مسرح مكاني واسع في رواية “السماء ليست معنا” وبحث عن جذور الإختلاف
انطوان ابو زيد
الكاتب اللبناني الشاب أحمد محسن، (1984) الثلاثيني، وصاحب الروايتين: “وارسو قبل قليل”، و”صانع الألعاب”، اللتين حازتا تقديراً لدى نشرهما تباعاً، لخمسة أعوام خلت، ها هو يعود اليوم بروايته الجديدة “السماء ليست معنا”(2020)، والصادرة عن دار نوفل- انطوان.
تحكي الرواية قصّة جيل من الشباب اللبناني، يجهد في التغلّب على المظالم اللاحقة به، طوال مراحل حياته البائسة، تهجيراً وفقراً وطموحاً مجهضاً، وقتالاً في غير مكان تحقيقاً لذات جماعية، يتبدّى له أنها زائفة، في آخر المطاف. وإن كان يصحّ القول إنّ الحبكة القصصية الرئيسية في الرواية تكاد تكون غائمة، فإنّ سعي الراوي، ومن ورائه الروائي، صادق لرسم حدود الحدث، في مسرح مكاني متمادٍ، يمتدّ من مخيّم مار الياس للاجئين الفلسطينيين، إلى الضاحية الجنوبية، فإلى شمال سورية ومدينة حلب ومنها إلى ضواحي بيروت، وبعض مستشفياتها.
لكنّ الرواية مصوغة، على ما بدا، صوغاً تسلسلياً أو منطقياً، من الأسباب إلى النتيجة، أو من الحوافز والتلقين والتربية، منذ الصغر، إلى الفعل المترجم هذه التربية والإعداد الإيديولوجي. وبناء على هذا، يمكن اعتبار الرواية “السماء ليست معنا” نامية إلى فئة الروايات الكبرى التي تعالج قضية أو ثيمة، ويرمي مؤلفها إلى المرافعة عن جماعة، أو إطلاق فرضية معيّنة، مستمدّة من علم الاجتماع والإنثروبولوجيا وغيرها، عنيتُ فرضية ارتباط التنشئة الأخلاقية والدينية بل الإيديولوجية لدى الفرد صغيراً، بمواقفه السياسية والحزبية كبيراً، وبانعكاس ذلك على حركته وانتماءاته، وأذواقه، وصولاً إلى انخراطه في فعل عسكري ذي صبغة معيّنة- وما أكثر الصراعات العسكرية المدمّرة التي عصفت بمجتمعاتنا العربية، وكان محرّكها التنظيمات الأصولية المتطرّفة، من داعش وأخواته.
بيئة متعددة
إذاً، ينطلق الروائي من خلفية التربية، التي سلف الكلام عليها، فيصف الأجواء التي ربي فيها ثلاثة فتيان، ومنهم الراوي، محمود وجواد وجمال؛ بيئة فقيرة، هي خليط مهجّرين فلسطينيين من تل الزعتر، وفقراء الجنوب المهجّرين بدورهم من الجنوب، تحت تأثير الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على قراهم الأصلية. ويعمد، من ثمّ، إلى تبيان كيف أنّ هؤلاء الفتيان الثلاثة، إذ ينتقلون من مدارس مسيحية الطابع (القديسة ماريا) إلى مدارس المبرّة الإسلامية، إنما يكون ذلك مؤشّراً إلى تحوّل آبائهم من الانتماء اليساري والماركسي إلى الانتماء الإسلامي، تحوّلاً سوف يصبغ حياة هؤلاء الأبناء صبغة أحادية، ويمحو ما كان سبق لهم أن عمّروه في مخيالهم الفتيّ حول الأديان الأخرى (ولا سيما المسيحية) والمرأة، والفن، واللباس، والمتع العصرية، والسينما، ولعب كرة القدم، ولعب الكلّة أو الدحل، وغيرها. لكنّ طارئاً مأساوياً سوف يرسّخ في نفوس كلّ منهم انتماءه الجديد، وانخراطه العقائدي والعاطفي والسياسي في صفوف الطائفة والدفاع عن مصالحها وسياساتها ومحو كلّ ما سبق لهم اكتسابه من مراحل طفولتهم السابقة؛ فقد قتل من أنسبائهم من قتل، في تفجيرات بير العبد وحارة حريك، وقُهر من قُهر في عمله ووضاعة طبقته، وهُجّر من هُجّر من أهليه، وخُطف من خُطف، حتّى أيقن بمظلوميّته الشخصية ومظلومية جماعته، وانساق إلى مسار انتقامي هو مسارها ومعاركها، وحروبها في ما يتجاوز حدود لبنان إلى سوريا.
وإذ أفصّل في تأويل ما ورد في سياق الرواية، وبين جنباتها، وفي متن الإيحاءات التي تنطوي عليها الفصول والمشاهد غير المتكافئة أحياناً، إنما أنقل وجهة نظر المؤلّف أحمد محسن في تحليله نفسية المقاتل الشيعي اللبناني، الذي “يختار” الالتحاق بصفوف المقاتلين تحت عناوين سياسية مناسبة، ثمّ يكتشف، قبل فوات الأوان، أنّ ذلك العدوّ هو شبيه به، ومساويه، وأنّ موقفه سليم من مقاتلته: “حتى الذين نسميهم المسلحين، هم مثلنا يا محمود. جاء من طردهم وقاتل باسمهم. أنظر جيداً، نحن نحمل سلاحاً. ولكننا في رأس النبع وفي وسط بيروت وفي جل الديب، لسنا مسلحين. لو جاء أحد إلى بلادنا هل كنا سنشهر بوجهه أكياس الأنكل بنز؟”(ص:139)
خطاب فكري
لن يكون متاحاً، ههنا، التوسّع في الكلام على الخطاب الفكري الذي يحمّله المؤلّف لشخصيّاته حيناً بعد آخر، مع أنه يكاد يكون الثقل الأساسي في الرواية، وإن على حساب السرد وبناء المكان والزمان فيها. ويعني هذا الأمر أنّه كان يمكن للسرد أن يتّسع كثيراً، وأن يتبع الروائي المسار الزمني الأفقي لشخصياته، من طفولتهم وفتوّتهم إلى شبابهم ومقتلهم، لولا الوقفات التأملية والوصفية التي ابتدعها لكل منها، ولولا الشخصيات النماذج أو الشواهد التي اختارها (البوبكات البغل، والفتاة المتعلّمة، ومارون، وغيرهم) ليستخلص منها عبَراً، وليضيف إليها آراء في تبخيس النزعة الانغلاقية، وفضح المنحى القمعي في التربية كما في السياسة، كما في الحروب العبثية التي تنتهي بحصد الغنائم والأسرى والجراح الكثيرة والدمار الهائل.
بعد رواية “حي الأميركان” لجبور الدويهي التي يحلل فيها شخصية الانتحاري، ويرسم تحوله عن الانتحار في اللحظة الأخيرة، وبعد رواية “خريف البراءة” لعباس بيضون التي يكشف فيها عن عدوانية تتجذّر في متزعّم جماعة متطرّفة دينياً، فيقتل ابنه غسان بعد قتله امرأته، وبعد رواية “لا طريق إلى الجنّة” لحسن داوود التي يبيّن فيها التحوّل الأخلاقي والفكري البطيء والثابت لرجل الدين، من التزمت إلى الانفتاح، تأتي رواية أحمد محسن “السماء ليست معنا” لتطرح مقولة أخرى، وإشكالية قيد التداول، وهي عبث تصدير العنف من جماعة إلى أخرى، في الوطن الواحد، أو الإطار العربي الواحد، ما دامت جذور العنف كامنة في الاقتصاد، والتربية، والتراتبية الاجتماعية، وفي الانغلاق عن الآخر، المختلف ديناً، ومذهباً، وثقافة وسياسة. علماً أنّ الكاتب محسن حائز ماجيستير في الدراسات الإسلامية-المسيحية من جامعة القديس يوسف في بيروت.
تبقى كلمة أخيرة في اللغة الروائية التي صيغت بها الرواية؛ يستعير الكاتب أسلوب التقرير الصحافي، والقصص القصيرة، والوصف البانورامي الدقيق، حيناً بعد آخر، لتكوين تصوّر عن ذلك العالم الذي يوجّه عنايته لنقله إلى القراء، عنيت عالم الفئة المسحوقة والمهمّشة من اللبنانيين والفلسطينيين، ممن ضاعفت الحروب المتعاقبة مآسيهم العامة والشخصية، وباتوا طعماً للعبة أكبر. ومن الواضح أن الكاتب قصد تجنّب التزويق الأدبي في كلامه، ربما ليستبقي مفعول خطابه في ذهن القارىء. عدا ذلك فالكاتب يدخل لغة فايسبوك إلى أسلوبه، باعتباره من نسيج اللغة الروائية المعاصرة، في العشرية الثالثة من القرن الواحد والعشرين. “تحدثت مع وسام في الواتساب، أخبرته بأنني في الطريق، فأرسل وجهاً ضاحكاً، قال أنه في المحطّة. تدلف الشمس إلى الهاتف، إلى صورة أمي في الواتساب. سألتني ما إذا كنت قد وصلتُ، وعن الطقس، وأرسلتْ لي إيموجي اليدين المرتفعتين. أرسلتُ لها مقطعاً صوتياً، يتخلله حديث بالألمانية…” (ص:168)
نقلا” عن أندبندنت عربية