هل كانت المثقفة الروسية كاتبة كبيرة أم رفيقة آراغون فحسب؟
إبراهيم العريس
لعل واحدة من أطرف الحكايات التي تَمثل في خلفية عمل أدبي صدر في فرنسا، تلك المتعلقة برواية تبدو اليوم منسية تماماً وإن كانت أقامت الحياة الثقافية الباريسية ولم تقعدها حين صدرت في عام 1957، وعُرف أن كاتبتها إلسا تريوليه، امرأة الشاعر الكبير لوي آراغون وأخت زوجة الشاعر الروسي المنتحر قبل سنوات من ذلك ماياكوفسكي، كتبتها حين كانت تقوم بزيارة تشيكوسلوفاكيا “مستوحية إياها” من حادث حقيقي وقع في ذلك البلد الذي كان شقيقاً في منظومة البلدان الاشتراكية حينها. والحقيقة أن تلك المعلومات كانت صحيحة، بل إن غلاف الطبعة الفرنسية الأولى للرواية حمل رسماً كان من الواضح أنه يمثل أحياء براغ القديمة التي يُفترض بالأحداث أنها تدور فيها. غير أن للحكاية خلفية أخرى تماماً لا علاقة لها لا ببراغ ولا بالنصب الذي تدور الرواية من حوله. فإلسا تريوليه إنما كانت تبتغي من وراء كتابة هذا النص التدخّل في صراع سياسي – حزبي كان يدور في باريس بالذات ومن حول مجلة “الآداب الفرنسية” les letters francaises التي كان يصدرها، ولكن بالتوافق مع الحزب الشيوعي الفرنسي، رجل إلسا وحبيبها ورفيقها في النضال، آراغون. ومن هنا لا بد أن نتوقف عند حكاية ذلك الصراع كي نفهم رواية “النصب”.
الحكاية حكاية ستالين
قبل ذلك بسنوات قليلة، في 1953، مات ستالين. وفي ذلك الحين كان الشيوعيون في مشارق الأرض ومغاربها، يعتبرون الزعيم السوفياتي الراحل، نصف إله. ومن هنا كان لموته وقع الصاعقة فساد النحيب والزعيق والرعب… ولو إلى حين، أي إلى أن يقف خليفته نيكيتا خروتشيف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي في العام 1956 ملقياً تلك “القنبلة” التي حملت اسم “تقرير خروتشيف”. لماذا قنبلة؟ ببساطة لأن التقرير فضح الجرائم الستالينية من دون مجاملة. لكننا هنا سنعود إلى موضوعنا الأول: ففي باريس وقبل “التقرير”، كان الحزب الشيوعي بين الذين فُجعوا بموت ستالين. وكذلك كانت حال لوي آراغون الذي كرس العدد التالي من مجلته لذلك “الحدث الجلل” طالباً من رفاق الدرب أن يساهموا فيه. فساهم بيكاسو بين آخرين، برسم تصدّر الصفحة الناعية ستالين. والحقيقة أن آراغون وبيكاسو كانا يعتقدان أنهما فعلا ما يتوجب عليهما بكل راحة بال. لكن قيادة الحزب الفرنسي لم ترَ ذلك فوجهت لوماً فورياً إلى آراغون طالبة منه سحب الصورة. لماذا؟ لأنه رسم “شاربي ستالين فيها مالسين وقسماته ناعمة ونظراته طفولية” ما يتناقض مع سمات البطل!
غضب بيكاسو يومها وخاف آراغون على مكانته الحزبية ولكنه لم يكن قادراً على تغيير الأمور فزمن الإلكترونيات والمواقع الصحافية التي يمكن تعديل أي شيء فيها في أية لحظة، لم يكن قد حلّ بعد. فما العمل؟ لا شيء. فموريس توريز زعيم الحزب الذي كان يشارك في جنازة ستالين في موسكو أُعلم بما يحصل فاتصل بقيادة الحزب من فوره لائماً ومطالباً بسحب اللوم من آراغون والاعتذار لبيكاسو. وانتهت هذه الحكاية هنا.
لكنها لم تنتهِ بالنسبة إلى إلسا التي اكتشفت خلال زيارتها براغ حكاية مشابهة، عن نصب أقامه فنان ملتزم تمجيداً لستالين فإذا بحزبه وصحافته التشيكيين ينددان به وبعمله ما أوصله إلى الانتحار لاعتقاده أنه قد أخفق في إبداعه. وهكذا وجدت إلسا في هذه الحكاية ضالة منشودة لترويها في تلك الرواية في نوع من الثأر ممن تسببوا لآراغون بذلك الخوف الذي أحسّ به يوماً.
وصلت الرسالة وأدهشت!
والحقيقة أن كل الذين قرأوا “النصب” حينها فهموا رسالة إلسا تريوليه، بل فهموا في ما هو أبعد من ذلك، وقوفها وآراغون إلى جانب القلبة الأساسية التي حدثت في الذهنية الحزبية الشيوعية طاوية ستالين في أرشيفات التاريخ. ولا بد ههنا من الاعتراف بأن ذلك كان مفاجئاً من إلسا التيكانت عُرفت دائماً بمواقفها الستالينية، إلى درجة أن كثراً قالوا عنها إنها الدافع دائماً وراء كل ما اتخذه آراغون من مواقف ستالينية في مساره الحياتي والكتابيّ هو الذي شكّل مع إلسا وطوال عقود من السنين ذلك الثنائي المدهش الذي أنتج لديه بعض أعظم أشعاره (مثل “عينا إلسا” و”مجنون إلسا”) وكرّسها هي ككاتبة وشاعرة ومترجمة ناهيك عن كونها تلك المناضلة التي ألقت بظلها الكثيف على جزء كبير من حياة آراغون، أكثر مما كرسها ما كتبته هي نفسها. فالحال أن ما كتبه آراغون عنها، ساهم في شهرتها، أكثر مما ساهمت في تلك الشهرة كتب لها مثل “الجواد الأبيض” و”الروح” وغيرهما من مؤلفات لم تنل أبداً من الشعبية ما كان النقد اليساري يرى أنها تستحقه، ومن هنا اعتبرت رواية “النصب” نوعاً من ردّ الجميل ولو الموارب للشاعر الكبير.
ومن هنا حين ماتت إلسا تريوليه في عام 1970 لم يفت عدداً من النقاد أن يتساءل عما إذا كانت فاتنة آراغون وملهمته تعتبر، حقاً، كاتبة كبيرة. والحال أن نسيان الجمهور إلسا، بعد ذلك باعتبارها كاتبة، وتذكّرهم لها فقط حين يؤتى على ذكر آراغون، أمر من شأنه أن يعزز الشكوك التي طالت موهبة تلك السيدة التي كانت، حتى في سنواتها الأخيرة ذات سطوة تعززها شخصية قوية وموقع حزبي سياسي ساهم كثيراً في إعادة آراغون إلى جادة “صوابية” طاعة الحزب الشيوعي في كل مرة كان فيها يحاول أن يحلق بجناحيه. ومن هنا ما لاحظه الكثيرون ممن كانوا يحيطون بآراغون بعد رحيل إلسا، أنه، على الرغم من حسرته المعلنة عليها وتغزله الدائم بها، كان يبدو كمن تحرّر من عبء ثقيل. والحال أن شخصية طاغية مثل شخصية إلسا ما كان يمكنها إلا أن تكون عبئاً ثقيلاً على روح حساسة رقيقة مثل روح الشاعر الكبير لويس آراغون.
من موسكو إلى عاصمة النور
وهل كان يمكن إلسا تريوليه أن تكون ذات شخصية عادية وهي امرأة روسية الأصل وأخت زوجة ماياكوفسكي، وعرفت لينين عن كثب وكان مكسيم غوركي أول الذين شجعوها على الكتابة، وكانت منذ صباها (وهي من مواليد موسكو في العام 1896) منخرطة في النضال الشيوعي وتعتبر من ارستقراطيي الحزب البلشفي إلى درجة أتاحت لها أن تقوم بما يحلو لها من أسفار في وقت كان الاتحاد السوفياتي بأسره يعيش فاقة ومجاعة، ولا يغادره إلى الأبد إلا الإرستقراطيون الباذلون الشرف والمال في سبيل الفرار؟
في 1928 كانت إلسا تريوليه متزوجة من أندريه تريوليه، وكانت قد عادت إلى باريس من رحلة قادتها إلى تاهيتي وبرلين، حين التقت آراغون في باريس، وكان في شرخ صباه وعزّ عطائه فأغرمت به وصارت رفيقة أيامه وملهمة كتاباته والتصقا ببعضهما بعضاً في عروة وثقى لم تنفصم بعد ذلك أبداً. ومن المعروف أن إلسا هي التي قادت شاعرها الشاب بعيداً بعض الشيء من رفقة السورياليين ومن إغراءات التروتسكية، إلى أحضان الشيوعية الرسمية الستالينية بالتحديد.
خلال الحرب العالمية الثانية ساهمت إلسا مساهمة أساسية في المقاومة ضد النازيين، وواصلت نضالها بعد انقضاء الحرب في سبيل الديمقراطية ونشر الأفكار الاشتراكية. وهي كانت قد بدأت تكتب وتنشر بالفرنسية منذ 1938، بعد أن ترجمت العديد من النصوص الروسية ومنها أشعار لصهرها ماياكوفسكي. أما أولى كتاباتها الفرنسية فكان نصاً روائياً عنوانه “مساء الخير يا تيريز” وهي بعده واصلت الكتابة واتخذت معظم كتاباتها طابع التأريخ الروائي للعصر ولروح العصر منظوراً اليهما بعيني فرنسية ذات أصل روسي موزعة الولاء والانتماء، ترى في نهاية الأمر أن وطنها الحقيقي هو حبها: آراغون. إلى جانب هذا وضعت إلسا العديد من الكتب السياسية والفكرية التي عالجت فيها مسائل التعصب والأممية والشرط الإنساني ومستقبل الاشتراكية. وكانت، على أي حال، من أوائل الكتاب الذين نددوا بالأفكار القائلة إن الاستهلاك يمكن أن يكون مصدراً للسعادة (في روايتها “أزهار بالتقسيط”). وكانت إلسا تؤمن بالشعر وبالتطور العلمي في آن (كما عبّرت في كتابها “لونا بارك”) كما آمنت بقوة وإرادة الروح (كما في “الروح”). إلسا تريوليه لم تتوقف عن الكتابة، ومع هذا من الصعب النظر إليها اليوم على أنها كانت شيئاً آخر غير رفيقة آراغون وملهمته ورقيبته الحزبية.
نقلا” عن أندبندنت عربية