في عام 1936 توفى فؤاد ملك مصر وتم استدعاء ولي العهد فاروق الشاب (16 عاما) الذي كان يدرس العلوم العسكرية في بريطانيا واستقر الرأي على تنصيب فاروق ملكا بدون انتظار بلوغه سن الثامنة عشر، وهنا نشأ خلاف عنيف فقد أراد بعض أفراد الأسرة المالكة تنصيب فاروق كخليفة للمسلمين في القلعة في حضور شيخ الأزهر مصطفى المراغي الذي أيد الاقتراح بشدة وقال: “إن الله يبعث كل 100 عام للأمة الإسلامية رجلًا يُصلح دينها ويجدد عقائدها ويوحّد صفوفها، وفاروق الأول هو المختار ليكون رجل الـ 100 عام المقبلة”.
رفض حزب الوفد بقيادة مصطفى النحاس هذه البيعة الاسلامية وأصر الوفديون على أن فاروق ملك مدني دستوري وليس سلطانا أو خليفة، وبالتالي يجب أن يتم تنصيبه في البرلمان أمام ممثلي الشعب. انتصر الوفد وتم اقناع فاروق أو اجباره على التخلي عن فكرة الخلافة وتم التنصيب في مجلس الشعب وأدى الملك الجديد القسم أمام نواب الشعب.
عندما نقرأ هذه الواقعة التاريخية لابد أن نتساءل: هل كان حزب الوفد معاديا للإسلام؟ الاجابة بالنفي القاطع فقد كان كثيرون من أقطاب الوفد مسلمين ملتزمين وكان زعيم الوفد مصطفى النحاس متدينا لدرجة انه كان يقطع الاجتماعات حتى لا تفوته الصلاة. لم يكن الوفد ضد الدين اطلاقا لكنه كان ضد الحكم الديني، ضد ان يختلط الدين بالسياسة فيتحول الملك الدستوري إلى الحاكم بأمر الله.
رفع الوفد شعار ثورة 1919 “الدين لله والوطن للجميع” بمعنى أن تكون الدولة راعية لمواطنيها جميعا بغض النظر عن أديانهم وأن تبتعد القيادات الدينية كلها عن العمل بالسياسة أو التدخل فيها بأي شكل. هنا نصل إلى الغرض من هذا المقال. لدى احترام عميق لسيادة البابا تواضروس الثاني. احترام لشخصه ولمنصبه الرفيع وللأقباط جميعا. هذا الاحترام لا يمنعني من توجيه النقد إلى بعض تصرفات البابا من منطلق المحبة والحرص على المصلحة العامة:
أولا: البابا يشكل سلطة روحية ودينية ولا ينبغي أن يكون له دور سياسي لكننا نرى البابا يدلي بآرائه في الشؤون السياسية؟ لا يجوز أن يقال هنا إنها حرية شخصية أو ان البابا يعبر عن رأيه الشخصي لأن البابا أكبر قيادة قبطية في مصر، وهو يمثل الكنيسة وكل ما يقوله يؤثر قطعا على مواقف الاقباط.
البابا مثلا ينتهز كل مناسبة ليكيل المديح للرئيس عبد الفتاح السيسي ويصفه بالقائد العظيم والمايسترو إلى آخر صفات التعظيم، بل ان الكنائس في أمريكا – بأمر أو موافقة البابا – تحشد الأقباط في أوتوبيسات من أجل تنظيم مظاهرات تأييد للسيسي أثناء زياراته لأمريكا.
البابا متحالف مع السيسي وحيث أن البابا رأس الكنيسة والكنيسة تمثل الأقباط فان الأقباط عمليا صاروا متحالفين مع نظام السيسي. ان تحالف الكنيسة مع السيسي عمل سياسي بحت وهو ليس من وظيفة أي كنيسة كما أن هذا التحالف سيكون له آثار سلبية ليس فقط على الأقباط وانما على المصريين جميعا. لا شك أن البابا يعلم ان نظام السيسي قمعي وان هناك عشرات الألوف من معتقلي الرأي في السجون وقد اعترف السيسي نفسه بوجود مظلومين في السجون. كيف سيكون وقع تأييد الكنيسة للسيسي على أهالي هؤلاء المعتقلين وهل سيعتبرون أن الاقباط مسؤولون عن الظلم الواقع عليهم لأنهم حلفاء السيسي؟
ثانيا: عندما ندعو إلى فصل الدين عن الدولة يجب أن نطبق هذا المبدأ على كل الأديان وليس على الإسلام فقط. نحن نوجه النقد دائما إلى الإسلام السياسي الذي يحشر الإسلام في السياسة ونعيب على الاخوان والسلفيين استغلال المشاعر الدينية للبسطاء من أجل الوصول إلى السلطة. يجب أيضا أن نمد الخط على استقامته ونطلب من الكنيسة أن تؤدي رسالتها الروحية العظيمة وتبتعد تماما عن السياسة حتى يتحقق شعار الدين لله والوطن للجميع.
ثالثا: الدين ثابت مقدس والسياسة نسبية متقلبة وبالتالي فان البابا عندما يدلى بآراء سياسية انما يزج بالكنيسة في مجال قد يسيء اليها . لقد أعلن البابا، على قناة TEN
دعمه لإعلان القاهرة لتسوية الأزمة في ليبيا وقال “إن هذا الاعلان خرج ببنود قوية وقوبل بشكل ايجابي من دول كثيرة”. هنا نسأل “هل من وظيفة البابا تقييم المبادرات السياسية ومتابعة آثارها في أنحاء العالم أم أن هذا عمل السياسيين والأجدر بالبابا أن يتفرغ للشؤون الدينية؟
لقد أيد البابا اعادة انتخاب السيسي وقام بتهنئته على فوزه الكبير في الانتخابات، ولا شك عندي أن سيادة البابا يعلم كما يعلم العالم كله أن هذه الانتخابات غير نزيهة وغير ديمقراطية، ولا شك أن سيادته يعلم أن السيسي ألقى بكل منافسيه في السجن. في واقعة أخرى دعا البابا الشعب إلى الاشتراك في الاستفتاء على التعديلات الدستورية التي نسفت الدستور ومكنت السيسي من البقاء في الحكم إلى الأبد والتحكم الكامل في القضاء والأجهزة الرقابية.
ان البابا بكل تأثيره المعنوي والديني عندما يدعو المصريين للاشتراك في هذا الاستفتاء المعيب انما يدعوهم إلى الاشتراك في مسرحية سخيفة بغرض التصوير فقط لأن نتائج الاستفتاء كما نعلم جميعا كانت مجهزة سلفا. ان هذه المواقف السياسية التي يتخذها البابا لمناصرة الديكتاتور انما تورط الكنيسة بكل أسف في الاشتراك في كل ما يرتكبه نظام السيسي من ظلم وقمع وتزوير.
البابا سلطته دينية وليست سياسية والكنيسة لا يجب أن تتحول إلى حزب سياسي.
الديمقراطية هي الحل
draswany57@yahoo.com
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW.