ما لم يحدث في تاريخ التحالف الغربي منذ تأسيسه وقع الآن في ضوء تحركات الأساطيل المختلفة والمواقف المتجابهة
وليد فارس
مع تطور الاندحار في العلاقات الفرنسية – التركية، لا سيما بعد الحوادث المتتالية في البحر المتوسط، بات واضحاً أن الجناح الجنوبي لحلف الناتو ولا سيما دول الحلف على سواحل المتوسط قد انقسمت بعمق حول مسألة استثمار الطاقة في تلك المنطقة وحول مستقبل ليبيا.
وبات واضحاً على الصعيد التاريخي أن هذا الانقسام، الذي لم يحدث في تاريخ التحالف الغربي منذ تأسيسه، وقع الآن في ضوء تحركات الأساطيل المختلفة والمواقف المتجابهة بين أعضاء الحلف وتداخل قوى راديكالية في قلب هذه المعادلة، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين. فهذه الجماعة وبحكم نفوذها عبر “حزب العدالة” الحاكم في تركيا ودعمها من قبل حكومة قطر وتواجدها في السلطة في حكومة “الوفاق” والبرلمان التونسي، باتت قادرة على تقسيم صفوف الناتو بالجنوب وبشكل لم نرَ له مثيلاً من قبل، وهذا هو التحليل الإستراتيجي لهذا الملف الخطير.
ومنذ عقود وجماعة الإخوان الدولية تعمل على إضعاف أخصامها الدوليين أكانوا السوفيات خلال الحرب الباردة وحلف الناتو في جميع مراحله، وقد تمكنت هذه الجماعة من خلال خططها الإستراتيجية الشاملة من أن يتعاطوا مع حلف الناتو دولة، دولة، بواسطة قدرات اللوبي المتوفرة لهم من ناحية وخلال الانتشارات التي قام بها هذا الحلف، ولا سيما في أفغانستان بعد عملية 11 سبتمبر (أيلول)، وفي العراق بعد الاجتياح الأميركي إذ إن لوبيات الإخوان كانت تنجح في تموضعها في واشنطن وبروكسل ولندن من ناحية، فتؤثر في سياسات الناتو تجاه منطقة الشرق الأوسط العالمين العربي والإسلامي. ومن ناحية ثانية تستخدم هذا التأثير لكي تنجح في تنمية نفوذها الداخلي في عدد من دول المنطقة.
وبدأت هذه السياسة – المظلة في منتصف التسعينيات مع التأثير في قطر التي تستضيف قاعدة أميركية كبيرة، ونمت بعدها في محيط البحر الأبيض المتوسط بعد نجاح “حزب العدالة والتنمية” في انتخابات تركيا 2002، فانطلقت رحلة الألف ميل من نفوذ الإخوان عبر القدرات الهائلة للدولة التركية، وهي العضو الأكبر حجماً في شرق المتوسط
ومع هذا التأثير في الدوحة وأنقرة، عملت القوى الإخوانية عبر ما كان يسمى “الربيع العربي”، على السيطرة الجارفة على جميع أجزاء جنوب المتوسط، بدءاً من غزة إلى مصر إلى ليبيا فتونس وبشكل جزئي في المغرب، وكان المشروع أساساً للسيطرة على كل السواحل الجنوبية والشرقية للمتوسط باستثناء إسرائيل، وهي عنوان لمرحلة مستقبلية. وقد ركز النفوذ الإخواني على ركني شرق وجنوب المتوسط وهما تركيا ومصر بقيادة محمد مرسي، من أجل إقامة نظام أمني جديد في المنطقة يستفيد من عضوية تركيا في الناتو، ويضع ضغطاً على شكل كماشة على دول الخليج بهدف إسقاط حكوماتها وهي أساساً حليفة لواشنطن، قائدة الناتو. هذا يعني إنه تاريخياً حاول الإخوان بإستراتيجيتهم استعمال الناتو للسيطرة على دول البحر المتوسط والخليج، وكان ذلك واضحاً عندما تمكن هذا اللوبي من الدفع بفرنسا وأميركا وحلف الناتو إلى إسقاط حكم القذافي في ليبيا واتباع البلاد للمنظومة الإخوانية عبر ميليشيات تكفيرية، وذلك من أجل السيطرة على مقدرات النفط والغاز الهائلة.
غير أن سقوط حكم الإخوان في مصر وبروز دور الجيش الليبي وتقدمه باتجاه وسط البلاد وجنوبها، دفع بالإستراتيجية الإخوانية إلى الاستنجاد بقوة تركيا الأطلسية. وإزاء بداية التدخل التركي في ليبيا إلى جانب الميليشيات الإسلاموية، بدأ أعضاء آخرون في حلف شمال الأطلسي يتذمرون من اختراق المنظومة الإخوانية لقلب شمال إفريقيا عبر طرابلس، فتغيرت التحالفات وباتت فرنسا وهي أحد أهم أعضاء الحلف، بالتنسيق مع مصر ودول عربية أخرى لدعم الجيش الوطني الليبي في مواجهة الجماعات المتطرفة في غرب البلاد.
وما جاء ليعقد هذا الاختلاف الداخلي في الحلف الأطلسي، استهداف أنقرة مناطق النفط والغاز في الداخل الليبي وعلى السواحل وأخيراً المناطق المائية بين ليبيا وتركيا، فهزّ التحرك الأخير ولا سيما بعد توقيع الاتفاقية بين أردوغان والسراج، فرنسا واليونان، لأنهما وقعتا ضحيتي توسع بحري يؤدي إلى خسارة أثينا طاقات هائلة وخسارة فرنسا شراكة مع ليبيا والدول العربية في المنطقة.
ونجحت باريس في إصدار قرار أوروبي يمنع تصدير الأسلحة إلى ليبيا، وهذا يعني منع تصدير السلاح التركي إلى حكومة “الوفاق” وميليشياتها الإخوانية. وتمكنت أيضاً من تصدر قوة بحرية أوروبية وبالتالي أطلسية لتفتيش السفن المتوجهة إلى المرافىء الليبية، وحاولت هذه القوة الأوروبية تفتيش سفن تحمل علم تركيا وتبحر بحماية الأسطول التركي، فتصدت لها القطع البحرية التابعة لأنقرة وهددتها. ورداً على هذا التطور غير الطبيعي بين أعضاء الناتو، طلبت باريس من قيادة الأطلسي التحقيق مع تركيا وتعزيز قدرات قوة التفتيش البحرية بقيادة فرنسا وعضوية دول كاليونان وإيطاليا وربما إسبانيا في ما بعد، ولكن تأخر الناتو في التحقيق أزعج فرنسا فأعلنت انسحابها من القوة المشتركة، وذلك يعني أن باريس لن تتأثر باجتماعات الناتو في ما يتعلق بأمن المتوسط، ولديها أسطول كبير في المتوسط، وهذا يعني أن أسطولين أطلسيين باتا على شفير المواجهة في المتوسط قبالة السواحل الليبية على وجه الخصوص، ويضم الجناح الجنوبي للحلف إلى جانب فرنسا، اليونان وإسبانيا وإلى جانب إيطاليا التي بدأت بالقلق على التطورات وإمكانية خسارة مصالحها الاقتصادية.
أما واشنطن المنشغلة في الداخل بازمات مختلفة، فهي حتى الآن لم تتدخل لفض الخلاف بين أصدقائها في شرق الحبر المتوسط أي تركيا وحلفائها في الغرب وعلى رأسهم فرنسا. ومن بين الأسباب المؤدية إلى الموقف الأميركي “المحايد”، تبرز قدرات اللوبي القطري الهادفة إلى تمييع رد فعل أميركا حتى يتمكن الحلف التركي من السيطرة على أكبر قدر ممكن من المناطق.
هكذا إستراتيجياً يمكن قراءة ما يحدث، فالقوة الدولية الإخوانية نجحت في تقسيم حلف الناتو في المتوسط، إلا أن ذلك وحتى تعود واشنطن إلى لعب دور أساسي في حل هذه الأزمة، تقوم القوى الإقليمية بتجميع نفسها لمواجهة الحلف الإخواني، ورأينا ذلك عبر التنسيق المصري الفرنسي مع انتشار الجيش المصري على الحدود الشرقية، وتعبئة دول إفريقية تحت قيادة فرنسا، وتعاظم الانتشار في البحر المتوسط.
وقد حصل تطوران يستحقان المراقبة بشدة في الأيام الأخيرة. الأول اجتماع لأول مرة بين كبار المسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية وكبار قادة الجيش الليبي عبر تقنية الفيديو، وأعلن عنه رسمياً في واشنطن. وكشفت هذه الأخيرة أن أحد أهداف الاجتماع التنسيق ضد الإرهاب والبتّ في مصير الميليشيات. أما التطور الثاني فهو موجة قصف جوي طال قاعدة الوطية في غرب ليبيا، التي سيطرت عليها “الوفاق” وتركيا. ويعتقد البعض أن من يقف خلف هذا القصف غير المعلوم إما هو عربي أو فرنسي، قرر وضع خطوط حمر للتقدم الإخواني التركي باتجاه الجنوب. وذلك ينذر بمواجهات أكبر عبر التوسط وفي صحارى ليبيا ما لم تتدخل واشنطن بشكل حاسم من رأب الصدع للجناح الجنوبي لحلف الناتو، قبل الانتخابات الرئاسية.
نقلا” عن أندبندنت عربية