رفيق خوري
العالم مرتبك بمقدار ما أوحى أنه منظم، وقوي من حيث بدا هشاً وعاجزاً عن هزيمة وباء بيولوجي بكل ما يملك من تكنولوجيا. وليس التسرع في الرهان على كورونا كعامل تغيير جذري للعالم سوى حلم جميل تحت تأثير كابوس ثقيل. فلا الوباء هو العامل الوحيد الذي أعاد تسليط الأضواء على الدولة الوطنية وأهمية دورها في حماية شعبها، ولا هو، بكل ما يأخذه من ضحايا وما يسببه من رعب، مرشح لأخذ العولمة إلى القبر.
ذلك أن العولمة قديمة، وهي سابقة للدولة الوطنية كما عرفناها منذ عصر النهضة، فضلاً عن أن لها أكثر من طبعة. فلا قرن من دون شيء من العولمة، شيء بالتجارة، شيء بالحروب واحتلال البلدان وإقامة الإمبراطوريات، وشيء بالتطور الرأسمالي وشيء بالأيديولوجيا. ألم يفعل الفاتحون لنشر الدين أو للسيطرة على الموارد الطبيعية في آسيا وأفريقيا وأميركا منذ الإسكندر المقدوني وجنكيزخان وهولاكو والإمبراطوريات الفارسية والعثمانية والأوروبية، أنواعاً من العولمة؟ أليست العولمة هي الترجمة العملية لكتاب لينين “الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية؟”. ماذا عن الأمميات الاشتراكية والشيوعية في القرن العشرين؟ وما هي التحولات التي طرأت على العولمة في صورتها الحالية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وسيطرة اقتصاد السوق على العالم؟
في البدء بدت العولمة سريعة الحركة لا مجال للوقوف في وجهها مثل تسونامي. كانت الحركة اليسارية الرافضة “النيوليبرالية المتوحشة” هي التي رفعت الصوت ضد العولمة لأنها لمصلحة القوة الأميركية العظمى والشركات الضخمة العابرة للقارات وضد الدول الفقيرة وفقراء الدول الغنية. كان رمز العولمة هو “المنتدى الاقتصادي العالمي” في دافوس، ورمز مواجهة العولمة هو “المنتدى الاقتصادي الاجتماعي” في البرازيل. ثم بدأت الشكوى من داخل دعاة العولمة، ففي “دافوس” نفسها دعا حكام نافذون إلى نوع من “عولمة ذات وجه إنساني”. في أوروبا، طلعت صرخة الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية التي ضربت العولمة مصالح قواعدها الشعبية، بحيث ضعف الحزب الاشتراكي الفرنسي. في أميركا، اختصر فرنسيس فوكوياما خطر العولمة بأنه “تدمير الطبقة الوسطى” التي من دونها تفقد الديمقراطية الليبرالية مرتكزها. وجاء دونالد ترمب يعبر عن مصالح المقاولين ورجال الأعمال ويوظف في حملته الانتخابية أضرار العولمة على العمال البيض الذين فقدوا وظائفهم في أميركا.
ثم جاء كورونا الذي كشف هشاشة العولمة وهشاشة الدول الوطنية في وقت واحد، فلا أحد بدا مستعداً وجاهزاً لمواجهة الوباء. ولا شيء مما قيل في كل الاتجاهات صمد أمام المراجعة. دعاة الأوروبية تمسكوا بموقف يشبه موقف أينشتاين، القائل: “القومية مرض طفولي، إنها حصبة الجنس البشري”. والذين ضربتهم العولمة، والذين لم يتحمسوا أصلاً للهوية الأوروبية، ومن ضربهم كورونا ولم تكن دولهم جاهزة ولا جاءتهم المساعدات من الدول القادرة في الاتحاد الأوروبي نفسه، سلطوا الأضواء على كل تناقضات العولمة: من جهة، تجاوز للحدود والقوميات وترتيب لمصالح مشتركة عابرة للدول، ومن جهة أخرى، مزيد من القومية والإثنية والعنصرية والعصبيات ورفض المهاجرين وكل الغرباء والغرق في حروب الهويات. عولمة الاقتصاد مقابل أقلمة الثقافة، لا بل ظهر تعبير جديد هو “عولمة القومية” على أيدي اليمين المتطرف الذي ارتفعت أمواجه في أوروبا وأميركا بتشجيع روسي وأميركي. والمنظّر الكبير للشعبوية اليمينية هو الفيلسوف القومي المتطرف ألكسندر دوغين المسمى “راسبوتين بوتين”. أما الأيديولوجي السويدي مانياس كارلسون، فإنه صار “جندياً في معركة وجودية من أجل ثقافتنا وبناء أمتنا”. حتى في عام 1936، فإن ألمانيا واليابان وقعتا معاهدة ضد الكومنترن الشيوعي انضمت إليها إسبانيا وإيطاليا. ولم يكن ديفيد موناديل يبالغ عندما قال إن “الأحزاب القومية يمكن أن تتفق على العمل خارج الحدود على أساس أنها قوى عالمية”.
لكن من الصعب تجاهل كونية المشاكل والحلول. وأبرز ما كشفه العجز عن مواجهة كورونا وحتى ما ظهر من قدرة لدى بعض الأنظمة، هو الحاجة إلى العولمة والدولة الوطنية معاً. فهل نحن على الطريق إلى “عولمة جديدة” دعا إليها الملك عبد الله الثاني عاهل الأردن؟ لا انقلاب على كل شيء بفعل الوباء، لكن التطورات البطيئة في مسار العولمة مرشحة للتسارع في زمن كورونا.
المصدر : أندبندنت عربية