كريتر نت – العرب
ربطت بعض الدوائر المصرية بين زيارة مولاتو تيشومي فيرتو المبعوث الخاص لرئيس الوزراء الإثيوبي إلى أنقرة، الخميس، وبين تصاعد حدة أزمة سد النهضة، وزاد توقيت الزيارة الاعتقاد بأن البلدين ينسقان معا للضغط على مصر من الغرب والجنوب، وإذا نجحتا في تشتيت جهودها واستنزاف قوتها المادية في تفاصيل الأزمات فقد تتمكن تركيا من الهيمنة على عدة دول في المنطقة.
وأدت أخطاء مصرية إلى الربط بين أزمتين متنافرتين، وقد صبرت القاهرة أكثر من اللازم، وتحركت بعد أن قطع خصومها شوطا طويلا يصعب تراجعهم عنه بالوسائل التقليدية، وهو ما تتحمله الدبلوماسية التي لم تتبن أفكارا خلاّقة، وتجاهلت عنصر الوقت وما يفضي إليه من انعكاسات يصعب ترميمها.
وأثار النفق الذي دخلته أزمة سد النهضة الكثير من الأسئلة بشأن طبيعة الأخطاء التي ارتكبت وجعلت إثيوبيا تقود دفة الصعود والهبوط في المفاوضات، وتتحكم في مفاتيح أزمة تهدد حياة الملايين من المصريين الذين يعتمدون على مياه نهر النيل.
ولم يعد إلقاء المسؤولية على الأنظمة السابقة كافيا لتفسير النتيجة القاتمة التي وصلت إليها أزمة مثل أزمة سد النهضة جعلت خيارات القيادة الراهنة محدودة، فلا هي قادرة على مواصلة التفاوض بلا معنى من خلال القناة الأفريقية أو مخاصمتها صراحة، ولا هي تستطيع التلويح بالخيار العسكري أو استبعاده تماما.
ويقول مراقبون إن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي تسلم الحكم منذ حوالي ست سنوات، وورث عن سابقيه تركة ثقيلة، أهمها ملف المياه، ولم يتمكن من حل العقدة على مدار هذه المدة لأنه وضع أمله كله في سلة المفاوضات، فهل كانت إثيوبيا عصية على التفاهم مع مصر أم أن هناك فجوات أدت إلى ذلك؟
وشدد الرئيس المصري، الجمعة، خلال اتصال هاتفي مع سيريل رامافوزا، رئيس جمهورية جنوب أفريقيا، على رفض الإجراءات الأحادية الأثيوبية بشأن سد النهضة.
وأكد على “حتمية بلورة اتفاق قانوني شامل بين كل الأطراف المعنية حول قواعد ملء وتشغيل السد، ورفض الإجراءات المنفردة أحادية الجانب التي من شأنها إلحاق الضرر بحقوق مصر في مياه النيل”.
واتبعت أديس أبابا تكتيكا يقوم على المراوغات في كل جولة تفاوضية، واستهلاك الوقت لأكبر فترة ممكنة، وهذا حقها في قضية تتعلق بالمياه والتنمية والاستثمار وتوليد الكهرباء، علاوة على الدور والنفوذ والسيطرة التي تريدها.
وكشفت مصادر سياسية عربية عن إشكالية عميقة في آلية صنع القرار المصري، بامتلاك قدر كبير من التفاصيل في الأزمات التي تحيط بالبلاد، غير أنها تفتقد إلى رؤية دقيقة تتعامل وفقها.
وقالت المصادر في تصريح لـ”العرب”، إن هذه السياسة أضاعت على مصر الكثير من الفرص السانحة، ومكّنت دولة مثل تركيا من استغلال الفراغ العربي والتوغل في دول عربية وأفريقية. بينما بدت مصر، المعادل الموضوعي لتركيا في المنطقة، مكبلة بهواجس تقليدية لو تخلت عنها قليلا لنجحت في تغيير توازنات كثيرة تصب في مصلحتها.
وتمضي إثيوبيا على هذا المنوال، الأمر الذي جعلها تلتقي مع تركيا في نقاط كثيرة، على الرغم من أن أنقرة لديها طموحات في القرن الأفريقي وأقدمت على ممارسات تزعج أديس أبابا نفسها، لكن تتغاضى عنها لأن منافسهما واحد، فمواصلة الضغوط على مصر تقود إلى استفزازها، وقد تجبرها على القيام بإجراءات غير مدروسة.
وأصبحت معظم التحركات التي تقوم بها القاهرة في قضايا حيوية، من ليبيا وحتى سد النهضة، تأتي كردود أفعال، حيث تنتظر معرفة كيف سيتصرف الآخرون ثم تضبط بوصلتها، ما جعل قوتها العسكرية الكبيرة والمتطورة منضبطة وغير مقلقة، حتى تولدت شكوك بأنه قد لا يتم استخدامها حال تجاوز بعض الخطوط الحمراء التي رسمتها لغيرها.
ويمكن أن ينجح توجه التهديد بالنسبة إلى أزمة مثل الأزمة الليبية التي تقع على مرمى البصر من الحدود المصرية، لكنه غير مضمون العواقب بالنسبة إلى أزمة مثل أزمة سد النهضة تبعد مئات الكيلومترات، وهي قضية فنية حتى لو جرى تغليفها بمناحٍ سياسية في تفاصيلها النهائية، ويستلزم التعامل معها التقيد بقواعد تقنية يؤدي الخروج عنها إلى وقوع أضرار بالغة.
ويأخذ البعض من الخبراء على المفاوض المصري استسلامه للمنطق الإثيوبي، وعدم اللجوء مبكرا إلى وقفة حاسمة، وإجراء تعديل في خططه التي لم تحقق الأهداف المرجوة، والبحث عن بدائل ناجعة، لأن حلقات المفاوضات الطويلة باتت عاجزة، والاستمرار فيها يوحي بخمول في العقل الدبلوماسي.
وحين سلكت مصر طريق مجلس الأمن كانت قد تراكمت جملة من المشكلات، ونجحت إثيوبيا في توظيف أدواتها لخلق صورة سلبية عن منافستها ونسجت علاقات مع قوى مختلفة بعضها أيد أديس أبابا في العلن وغالبيتها وفّـرت لها شبكة أمان خفية.
خط إثيوبي واحد في التعامل مع أزمة سد النهضة
وعندما تيقنت مصر مؤخرا من أن إثيوبيا تتمنع في التوصل إلى اتفاق ملزم وجدت نفسها أمام وضع شائك ومحيّر، ورغم أن كل المؤشرات أكدت ذلك تغافل المفاوض المصري عنها وبدا مفتقدا إلى هامش المناورة الذي استثمرت فيه إثيوبيا خلال الفترة الماضية وساعدها على تسجيل عدد من الأهداف في المرمى المصري.
وتشير كل المعطيات إلى أن إثيوبيا تريد إيجاد أمر واقع لمشروعها، وهو ما تدعمه الحصيلة المتدنية التي وصلت إليها المفاوضات دون أن تتخذ مصر في أي من المحطات خطوة لوقف جموح أديس أبابا قبل أن يتحول إلى خطة يتم تنفيذها.
وفسرت مصادر سياسية عربية التفوق الإثيوبي الرمزي بأن الحكومات المتعاقبة في أديس أبابا حددت خطا واضحا لم يتبدل مع تغير القيادات، فالتوجهات العامة واحدة، والتحركات متقاربة، بينما الوضع يختلف في مصر داخل النظام الواحد.
وأوضحت المصادر المطلعة على كواليس الدبلوماسية المصرية لـ”العرب”، أن المشكلة داخل مصر تكمن في تباين التقديرات، فهناك أكثر من جهة لها علاقة بأزمة سد النهضة، منها وزارة الخارجية ووزارة الري، والأجهزة الأمنية المتعددة، فضلا عن رئاسة الجمهورية، وكلها تتشارك في صناعة القرار الذي يتخذه الرئيس السيسي.
وتتسبب هذه المعادلة الموروثة من عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك في تفاوت الرؤى، لأن الجهة صاحبة التأثير الأكبر يتم تبني تقديرها، وفي الغالب لا يميل هذا التقدير نحو المجازفة، بل يفضل التحلي بالحذر والتريث والصبر خوفا من حدوث مفاجآت، وبالتالي تحمل المسؤولية الأخلاقية في حالة الخطأ.