيين أعلنه بغباء قبل غضبة الرئيس هادي عليه منتصف ابريل ٢٠٢٦ عندما صرح: أنه ليس بالضرورة تسليم السلاح الثقيل للدولة بالتزامن مع تشكيل الحكومة) خلافا لمنصوص قرار مجلس الأمن الذي يلزم الانقلابيين بذلك , ولكنه يتوافق مع شخص ليس من مؤهلات كفاءة أو إدارة أو سياسية لديه سوى روح انتهازية لم تسعفه في معرفة حجمه كموظف عادي أنتجته بالخطأ صفقة غاز حكومة باجمال المجلجلة الشهيرة, وتسلل عبرها خلسة كثاني أكسيد الكربون كممثل خاوي للجنوب وعليه, وبمواصفات إماراتية أفسدت عليه صفقة تأجير الموانئ !!.
وبين فترة واخرى يعرض خالد البحاح بضاعته المزجاة إعلاميا باستماتة, وكأن قرار نقل صلاحيات رئيس الجمهورية أصبح في جيبه.. هذه العجينة التي لا تصلح حتى لصناعة وجبة الخمير نفسها هي قاسم مشترك لغزل وولع الحوثيين والإماراتيين بالرخص والابتذال ; ولكن تمسك الحوثة ظاهري فقط لإدانة الشرعية بمخالفة (الترشيح التوافقي), وهم لا يعترفون بالرئيس نفسه المنتخب شعبيا ومعترف به دوليا, وأكثر من ذلك نصبوا أنفسهم الحَكَم والمقرر للصواب والخطأ وليس المجرم المدان المطلوب جرجرته من مؤخرته إلى الزنازن واقفاص الاتهام باشاعة كل هذا الخراب والدمار في اليمن .!!.
وعلى كل ذلك تقاس مصداقية موقف السلاليين من السلام المؤقت أو الحل الشامل والدائم .. فقد هيأوا أنفسهم للسيطرة الشاملة على الحكم والتحكم بما سيكون واستعباد الحجر والبقر والشجر في البلاد بمنطق إرث وباء الاستبداد التاريخي المعشعش, ويحلمون بعودته بالنار والحديد.
سيقولون مجلس رئاسة هو الحل, وحكومة وفاق أو تكنوقراط ومقراط, وكلام حالي مطعفر , ودغدغة هنا, وطنطنة كبيرة هناك عن التوافق والتسوية والوطنية ويصرفون الأنظار بأفكار وهمية كلها(زبيج) وهم لم يتقبلون بعد رقابة محلية مشتركة محدودة على إطلاق النار في الحديدة, رفضوا ستوكهولم وتحويل إيرادات الميناء لدفع مرتبات الموظفين, وافرغوا رصاصات القناصة في رؤوس ضباط الارتباط والمراقبين في الحديدة لإرهاب المندوب الاممي عن ما هو أبعد وأكبر .. حتى أصبح موظفوا الامم المتحدة عندهم أما رهائن أو تابعين وشهود زور .. فلم نسمع إدانة واجراءات أممية حقيقية على مقتل ضابط الارتباط الشهيد (الصليحي) الذي قضى قبل يومين متأثرا بعملية جبانة.
* منعطف خطير مثير*
حدث ومنعطف خطير افرزته معطيات المعارك العسكرية الأخيرة .. وتقريبا اكتمل السيناريو الدولي بعزل مناطق المصالح والنفوذ في سواحل وموانئ اليمن .. وبدأت أولى عمليات الانزال البحري الأمريكي والبريطاني من أسابيع في خليج عدن , شبوة وحضرموت لتأمين مصالح شركات النفط والتجارة وتطويق اليمن قدر الإمكان من حدود عمان إلى الحديدة وميدي, وعزل الساحل عن الصحراء والداخل, كأنما يقولون لنا هنيئا لكم الجبال المتبقية فاقتتلوا على نار هادئة بلا شوشرة , فالعالم لم يعد يكترث بالانقلاب ولا بالكلاب, ودون ذلك رهان اليمنيين على عزيمتهم وحدها في هزيمة كابوس الكهنوت, أو بقائهم مُطَرْطَرين في مشاريعهم القروية والمناطقية والعصبية الحزبية ألتي أتاحت للقطعان الضالة في شمال اليمن وجنوبه مصادرة بقايا حياة لم تكن على مايرام ذات يوم وغدت الأسوأ.
وأي تسوية لا تجرد السلاليين من منظومة الفكر السلالي الضال قبل السلاح كأنها لم تكن, وأن يقرر تحالف الاشقاء ما ينبغي على طريقتهم فذلك أسوأ بكثير من لعنة السلالية المقدور على أصحابها بِنَفَس طويل لا يكل ولا يمل, فقد خبرنا كيف فعلت بنا المبادرة(المؤامرة) الخليجية ٢٠١٢ م وكيف انتهت اتفاقية الرياض ٥ نوفمبر ٢٠١٩ م إلى مصادرة ما تبقى من وجود ونفوذ الشرعية في الجنوب.. فلا هم أطعموا قطة الشرعية ولا تركوها تبحث عن رزقها, وفي جعبة السلاليين في صنعاء أكثر من فقاعة سياسية يطلقونها للضحك على غريفيث والمجتمع المحلي والدولي باسم التسوية السياسية وأوهام السلام التي اختصروها بوقف الطلعات الجوية وفك الحصار مكافأة لهم , دعوة في باطنها رغبة جارفة في فرض لغة الانبطاح والاستسلام لمشروع العنصرية السلالية البغيض, وسيتكفل تحالف الاشقاء لاحقا بسحب القليل المتبقي من أسلحة الجيش الوطني وتسليمها للحوثيين لإثبات حسن نواياهم باكتمال سيناريو تمزيق اليمن وتركه للمجهول .. فاسوأ ما يفعله الأشقاء منذ اعوام هو اظهار أن الجيش والقوى والقبائل الوطنية اليمنية الحية سيفقدون قدرة مواجهة مشروع السلاليين بدونهم, وهي رؤية لا تحقق سلاما أو وفاقا وطنيا محتمل, ولكن وصاية عابرة للزمن, فتبدو معركة ومأزق القوى الوطنية مع حلفاء الخارج أكبر من معركة استعادة شرعية الدولة اليمنية.. وليس قدرنا مواجهة السلاليين العنصريين بغطاء حلفاء على هذه الشاكلة وسؤ النية.