كريتر نت – محمد أبوالفضل – العرب
القاهرة في مرمى استراتيجية إقليمية معادية لها تقوم على تركيز هجوم إعلامي استفزازي يطال رموز البلاد، وتشترك في ذلك تركيا وقطر وجماعة الإخوان المسلمين وإثيوبيا. وفيما يضغط هؤلاء باستمرار على مصر لعرقلة نفوذها الإقليمي تبدو إمكانيات القاهرة محدودة في مواجهة هذه الموجة بسبب ارتباك أداء الإعلام المصري الذي يركز على الداخل من خلال مديح السلطة بدل خوض معاركها الخارجية.
أصبحت المفردات الدعائية الاستفزازية سمة في الخطاب الذي تتبناه تركيا وقطر وجماعة الإخوان في الأزمة الليبية تجاه خصومهم الرئيسيين، الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر، وكلّ من مصر والإمارات وفرنسا، وروسيا أحيانا، ونالت القاهرة النصيب الأكبر لأن خصومتها مع هؤلاء مباشرة بحكم الجوار مع ليبيا.
لم يعد هذا الاتجاه قاصرا على مواقع التواصل الاجتماعي المنفلتة، ووسائل الإعلام التي تنتهج خطا عدائيا لمصر، بل غلب على تصريحات الكثير من المسؤولين، فلا تجد مسؤولا كبيرا أو صغيرا في تركيا، أو يعمل ضمن حكومة الوفاق في طرابلس، ويدلي بدلوه في الأزمة الليبية إلا ويحشر مصر، ويتفوه بكل ما هو سلبي عنها، في مطابقة كبيرة للمصطلحات التي تروّج لها جماعة الإخوان، والتي تكررها قناة الجزيرة بلا ملل.
لا أعلم أيّا من الجانبين السياسي أم الإعلامي أثر على الآخر ونقل قاموسه إليه، لكن المؤكد أن هناك تكاملا وانسجاما بينهما، وفقا لخطة ترمي لممارسة أقصى ضغوط نفسية ممكنة على مصر، وتتعمد صياغة منظومة محكمة تضخّم من الدور التركي وأهميته في ليبيا، وتقلل من الدور المصري وتجاوز حيويته وعافيته الراهنة، من حيث القوة والمشروعية وحجم التأييد الشعبي والقدرة على التأثير المادي والمعنوي.
صياغات مبتورة
أعدّت جماعة الإخوان بالتنسيق مع تركيا وقطر مؤخرا مكونات خطاب يستهدف مصر وحلفاءها، يقوم على وضع ملف الحريات وحقوق الإنسان في الواجهة، والتركيز على استهداف القيادات الكبيرة ومتابعة تصريحاتها بتعليقات ساخرة، وتحريض الدول الغربية على ذريعة إنقاذ الديمقراطية المغدورة في ليبيا، لصرف الأنظار بعيدا عن الإرهابيين ومن يقدمون الدعم السخي إليهم، ناهيك عن القول بأن استعانة الليبيين بجيش مصر خيانة، كأن الاستعانة بتركيا مروءة.
يريد هؤلاء وضع مصر دوما في حالة الدفاع عن النفس، وتجريدها من المبادرة، واستغلال التريث الذي تبديه في التعامل مع ليبيا لصالحهم، ومحاولة توجيه الأضواء على سد النهضة كأزمة وجودية، بينما الغرض تخفيف الضغوط على الساحة الليبية.
إثيوبيا لجأت إلى الاستفزاز في أزمتها مع مصر ودشنت قاموسا لا يختلف كثيرا عن نظيره التركي والقطري والإخواني لاستهدافها
ينتشر القاموس الدعائي مع كل تحرك تقوم به القاهرة حيال ليبيا، ومع كل موقف تؤكد فيه انحيازها لوحدة الدولة وأهمية وجود قيادة عسكرية مركزية تنهي سيطرة الميليشيات، وتوقف التدخلات التركية السافرة.
يستخدم الخطاب الاستفزازي صياغات مبتورة ومعاني خالية من المحتوى الجاد والمنطقي، ما يشي بأن الصياغة الدعائية تهدف إلى تضخيم دور هذا الفريق وأنصاره ونسج خيالات يتم التعامل معها على أنها واقع حقيقي، حيث يؤدي ترديدها من خلال منصات معدة لهذا الغرض أصلا إلى إيجاد صورة ذهنية محابية لها لمجرد أنها تستخدم عبارات توحي بعدم الضعف، حتى لو كانت فارغة من المضامين السليمة.
انظر إلى كلام المتحدث باسم القوات المسلحة التابعة لحكومة الوفاق، محمد قنونو، الجمعة، عقب استقبال مصر لوفد كبير من القبائل الليبية، عما وصفه بـ “العواصم المتآمرة”، حيث قال “مدرّعاتكم صارت رمادًا وسنعيد أبناءكم في توابيت.. ما سلم منها صارت في قبضتنا وسنحفظها في متحف الحرب”، هل لدى العصابات المسلحة قدرة لتحقيق هذا الهدف، وهل تضمن حكومة الوفاق التي يمثلها قنونو البقاء في المستقبل كي تقيم متحفا للحرب في ليبيا، وهل لديها قوة موحدة أساسا؟
يريد قنونو وأمثاله في حكومة الوفاق والمجلس الرئاسي ووزارة الداخلية وحليفتهم تركيا تعميم هذا الخطاب الساذج في مواجهة الخطاب المصري الذي يستند على قوى موجودة فعلا على الأرض، تمثل شريحة كبيرة في المجتمع الليبي.
لعل تصريحات رئيس مجلس الدولة خالد المشري ومندوب حكومة الوفاق في الأمم المتحدة طاهر السني تكشف عن حجم البؤس السياسي لدى خصوم مصر، حيث دأبا الهجوم على مصر في كل موقف تتقاطع فيه من قريب أو بعيد، وتكاد تنحصر مهمتهما في هذا الدور، فالأول يعتقد أن صوته مسموع في الداخل أبعد من جماعته الإخوانية، والثاني يتصور أن هناك من يتجاوب معه في المجتمع الدولي.
يوجه المشري خطابه المؤدلج إلى الجمهور الحالم من الإسلاميين الذي يطرب لتصريحات في ظاهرها خشونة، كي تعوضه عن النقص في القوة الحقيقية، والفجوات التي تعتمل داخل جهات متناقضة تمثله، وتتم التغطية على ذلك باللجوء إلى استدعاء قاموس جوزيف غوبلز في عهد النازية الذي لجأ إلى الدعاية لمواجهة خصومها.
موروث سياسي
من الصعوبة وجود خطاب رصين لدى هؤلاء، وكل ما يتم تسويقه يعتمد على العواطف والهجوم والانتقادات وكيل الاتهامات، وبدأت تركيا تستدعي خطابا تاريخيا تجاوزه الزمن لتبرير أحقيتها في ليبيا بدلا من مصر، وكررت نغمة أن علاقاتها تمتد لنحو خمسة قرون، ولن تترك الأشقاء وحدهم، أيّ عاقل يقبل هذه المزاعم؟
يبدو أن أنقرة عاجزة عن تبرير تدخلاتها في ليبيا فوجدت ملاذها في العودة إلى الماضي السحيق الذي يدينها لما ارتكبته الدولة العثمانية من جرائم في حق ليبيا وغيرها، كما أن فتح هذا الباب على مصراعيه يغير خرائط وينهي دولا كثيرة في المنطقة، ولم يعد مطروحا إلا عند أصحاب الأحلام والطموحات الجامحة.
تعلم تركيا ومن ارتضوا العمل معها أن هذا التوجه فارغ من الجوانب السياسية المتينة، ولن يقنع طفلا، لكنه الاستفزاز الذي أصبح سلاحا مهما في أزمات ليبيا وشرق البحر المتوسط، وفي غالبية العلاقات الإقليمية التي لا ترضى عنها أنقرة.
هي لا تريد الدخول في صدام عسكري مباشر مع القاهرة في أيّ من بؤر الأزمات المشتركة، لذلك تلجأ إلى الدخول في تراشقات ومناوشات وتجاذبات معنوية قد تقود إلى انعكاسات مادية، وهو ما دفعها إلى رفع مستوى الخطاب الدعائي، كسلاح يدغدغ مشاعر أتباعها ويراكم الضغوط على مصر.
تمتلك تركيا دائرة إعلامية بها عدد كبير ممن يعبّرون عن سياساتها ويستخدمون الخطاب ذاته، يكتب أحدهم، وهو مذيع في قناة الجزيرة القطرية، تدوينات على تويتر لا يقبلها عاقل حول مصر، ودرج على تصوير البلاد على أنها تعيش فوق فوهة بركان، بينما لم يظهر تماسك المواطنين خلف قيادتهم كما هو الآن، ما يعني أن الغرض من هذه الحملات تشكيك هؤلاء في مستقبل بلدهم الذي يواجه تحديات مصيرية من الغرب والجنوب، فضلا عن فتح المجال لتمدد تركيا.
الليبيون بصوت واحد.. نرفض الغزو التركي
انتقلت العدوى إلى إثيوبيا ولجأت إلى الاستفزاز أيضا في أزمتها مع مصر بشأن سد النهضة، حيث دشنت قاموسا لا يختلف كثيرا عن نظيره التركي والقطري والإخواني في استهداف الدولة المصرية، وخرجت معركتها من خندق المياه إلى خنادق أخرى تتعلق بالتاريخ والجغرافيا والسكان والاستراتيجيات الإقليمية، بغرض تقطيع أوصال القضية الأصلية وذوبانها في حقول متفرعة بعيدة عن الجوهر الذي يتم التفاوض عليه، وشغل العالم بتفاصيل عديدة بغرض التشويش.
يصب تشابه الخطاب بين تركيا وإثيوبيا وقطر والإخوان في التعامل مع مصر داخل بوتقة واحدة، عنوانها العريض تسخير الدعاية السلبية بأكبر درجة ممكنة، وهي معروفة منذ زمن طويل، فالحرب النفسية أحد الأدوات المستخدمة في المعارك، وزادت أهميتها مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي وتصاعد قدرتها التدميرية.
ارتفع معدل هذا النوع من الحروب في المعارك الجارية مع مصر، لأن الأطراف المقابلة تجيد توظيفها، بينما لا تزال القاهرة غير قادرة على مجاراة هذا النمط بشكل كبير لأن دعايتها تسير بطريقة عكسية، فهي لا توجه سهامها الإعلامية دوما للخصوم وكشف ألاعيبهم وتفريغ خصامهم من محتوياته السلبية، وتفضل أسلوبها الذي يظهر محاسن القيادة السياسية في الدولة.
يظل المضمون المصري غير عابئ كثيرا بما توجهه تركيا وأعوانها من حملات استفزازية، على الرغم من خطورتها، كأن القاهرة غير راغبة في الانزلاق إلى هذا المربع الرديء، وواثقة أن ما تمتلكه من أدوات عملية يستطيع دحر خصومها في النهاية، لأنها اختبرت دعاية جماعة الإخوان والجزيرة السوداء فترة طويلة، ولم يتمكنا من النيل منها في أيّ من المحطات التي بشّروا بها، الأمر الذي أسهم في تعامل مصر بهدوء مع من يستهدفونها، وطالما أن السياسي يتبع الدعائي وليس العكس فلا مشكلة.