كتب : رفيق خوري
في عام الاحتفال بمئوية لبنان الكبير، ضاع الاحتفال وكبر الخوف من ضياع لبنان. ما يشغل اللبنانيين هو الحنين الى الماضي، وتراكم الأزمات الخطيرة في الحاضر، والقلق حيال المستقبل. وما يشغل المسؤولين القاصرين عن مواجهة التحديات الكبيرة، والمقصرين في تأمين الحد الأدنى من الخدمات للمواطنين، هو الحروب الصغيرة على الحصص والمصالح في الباقي من المال والسلطة. وليس قليلاً ما سطا عليه هؤلاء وما خسره لبنان. لا فقط من الرأسمال الموروث الذي بدأ به المئوية، بل ايضاً مما اضافه الى الرأسمال اصحاب العقول المبدعة والطموح في مختلف الحقول.
والسؤال التقليدي هو: لبنان الى أين بعد المئوية التي هي مرحلة قصيرة من عمره؟ فقبل آلاف السنين كانت مدن الساحل الفينيقية، صور وصيدا وبيروت وجبيل وطرابلس دولاً تنتج وتتاجر ولديها أساطيل، ومجالس تمثيل ودساتير. وعلى مدى قرون من حكم السلطنة العثمانية للمنطقة، واجزاء من أوروبا كان لبنان مميزاً، بخاصة أيام الأمير فخر الدين المعني والتوسع الجغرافي شمالاً وجنوباً والانفتاح على توسكانا. وأيام الإمارة الشهابية والتحالف مع محمد باشا وابنه ابراهيم باشا في مصر. وأيام القائمقاميتين برعاية مستشار النمسا مترنيخ. وأيام المتصرفية في الجبل برعاية الدول السبع الكبرى في تلك الأيام.
ولم يكن إعلان لبنان الكبير في خريف 1920 على يد الجنرال غورو مجرد جزء من مساحة جغرافية تقاسمها الفرنسيون والبريطانيون المنتصرون على السلطنة. فهو كان واحداً من حلول ” المسألة الشرقية” التي لا يزال بعضها بلا حلول حتى اليوم. وهو كان تسليماً بالتمايز والاختلاف عن المحيط. ولا مبرر لقول سوريا التي تريد ضمه انه “خطأ تاريخي”، ولا لقول فريق لبناني وفرنسي ولاحقاً إسرائيلي انه “خطأ جغرافي” في إشارة الى خروجه من دائرة الجبل.
ذلك ان لبنان الكبير اضاف الى رأسماله الموروث تاريخياً، أرصدة مهمة جداً في منطقة تميل الى التشابه والعدد، بدل التعدد. بين الأرصدة التي جرى اختبارها في مرحلة ما بعد الاستقلال عام 1943 خمسة على الأقل: الحرية، العيش المشترك بالمعنى السياسي لا البيولوجي فقط، التعليم العالي المتميز في الجامعتين الأميركية واليسوعية، النظام المصرفي الكفي في اقتصاد حر، والطبيعة الجميلة. وهي نجحت في الاختبار ثم بدأ التراجع بالقصور الذاتي وضغوط الأحداث الإقليمية والدولية.
فالحرية الواسعة سياسياً وثقافياً ودينياً لم تكتمل بديمقراطية واسعة. بحيث قال الرئيس الدكتور سليم الحص إن “في لبنان الكثير من الحرية، والقليل من الديمقراطية”، وهي مهددة اليوم بالتحول الى دولة بوليسية. العيش المشترك شهد حروباً اهلية واقليمية ودولية وإثارة للعصبيات الطائفية والمذهبية في نظام طائفي، وهو مهدد في هذه الايام بمشروع ” غلبة” مذهبية في إطار مشروع إقليمي. الجامعات الممتازة تواجه ظروفاً مالية صعبة بسبب الازمات الاقتصادية والمالية والنقدية في لبنان. النظام المصرفي خسر الثقة عندما قامر اصحاب المصارف بأموال المودعين مع البنك المركزي لإقراض دولة مفلسة لقاء فوائد عالية جرى إرسالها الى الخارج، وسط الوصول الى هاوية الأزمات. والطبيعة الجميلة دمرناها بتلويث البيئة وقطع الغابات والتعدي على الشواطئ البحرية والنهرية والالتفاف على التنظيم المدني في البناء.
حتى ثقافة الانفتاح، فإنها مهددة بنوع جديد من الفكر الظلامي. والتمايز مهدد بالإلغاء لمصلحة التماثل والتشابه وتوحيد طريقة العيش. وفي مثل هذه التراجعات والانهيارات، فإننا في حاجة الى معجزة وأكبر قدر من الخيال والبراءة والتفاؤل لكي نوقف الانهيار.
أليس ما نراه في هذه الايام هو العودة الى سياسة الفتوحات على أيدي تركيا وإيران بعد إسرائيل في رعاية القوى الدولية الكبرى التي تتدخل عسكرياً بشكل مباشر وغير مباشر؟ واذا كانت “العثمانية الجديدة” ناشطة عسكرياً في سوريا والعراق وليبيا، وعلى مستوى المساعدات “الإنسانية” في لبنان، و”الولاية” الإيرانية ناشطة كثيراً في لبنان وسوريا والعراق واليمن. فإن من الصعب تجاهل سؤال مقلق: هل يعود لبنان الى مناخ السلطنة قبل المئوية الاولى ولكن بنسخة ايرانية؟
في لبنان على الرغم من كل الكوارث، من يقول: مررنا بظروف أصعب، و” قوى الجحيم لن تقوى على لبنان”.
نقلا” عن أندبندنت عربية