محمد طاهر
استدعى التوتر الحاصل حالياً بين الصين والولايات المتحدة إلى الذاكرة، أشباح “الحرب الباردة” التي دارت فصولها بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي خلال القرن الماضي، قبل أن يُسدل الستار عن آخر مشاهدها ثلاثة عقود من اليوم. ذلك أن لهجة الخطاب الأميركي ما فتئت تتصاعد ضد بكين بدءاً بالحرب التجارية مروراً بمعاقبة شركات التقنية والتهديد بقطع العلاقات كلّياً بسبب أحداث هونغ كونغ ومنع الطلاب الصينيين من الالتحاق بالجامعات الأميركية، وصولاً إلى “حرب القنصليات” وتحميل بكين مسؤولية “مذبحة” فيروس كورونا المستجد الذي لامس عدد ضحاياه في الولايات المتحدة زهاء 150 ألف شخص، وتشبيه الإدارة الأميركية انتشاره بالهجوم الياباني الغادر على ميناء بيرل هاربر خلال الحرب العالمية الثانية.
ولعل أبلغ مُلخص لتوجه الإدارة الأميركية الحالي نحو بكين، الخطاب الذي ألقاه في كاليفورنيا أخيراً مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي، الذي دعا “العالم الحرّ” إلى التصدي لـ”الطغيان الجديد” الذي تمارسه الصين الشيوعية التي “نهبت ممتلكاتنا الفكرية وأسرارنا التجارية الثمينة، ما أدّى لخسارة ملايين الوظائف في أنحاء أميركا”، واصفاً الرئيس الصيني شي جينبينغ بأنه “تابع مخلص لأيديولوجية شمولية مفلسة”.
الحرب الباردة الأولى
مع انقشاع غبار معارك الحرب العالمية الثانية، برز على الساحة الدولية معسكران: كتلة غربية رأسمالية بقيادة الولايات المتحدة، وأخرى شرقية اشتراكية بقيادة الاتحاد السوفياتي. ومع امتلاك كل طرف أدوات الفناء النووي، استحالت المواجهة المباشرة بين الخصمين، فاستعاضا عن ذلك بسلسلة من الحروب غير المباشرة عُرفت في الأدبيات السياسية باسم “الحرب الباردة”؛ حرب استمر سعيرها 40 عاماً من 1949 إلى 1989، وحصدت في أتونها ملايين الضحايا.
لم تقتصر الحرب الباردة – التي وضع أسس استراتيجيتها وما ارتبط بها من مفاهيم كالاحتواء والردع والحروب الاستباقية الدبلوماسي الأميركي جورج كينان – على الدولتين الجبارتين فحسب، وإنما شملت دولاً وأحلافاً سياسية واقتصادية تحت غطاء من الأيديولوجيات المتنوعة. وعلى رغم برودتها، إلا أن ذلك لم يمنع وقوع أزمات اقترب فيها الطرفان من حافة الحرب الساخنة؛ بدءاً بـ”أزمة برلين” انتهاءً بأزمة “صواريخ كوبا” حين وجد الطرفان نفسيهما على شفا حرب إبادة نووية.
شاركت واشنطن وموسكو في حروب بالوكالة لدى قارات العالم المختلفة؛ حيث قامت ثورات وانقلابات واجهتها ثورات وانقلابات مضادة، وحدثت أشكال متعددة من التدخل العسكري والاستخباراتي، وسعى كل طرف إلى توريط الآخر؛ فسقطت واشنطن في وحول فيتنام، فيما حوصر السوفيات في أودية أفغانستان. لكن صلب “الحرب الباردة” بقي دائماً وأبداً: سباق التسلح النووي بقدراته الهائلة الكافية لتدمير كوكبنا مرات عدة، وتكاليفه الباهظة التي تنوء بها اقتصادات الأمم.
ومع مرور السنين، دفعت تكلفة سباق التسلح النووي المالية الباهظة المعسكرين إلى نوع من “الهدنة” أوائل سبعينيات القرن الماضي، حين تم ضبط سباق التسلح ضمن اتفاقيتين عرفتا باسم “سالت”. ومع نجاح هذه الأخيرة جرت محاولات لتخفيض عدد الرؤوس النووية الفائضة والصواريخ الحاملة لها، فكانت اتفاقيات “ستارت”. وهكذا… إلى أن انتهت الحرب الباردة من دون إطلاق فتيل قنبلة نووية واحدة إثر انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991.
الحرب الباردة الثانية
بعد ثلاثة عقود من انتهاء الحرب الباردة الأولى بين القوتين العظميين، بدأت بوادر حرب باردة ثانية تطل بقرنيها اليوم. صحيح أن روسيا وأميركا ما زالتا تخوضان بين الفينة والأخرى مواجهات محدودة باردة لدى ساحات العالم سواء في سوريا أو أوكرانيا وغيرها، إلا أنه لا يمكن تجاهل حقيقة أن جبهة واشنطن- بكين باتت العنوان الرئيس للمواجهة الدولية التي تدور حول التجارة في ظاهرها، فيما تخفي في باطنها أبعاداً استراتيجية؛ في بحر الصين الجنوبي وكوريا الشمالية وهونغ كونغ وتايوان والحدود الهندية- الصينية المشتركة. وإلى جانب هذا العنوان الرئيس، تتشعب خيوط الحرب الباردة الجديدة لتمتد إلى عناوين عنقودية صغيرة أخرى ليس بين أميركا وخصومها، مثل إيران وكوريا الشمالية فحسب، وإنما كذلك مع حلفائها الأطلسيين؛ إذ سُجلت خلافات حادة أميركية- تركية على خلفية شراء أنقرة صواريخ “أس-400” الروسية ما دفع واشنطن إلى حظر تصدير مقاتلات “أف-35” المتطورة عن حليفتها الشرق أوسطية؛ كما نشبت سلسلة من الخلافات بين واشنطن وعواصم أوروبا بسبب تشجيع واشنطن الخروج البريطاني “بريكست” من الاتحاد الأوروبي، فيما تمخض الخلاف حول تقاسم أعباء الدفاع عن القارة العجوز عن تخفيض واشنطن عديد قواتها في ألمانيا.
ووسط انشغال عواصم العالم في معالجة تداعيات الحروب الباردة المتشعبة والمتعددة التي تتكثف في أفق علاقاتها، برزت أنواع هجينة غير مألوفة من أدوات الحرب والصراع، بلاعبين جدد مدججين بأدوات مختلفة كلياً. فقد لوحظ في السنوات الأخيرة تواتر أنماط غير مسبوقة من الجرائم الإلكترونية التي تتجاوز بإمكاناتها السيبرانية قدرات وحدات مكافحة الجرائم الحكومية. جرائم هدفها التلاعب بإرادة الناخبين السياسية اعتماداً على بث أخبار زائفة ومحرّفة بدقة على الشبكة العنكبوتية، وتحديداً عبر وسائط التواصل الاجتماعي.
قرصنة سياسية
يقف وراء هذه الأنماط والحملات الجديدة- التي يمكن أن تتم بمعرفة دول أو منظمات خارجية خفية تعمل لصالح مرشحين بعينهم عبر نشر تقارير مضللة- قراصنة محترفون مهمتهم التلاعب بتوجهات وعواطف الرأي العام، ما يؤدي في المحصلة النهائية إلى التحكم في إرادة الناخبين لمصلحة جهات بعينها عبر التلاعب وتزييف المعلومات والبيانات. والأمثلة حول ذلك كثيرة، منها الممارسات المشبوهة لحملات رئاسية أفريقية جرت أخيراً، بما في ذلك إعادة انتخاب فوري غناسينجبي، رئيس جمهورية توغو، في فبراير (شباط) 2020، وكذلك الجدل المستمر حول التلاعب في حملة الانتخابات الأميركية الأخيرة التي أوصلت دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. ولا يفوتنا في هذا المقام التقرير الذي أصدرته أخيراً “لجنة الاستخبارات والأمن” لدى البرلمان البريطاني، الذي أشار بوضوح إلى هجمات إلكترونية نفذها قراصنة روس هدفها توجيه الرأي العام إلى اتخاذ قرارات بعينها أثناء استفتاء اسكتلندا عام 2014، وكذلك خلال حملة بريكست.
يحاول القراصنة السيبرانيون، الذي يتخفون وراء شاشات حواسيبهم عبر سلسلة من الهويات المزيفة والمجموعات المشبوهة والصور الخادعة، إثارة تغيير واسع النطاق. ويمكن للقرصان أن يكون أي شخص تقريباً: منظمة متطرفة أو عميل استخبارات أو حملة حزبية أو حتى فرد ذو قدرات سيبرانية رفيعة المستوى. يقوم هؤلاء باستحداث حسابات مزيفة يتنكرون عبرها بوصفهم من مواطني البلد المستهدف، ثم يقومون بدفع الجمهور إلى صفحات خارج منصات التواصل الاجتماعي، حيث تنخرط هذه الصفحات في تكتيكات مهمتها تغيير تركيز الجمهور من المواضيع غير السياسية إلى المواضيع السياسية عن طريق ضخ رسائل تصب في مصلحة طرف سياسي معين. وتعد منصة “فيسبوك” تحديداً، وشقيقاتها “تويتر” و”إنستاغرام” و”واتساب”، أشهر ميادين عمل القراصنة الجدد. إذ تحوّلت هذه المنصات إلى ساحة تُخاض فيها الحروب الباردة بحيث يكون فيها الفاعل مجهولاً، وباتت فضاءً استراتيجياً لتطبيق نظريات التأثير في الحشود والإقناع والتسويق السياسي عن طريق المحتوى المموّل. ولطالما وصلت تحقيقات أجهزة الاستخبارات التي طالت المنصة لتحديد الجهات التي تقف وراء هذه الحملات المشبوهة إلى حائط مسدود.
ويبدو جلياً أن العالم في طريقه إلى حرب باردة ثانية ستسم مرحلة “ما بعد كورونا”، مرحلة ستستقطب دولاً ومجتمعات وحتى أفراداً إلى معسكرين، مع بقاء هامش واسع أعضاء في “المعسكر الرمادي”. لن ترتكز الحرب الباردة الجديدة على قاذفات استراتيجية أو صواريخ عابرة أو غواصات مرعبة تمخر غياهب المحيطات بأسنانها النووية. بل ستكون حرباً هجينة سيبرانية واقتصادية واجتماعية متعددة الأطراف، وستكون ضحيتها في الدرجة الأولى حرية الفرد أينما كان، مع اتجاه الشمولية الحكومية إلى الاندماج أكثر فأكثر مع التكنولوجيا الرقمية وخصوصاً جيل الإنترنت الخامس، الذي سيجعل أي شخص كتاباً مفتوحاً تسهل قراءته.
المصدر : أندبندنت عربية