كريتر نت – العرب
يعد موضوع عسكرة المجتمع من أبرز المشاكل التي تعاني منها دول العالم النامي على مدى عقود عديدة من الزمن، والتي أنتجت تداعيات خطرة على صعيد المجتمع ككل. وتعني عسكرة المجتمع هيمنة القيم العسكرية على الحياة المدنية، وسيطرة العنف كأداة لحل الخلافات المجتمعية، على اعتبار أن العسكرة هي واقعة اجتماعية سياسية تاريخية ووظيفية، تنطوي على صفة الإرغام، وهي موجودة في المجتمع قبل أن يكتسبها الفرد.
أصدرت هيئة محكمة الجنايات في جبل لبنان منذ أيام حكمها، في الجريمة المعروفة بـ”جريمة عشقوت” والتي ذهب ضحيتها أربعة أشخاص على يد رجل أمن في أكتوبر من العام 2016 إثر خلافات على تربية كلب في المبنى الذي يقطن فيه القاتل. وقد طلبت هيئة المحكمة إنزال العقوبة القصوى في حق القاتل وهي الأشغال الشاقة المؤبدة لإقدامه على القتل قصدا.
وأعاد الحكم الحديث عن السلاح المتفلت في لبنان وعدة دول عربية إذ باتت هذه المجتمعات تحت “تصرف ثقافة السلاح”.
فوضى السلاح
تنتشر فوضى السلاح بشكل لافت، إذ يمكن سماع أصوات الرصاص في لبنان في أي مناسبة وأي منطقة.
وتتفاقم الظاهرة بسبب عدم تطبيق القانون. وكثيرا ما يُقتل مواطنون لأسباب تافهة، مثل الخلاف على أولوية المرور بالسيارة، رغم أن القانون يمنع بيع السلاح للمدنيين.
ولبنان من بين الدول الأكثر انتشارا فيه لظاهرة السلاح بين مواطنيه إلى جانب دول أخرى مثل اليمن والعراق وسوريا وليبيا والصومال.
ويقول مواطن لبناني “أصبح سبب الموت من أتفه الأسباب التي تُبرهن عن مدى الاستخفاف بحياة الإنسان نتيجة قلّة وعي المسلحين وطيشهم”. وأضاف “ما ذنبنا لكي نكون ضحايا السلاح غير الشرعي”.
مدافعون عن حمل السلاح يرددون قولا لافتا “السلاح زينة الرجال” وهو ما يقابله آخرون بالقول إن السلاح جعل من الجبناء شجعانا
ويشهد لبنان على نحو مطّرد حالة من التفلت الأمني من سرقات وعمليات سطو مسلح فضلا عن الظاهرة الأخطر وهي استخدام السلاح بشكل كبير في معظم الإشكالات الفردية التي تحصل وتهدد حياة العابرين من الأبرياء، إضافة إلى ظاهرة إطلاق النار في مناسبات الفرح أو الحزن ما يؤدّي في معظم الأحيان إلى وقوع ضحايا نتيجة الرصاص العشوائي.
وبحسب الأرقام عام 2017 ضحايا السلاح المتفلت بلغت 500 من بينهم 170 قتيلا، وفي عام 2018 انخفض العدد إلى 300 ضحية من بينهم 120 قتيلا.
وثمة الكثير من الحوادث التي لا تعدّ ولا تحصى في لبنان يذهب ضحيتها مواطنون أبرياء نتيجة السلاح المتفلت والرصاص الطائش يدفعون ثمن جهل المجتمع وقلّة الوعي لخطورة حيازة السلاح من جهة وثمن إهمال الدولة وعدم وضعها حلا للسلاح المتفلّت بين الناس من جهة ثانية.
ويعاني العراق بدوره من “عسكرة” المجتمع وهي ظاهرة ليست حديثة عليه وتتداخل فيها عوامل عديدة، لكنها وصلت الآن إلى مرحلة مخيفة بسبب تفلت السلاح واصطدام العشائر ببعضها، وذلك على حساب حياة الآمنين وعلى حساب هيبة الدولة ومصداقيتها.
ولا توجد إحصاءات رسمية حول ظاهرة انتشار السلاح في العراق، ما بين الفردي والمتوسط والثقيل، لكن التقديرات غير الرسمية تتحدث عن نحو 30 قطعة سلاح لكل مئة مواطن. وعلى سبيل المثال، تقول التقديرات الحكومية إن العشائر العراقية تمتلك وحدها نحو سبعة ملايين قطعة سلاح.
كما أنه لا تقديرات رسمية لعدد ضحايا السلاح المتفلت في العراق، لكن المؤكد أنه في مرحلة ما بعد العام 2003، هناك الآلاف الضحايا من كل فئات المجتمع العراقي سقطوا قتلى وجرحى بسبب هذه الظاهرة القاتلة.
وتفاقم هذه الظاهرة لا يعكس قوة النزعة العشائرية وحدها في العراق، ذلك أن عوامل عديدة ساهمت في تضخيمها على مر السنوات. واتخذ تفلت السلاح منحى أكبر بعد الغزو الأميركي وانهيار المنظومة العسكرية للنظام والاستيلاء على مخازن ومستودعات السلاح، بالإضافة إلى تدفق السلاح من الخارج في إطار التهريب والصفقات التي كان يبرمها تجار وسماسرة وزعماء أحزاب وقوى مسلحة. إذ تضخمت ظاهرة أسلحة العشائر والقبائل إلى درجة أنها صارت تخوض اشتباكات مسلحة في ما بينها، يدوم بعضها لعدة ساعات، ويسقط فيها ضحايا من كل الأطراف، أحيانا لأسباب مرتبطة بنزاع على ملكية أرض أو عادات الثأر أو المشاكل الاجتماعية الأخرى.
ثقافة التسليح تبدأ من الطفولة
وتعلن الأجهزة الأمنية بين الحين والآخر عن ضبط أسلحة ثقيلة ومتوسطة ويتبين أنها تستخدم في النزاعات العشائرية.
وكما يبدو فإنه كلما كان الوضع الأمني يشهد توترا، كان الحرص على اقتناء سلاح يزداد. ولهذا، فإنه في ذروة القتل الطائفي الذي عاشه العراق في السنوات الأولى من الغزو، ازدهرت سوق السلاح بشكل علني وكبير. وفي نفس السياق، فإنه عندما غزت عصابات داعش العراق، كان من الطبيعي أن يقبل العراقيون على شراء ما يمكنهم من أسلحة فردية.
وفي الأردن، يتفاخر الأردنيون بعادات وتقاليد ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، ويتباين التزامهم بها، ومنها اقتناء وحمل السلاح، الذي يرون أنه يضفي عليهم هيبة.
ويحتل الأردن المرتبة الرابعة عربيًا (بعد اليمن ولبنان والعراق) والثانية والثلاثين عالميًا، من حيث انتشار الأسلحة بين المواطنين، وفق دراسة صدرت عن سمال أرمز سيرفاي “Small Arms Survey”، وهي منظمة بحثية غير حكومية مختصة بشؤون التسليح، ومقرها جنيف.
وثمة قيود غير مسبوقة على مشروعية اقتناء وحمل الأسلحة، تقترحها مسودة مشروع قانون معدل، قيد الدراسة في اللجنة القانونية بمجلس النواب (الغرفة الأولى للبرلمان)، منذ تحويله إليها في يونيو الماضي. من جانبها، قالت الأمم المتحدة في تقرير لها إن ليبيا تضم أكبر مخزون في العالم من الأسلحة غير الخاضعة للرقابة.
هذا الانتشار الواسع للسلاح فاقم من الأزمة التي تعيشها البلاد وساهم في انتعاش خلايا الإرهاب النائمة التي تستخدم، حسب الخبراء، تجارة الأسلحة للعودة للحياة في البلد الأفريقي العربي.
وأشارت التقديرات الأممية إلى أن عدد قطع السلاح في ليبيا بلغ 29 مليون قطعة، بين خفيفة ومتوسطة وثقيلة، وهو عدد لم يسجل في أي بلد آخر خلال الأربعين عاما الماضية.
كما يعتاد اليمنيون إطلاق الرصاص الحي في السماء ابتهاجا في الأعياد والأعراس والمناسبات المختلفة. عادة يؤدي ذلك إلى سقوط الكثير من الضحايا كل أسبوع تقريبا، بينهم نساء وأطفال يفقدون أرواحهم، أو ينقلون جرحى إلى أقسام الطوارئ في المستشفيات بسبب الرصاص العائد من السماء.
وزاد السلاح العشوائي المتفلّت في أيدي المواطنين من حدة هذه الظاهرة في السنوات الأخيرة. وباتت كميات كبيرة من القطع الرشاشة الحربية في البيوت، في بلد يعيش حربا منذ ست سنوات. أضف إلى ذلك أن اليمنيين تاريخيا يهوون اقتناء السلاح.
السلاح هو المهم
ويعد اليمن من أكثر بلدان العالم من حيث نسبة انتشار السلاح وسط السكان. ويأتي في المرتبة الأولى عربيا، بمعدل 52.8 قطعة لكل 100 شخص، بحسب منظمة سمال أرمز سيرفاي.
وتعد أسواق بيع الأسلحة في اليمن واستيرادها شرعية، إذ لا يوجد قانون يمنع بيع الأسلحة أو شراءها من قبل المواطنين، بل إن الأمر قد يصل حدّ تملك بعض القبائل في محافظات شمال البلاد أسلحة ثقيلة كالدبابات والمدافع ذاتية الحركة وقاذفات “آر.بي.جي”. وبحسب مصادر، فإن بعض القبائل تملك أيضا أسلحة مضادة للطيران وصواريخ حرارية محمولة على الكتف.
تجارة رائجة
عند التحدث عن السلاح المتفلت، فالمقصود ليس السلاح ذا الهوية السياسية فقط، بل أسلحة الصيد أيضا والتي يمكن استخدامها أو توضيبها بطريقة خاطئة، لتؤدي بالتالي أحيانا إلى وقوع عدد لا يستهان به من الضحايا، إذ كشفت الدراسات أنه يشكّل نحو ثلث عدد الذين يقتَلون خلال إشكالات تستخدم فيها الأسلحة.
وقد درجت عادة اقتناء أسلحة الصيد خلال فترة التضييق على شراء الأسلحة الحربية وغلاء أسعارها نتيجة زيادة الطلب وانخفاض العرض، فانتشرت بكميات كبيرة.
إذا، تشكل هذه الظاهرة في كل تجلّياتها خطرا على المجتمع وتركيبته وعلى العلاقات بين الناس والعائلات، خصوصا أنها حسّاسة وغالبا ما تتخذ الإشكالات والجرائم فيها الطابع الطائفي.
ومن أنواع الأسلحة في المجتمع، هناك السلاح الأميري، الذي قد يكون أداة جريمة بدوره، إذا افتقد حامله لهدوء الأعصاب والنفسية الحميدة، فالسلاح في أيدي رجال الأمن لا يُبرّر استخدامه خارج الخدمة وفي إطار لا يخدم عملهم.
أمان الجبناء
من وراء فوضى السلاح؟
يتحمل تجار الأسلحة مسؤولية كبيرة تجاه تفشي هذه الظاهرة في المجتمعات العربية، أكان من ناحية توزيع السلاح أم بيعه لأهداف سياسية، لكن الجدير ذكره أن ثمة جهات سياسية وحزبية كما جهات نافذة تغطي عددا من تجار السلاح.
وفي لبنان، يتاجر بائعو الأسلحة بها في اتجاهين، فهم يصدّرون بعضها ويستوردون أخرى، فمسدس “غلوك” مثلا، يُباع في أميركا بـ600 أو 700 دولار، فيما يصل ثمنه في لبنان إلى 4000 و5000 دولار عند ازدياد الطلب عليه. أما طريقة رفع الأسعار فتمر بمراحل عدة، فالجيش الأميركي مثلا يعطي للجيش العراقي رشاشات “م4”، حيث يبيعها العسكري العراقي بـ700 دولار، ويدفع التاجر لتمريرها عبر الحدود السورية نحو 150 دولارا، والسعر نفسه عبر الحدود اللبنانية، ليأخذها التاجر الكبير بـ1000 دولار ويعطيها إلى “أصغر” منه بـ1500 دولار حتى تصل إلى الشاري أخيرا بـ4000 أو 5000 دولار، وعلى رغم غلاء سعرها لكنه يشتريها ويخبئها على أنها قطعة أساسية. واللافت أنّ هناك دوما تجار أسلحة أو جهات حزبية تتحكّم بلعبة العرض، رغم توافر كميات كبيرة من الأسلحة على الأراضي اللبنانية.
ولا يزال المدافعون عن حمل السلاح يرددون قولا لافتا “السلاح زينة الرجال” وهو ما يقابله آخرون بالقول إن السلاح جعل من الجبناء شجعانا.
واعتبر وزير الداخلية اللبناني الأسبق مروان شربل أن قرار نزع السلاح المتفلت في لبنان سياسي والدولة غير قادرة على حصره بيدها.
وقال شربل “إنه بكل المناطق اللبنانية وبكل منزل هناك سلاح، إذا أردنا حصر السلاح بيد الدولة يجب أن يكون لدينا قرار سياسي لجمع السلاح وهذا القرار حتى الساعة غير موجود، وعندما يتم أخذ القرار يجب أن يبدأ السياسيون بأنفسهم، بأحزابهم، ومناصريهم، ويجب أن يكون هناك تشدد في هذا الموضوع، والدولة في نفس الوقت تعرض أن تشتري السلاح”.
وشدد على أنه حتى الآن لا توجد نية لحصر السلاح المتفلت، مشيرا إلى أن السياسيين لا يستطيعون أخذ قرار بهذا الملف. ولفت شربل إلى أن “السلاح المتفلت موجود بكل دول العالم ولكنه مضبوط، في لبنان الأمر ليس مضبوطا، لدينا أسلحة غير مرخصة، تهريب أسلحة من وإلى، والسبب الأساسي لهذه المشكلة هو المحيط الإقليمي والحروب القائمة والملتهبة حول لبنان”.
ورأى أن “هناك خصوصية لكثير من المناطق اللبنانية بموضوع العشائر والاستقلالية، الاستنفار العائلي والتي لا تزال موجودة حتى الآن، والأحزاب السياسية لا تستطيع ضبطها، الأحزاب تساعد الدولة ولكن اليوم لسوء الحظ ليست لدينا دولة لدينا سلطة تتحكم فيها الأحزاب”. وأشار شربل إلى أن الدولة لا تستطيع جمع السلاح من كل المواطنين، لأن العقلية العشائرية والعقلية التي ترتبط فيها العائلات اللبنانية هي المسيطرة.
وينطبق الأمر نفسه على الدول العربية الأخرى. إذ لم تتم في السنوات الماضية أي محاولات تذكر من جانب الدولة العراقية، لجمع السلاح أو منع انتشاره بهذا الشكل المخيف، إلى درجة أن العديد من مظاهر حمل السلاح، لم تعد مرتبطة بالعادات والتقاليد والوجاهة، وإنما بانتشار مجموعات المسلحين سواء المرتبطة بميليشيات صار مصير سلاحها يرتبط بتعقيدات داخلية وإقليمية أمنية وسياسية.
وكان رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي تحدث في الأسابيع الماضية أكثر من مرة عن سيادة سلاح الدولة على ما عداه. كما أن خيار اصطدام القوات الأمنية بأبناء العشائر لانتزاعه عنوة، قد يخلق شلالات من الدماء خصوصا إذا لم تكن هناك خطة وطنية شاملة للملمة السلاح وتشجيع الناس على التعاون ومنحهم في المقابل الثقة بقدرة الدولة على حمايتهم، وبالتالي انتفاء الحاجة إلى اقتناء أسلحة في المنازل.