مرض الاختباء خلف الكتاب المقدس ليس عادة خاصة بالرؤساء والقادة العرب والمغاربيين المسلمين لكنها أميركية أيضاً
أمين الزاوي
الدين تجارة خطيرة وسلعة رابحة تباع وتشترى، والزعماء والسياسيون تجّار مهرة في هذه السوق، زعماء في البلدان الأوروبية والأميركية والإسلامية والمغاربية على حد سواء، كلٌّ وشطارته واحترافيته ومعرفته تفاصيل هذه التجارة.
الدين تجارة لا تبور في الغرب كما في الشرق
والدين أيضاً طريق لتمويه النفاق السياسي الذي يمارسه الزعماء من أجل غسل مخ العامة البسطاء من المؤمنين. يحدث هذا في جميع الديانات، كلنا يحتفظ بصور زعماء يؤدون القسم على المصحف أو على الإنجيل، وبعد سنوات يقادون إلى المحاكم، لأجل الفساد والرشوة والسرقات والاغتيالات، وتراهم حاملين المصحف أو الكتاب المقدس.
تعوّدنا، نحن في العالم العربي أو في شمال أفريقيا، أن نرى الزعماء العرب والمسلمين يرفعون المصحف في خطبهم، لا يخلو مكتب مسؤول من نسخة أو أكثر من المصحف الشريف، لا يخلو مكتب مسؤول مهم من سجادة الصلاة أو أكثر، افتح بروفايلات المسؤولين تجد صورهم حاملين المصحف الكريم، ودقق النظر في مكاتبهم تجدهم يعلقون على الجدران لوحات عليها كتبت آيات من القرآن الكريم مرفوعة ببهرجة، آيات عن العدل والأخلاق والنظافة وحسن المعاملة والنزاهة، كل ذلك لإخفاء الوجه الآخر لهذا المسؤول، وامتصاص نقمة وغضب المؤمن البسيط.
من منا لا يتذكّر صورة صدام حسين، وهو حامل نسخة من المصحف في كل جلسات محاكمته، وحتى في لحظة إعدامه؟! الحاكم العربي والمغاربي بشكل عام يبدأ لحظة سلطته بيد على المصحف وينتهي في المحاكم أو أعواد المشانق وبيده المصحف أيضاً، وبين المصحف والمصحف مسيرة من الخيانات والدجل والاغتيالات السياسية والفساد الاقتصادي.
لكن، كنا نعتقد إلى زمنٍ غير بعيد، أن ظاهرة الاختباء خلف المصحف، أي الكتاب المقدس، هي ظاهرة إسلامية فقط، إلا أنّ السياسة الأميركية كشفت لنا عن أن الاختباء بالكتاب المقدس هو شأن أميركي أيضاً، هو ماركة سياسية أميركية أيضاً.
كان صدام حسين يقول إنه قائد حزب علماني، وهو حزب البعث العربي الاشتراكي، لكنه انتهى إلى الدين، حتى وصل به الأمر إلى أن أضاف عبارة “الله أكبر” على العلم الوطني، وانتهى مستنجداً بالمصحف، كي يثير شفقة المؤمنين المسلمين البسطاء، ومثله جعفر النميري وبوكاسا وبن علي وغيرهم.
نعم “الدين أفيون الشعوب”، بالدين يمكن للقائد أن يحوّل المواطنين إلى قطيع، أن يخرجهم من دائرة المواطنة إلى دائرة الغوغاء. والعلمانية صعبة المنال لأنها تعيش في مجتمع ديمقراطي حضاري، يؤمن مواطنوه ومسؤولوه بالتعددية، وحق الاختلاف في العقيدة وفي التفكير وفي اللغة.
يبدو أن مرض الاختباء خلف الكتاب المقدس ليس عادة خاصة بالرؤساء والقادة العرب والمغاربيين المسلمين، لكنها عادة أميركية أيضاً.
حين أخرج جورج بوش الابن جيوشه وأسلحته وهو يستعد للحرب في العراق وإيران، استعمل مصطلحاً دينياً وهو “محور الشر” “Axis of Evil” أو “Axe du mal”، ويعني بذلك “المحور غير المسيحي”، وقد صنّف العالم إلى خيّر وشرير. وهو تصنيف على أساس ديني كنسي، لأنه كان يدرك أن مغامرته في حرب غير مبررة لا يمكن أن يكون الإجماع عليها إلا إذا منحها بُعداً دينياً، وحرب فيتنام لا تزال في أذهان الأميركيين، لقد أعاد جورج بوش الابن العالم إلى مفهومات ومنطق الحروب “الصليبية”، وأعاد أميركا إلى عصر نهاية القرن الـ19 وبداية القرن الـ20، وهو يستنجد بالكنيسة في السياسة والحرب والتوسع.
ثم ها هو الرئيس ترمب يعيد وبشكل استعراضي سياسة الاستنجاد بالدين، من أجل محاولة حل مشكلات سياسته الداخلية والخارجية أيضاً، القائمة على معاداة الجميع، وعلى أن الجميع ضد أميركا، والجميع عدو أميركا، والجميع يسرق أميركا، وهي الخطة نفسها التي يستعملها القادة العرب والمسلمون كلما واجهتهم أزمات داخلية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، إلا وخلقوا لهم عدواً خارجياً، أي ما يسمّى بـ”نظرية المؤامرة”.
يخرج الرئيس الأميركي شاهراً “الكتاب المقدس” في وجه الجميع، وكأنه في عصر الفروسية، وأنه ليس رئيس أكبر دولة نووية. يختفي وراء “الكتاب المقدس” لتغليط العامة من المؤمنين المسيحيين الأميركيين، فبعد أن أخفق في إدارة أزمة كورونا يعود إلى “طلب نجدة الكتاب المقدس”، وهي عادة دارجة في سياسة بلدان العالم الثالث الإسلامي خصوصاً.
أمام انهيار اقتصادي كبير، وموت نحو 80 ألف مواطن أميركي بوباء كورونا، ووجود نحو 20 مليون أميركي في البطالة، لم تعد البنوك ولا الشركات الرأسمالية العابرة القارات، ولا القنابل الذرية التي ترعب، ولا الأسلحة الذكية في القتل، قادرة على إعطاء إجابة شافية للرد على الانهيار، لذا أخرج ترمب إنجيله، ورمى في سلة المهملات تاريخاً طويلاً من العلمانية وثقافة العقل.
وأنا أشاهد ترمب يرفع إنجيله أمام البيت الأبيض ذكّرني بصدام حسين وهو يرفع قرآنه، عند الاثنين عقل فروسي يحكم، فالغضب نفسه، والخوف من السقوط في الهاوية متشابه، واللعب بعقول العامة من المؤمنين هو ذاته.
وأنا أسمع أيضاً ترمب يتحدّث عن “المؤامرة الخارجية ضد أميركا” ذكّرني خطابه بخطب جميع قادة المشرق وشمال أفريقيا، من دون استثناء، وهم يفصّلون في وهم “مؤامرة” تحاك ضدهم وضد بلدانهم!
نقلا” عن أندبندنت عربية