المستقبليون عموماً يدينون بهذا العلم له على الرغم من أنه لم يهتم كثيراً في تطبيق نظريته
عماد الدين الجبوري
استنتاج
كل مَن يبحث ويحقق في الفكر الخلدوني، يجد عليه مآخذ هنا أو هناك، ولا ضير في ذلك، فالبناء الذي شيده ابن خلدون واسع ومتشعب وكبير، ولكن يكاد النقد يختفي عندما نتناول نظريته في التنبؤ العلمي بالمستقبل، فقد أحدث فيها نقلة علمية لم يستوعبها عصره الآخذ بالاضمحلال. وعندما يؤكد ابن خلدون أن العلم الذي وضع لبنته الأولى، يحتاج فيه المؤرخ إلى إمكانيات شتى ليكون مقتدراً ومتمكناً في خوض غماره، ومن جملة ما يحتاج إليه المعايير الآتية:
العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأمصار في السَّير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحول، والإحاطة بالحاضر ومماثلة ما بينه وبين الغائب (الماضي) من الوفاق أو الخلاف، والقيام على أصول الدول والملل، ومبادئ ظهورها وأسباب حدوثها، وأحوال القائمين بها، حتى يكون مستوعباً لأسباب كل حادث، واقعاً على أصول كل خبر.
في الحقيقة، هذه ليست فقط مخاطبة ابن خلدون للمؤرخين والباحثين، بل إنها صورة ابن خلدون نفسه الذي يُظهر فيها عصارة فكره وذهنه وقمة ما استطاع أن يحققه ويقدمه إلى الإنسانية. فلا عجب أن يبتهج بأنه هو واضع هذا العلم ومبدعه، بعد أن أطلعه الله عليه “من غير تعليم أرسطو” ولا غيره. وفي موقع آخر يقول: “ولي الفضل لأني نهجت السبيل وأضحت له الطريق، والله يهدي لنوره مَن يشاء”.
كما أن استخدام ابن خلدون “المطابقة” في منهجه العلمي في دراسة التاريخ والاجتماع، مهد بصورة أو أخرى إلى أهمية المقارنة، التي تشكّلت في علوم اليوم بصيغة “المنهج المقارن”، الذي أصبح من الموازين العقلية في الفلسفة وفي العلوم الطبيعية، بالإضافة إلى ما يُعرف بـ”المنهج التاريخي المقارن”.
ومع ذلك، فابن خلدون الذي وضع نظرية في المستقبل، لكنه لم يهتم كثيراً في تطبيقها، بل ولم يطرح البراهين اليقينية دعماً لإثبات صحتها، خصوصاً أن منهجه كان يقوم على النقد والتمحيص والملاحظة، ورافضاً البراهين التجريدية كونها لا تفيد علماً طبيعياً. ربما أن ابن خلدون المُشتغل بالسياسة والمُشترك بالمؤامرات لم يسعفه الوقت في تطبيق كل ما كتبه، كما أنه يخضع إلى حدود مُعطيات زمانه. لذلك، فإن مسألة التنبؤ المستقبلي في أوضاع المجتمع ليست أمراً هيناً، إذ تتداخل فيها ظروف وعوامل شتى. إلا أن هذا لا يمنع من القول، إن ابن خلدون ارتكب بعض المغالطات التي نبّه منها، وحذر المؤرخين من أن لا يسقطوا فيها، ومنها ما يتعلق في المعايير بنقل الأخبار.
على أي حال، إذا استطاع مالتوس أن يتميّز على ابن خلدون بإدخال الاقتصاد السياسي في علم الاجتماع، وامتلاك استطلاع مستقبلي أكثر متانة، فذلك يعود إلى نتائج التطور العلمي والاجتماعي في العالم الغربي، الذي لم يعهده ابن خلدون في مجتمعه الآخذ بالتقهقر والآيل للسقوط.
أما فكرة ضبط النسل بواسطة الأوبئة والمجاعات والحروب، وعلى الرغم من أن مالتوس قد تخلى عنها، لكنها بكل تأكيد تثير استغراباً لمجرد التفكير فيها، فكيف الأمر في طرحها بمثابة حل لمشكلة بشرية. وربما ما تعيشه اليوم المجتمعات البشرية في أرجاء المعمورة، وذلك بعد انتشار جائحة كورونا المتطورة عن سارس، التي بلغت مجمل الإصابات لغاية كتابة هذه السطور فوق تسعة ملايين إصابة، والوفيات أكثر من ثلث المليون، وما يُشاع من تصنيع مختبري لها؛ علاوة على سلسلة الحروب التي خاضتها أو حرّكتها السياسة الخارجية الأميركية في أنحاء العالم. يعني أن قراءة المستقبل علمياً أصبحت أكثر ضرورة لوضع تصوّرات ومفاهيم تخدم لا تهدم.
كما أن نظرية مالتوس في نمو السكان، وطريقتها الهندسية والحسابية المستقبلية، بجعل التنافس على موارد العيش هو مُحرك التطور الإنساني، قد ألهمت تشارلس دارون (1809-1882) فكرة الصراع من أجل البقاء، على أُسس مادية بحتة، والتي دفعت أكثر في تجذير المدنيَّة الماديَّة الغربيَّة.
إن ما قدمه المستقبلي ويلز في الجانب الأدبي جعل علم المستقبل لا ينحصر في المجال العلمي والفكري والفلسفي فقط، بل امتد نحو النطاق الأدبي أيضاً، ليضيف فعلًا سمة أخرى لهذا العلم الآخذ بالاهتمام المتصاعد في العالم الغربي خصوصاً، والعالم عموماً.
على الرغم من أن روسيا وبعض بلدان شرق أوروبا دبَّ فيها مذهب المستقبلية في مطلع القرن العشرين، لكن بعد الحرب العالمية الثانية (1941-1945) انتشر أكثر في الجانب الغربي، ويعود سبب ذلك إلى عامل الحرية، ومع أن الفلسفة الوجودية على يد سارتر وغيره لعبت دورها في تهيئة الأجواء لانتشار علم المستقبل، لكن تضاد الوجودية مع الشيوعية كان له أثره وتأثيره أيضاً.
أما الحيز الذي شغله فلختهام، فبالقدر الذي سعى فيه إلى ترسيخ العلم الجديد وحقق شيئاً ملحوظاً، لكنه بالغ في توقعاته عندما جعل المستقبلية طريقاً ثالثاً يستطيع تجاوز الرأسمالية والشيوعية، مستنداً إلى عملية التطوير المجتمعي السائدة في القارة الأوروبية. كما أخفق مالتوس في بعض نظرية النمو السكاني، منها أن إنجلترا استطاعت أن تجعل من صادراتها الصناعية ما يقابلها من استيراد المنتوجات الزراعية، وهكذا لم تكن هناك مشكلة عويصة حيال سرعة النمو السكاني المتزايد على إنتاج موارد العيش البشري، فإن فلختهام أساء التقدير المستقبلي عندما رفع ودفع بالمستقبلية لتكون الجسر الديمقراطي في تجاوز أكبر كيانين سياسيين وقتذاك الرأسمالية والشيوعية، في حين أن المستقبلية هي عملية علمية وليست سياسية اجتماعية، فالأهداف مغايرة.
ومن الملاحظ حقاً، أن المستقبليين عموماً، وبغض النظر عن الشطرين التقليدي والمعاصر في نظرتهم إلى الماضي، وأيهما أكثر قبولاً، يدينون بهذا العلم إلى ابن خلدون، فله يعود الفضل الأول، مع الحفاظ طبعاً على دور أقطاب مؤسسي هذا المذهب، الذي أراه في خضم تكويناته المتصاعدة، مشابهاً للحالة التقريبية مع الوتريين في الخمسين سنة الماضية، إذ لا تزال نظرية الأوتار في طوّر التكوين، ولا أحد يتكهن إلى أين ستنتهي، خصوصاً أن جميع فرضياتها تعتمد على الخيالات الرياضية والهندسية من دون أن تخضعها إلى المختبرات حيث المشاهدة والملاحظة. ولذلك، تواصل نظرية الأوتار قربها إلى الخيال العلمي منها إلى الواقع العياني. فعلم المستقبل لأكثر من قرنين لا يزال يتطوّر وفقاً للمُعطيات والمتغيرات، التي لن تقف عند حدّ معين، ما يعني أن وضعه العلمي يقترن بمدى ما يحققه من نجاح في استشراف وتنبؤات المستقبل.
وكما أن المستشرقين الغربيين من دربلو ودي ساسي إلى بوركشال ودي سلاس وتوينبي، الذين أقرّوا بمكانة ومنزلة ابن خلدون في علم التاريخ، فعلى علماء ومفكري المستقبلية أن يحذو حذوهم تجاه ابن خلدون، فهو الرائد السبّاق في وضع نظرية المستقبل، وكل بحسب حدود زمانه ومكانه.
نقلا” عن أندبندنت عربية