يمينة حمدي
ليس من السهل على النساء تحقيق التقدم في عالم يسيطر عليه الرجال وتسود فيه المعتقدات والنظريات التي تربط القيادة بجنس الذكور، لكن ذلك لم يمنع الكثيرات من إحراز المزيد من الترقي المهني وتبوّؤ مناصب مرموقة، لكنهن اكتشفن حتى بعد وصولهن إلى أعلى السلم، استمرار البعض في التشكيك في حقهن في نيل تلك المناصب.
تمنح العديد من المؤسسات الجيل الشاب مناصب إدارية عليا بسبب مهاراته في القيادة والتعامل الجيد مع الموظفين والاستجابة بسرعة للأفكار الجديدة، لكن مثل هذا الأمر يثير الكثير من ردود الفعل بين الموظفين حول مدى أحقية البعض بذلك المنصب دونا عن غيرهم، ويحتد الجدل أكثر حينما تتولاه المرأة.
وفي مختلف أنحاء العالم، يرتبط المسار المهني لرؤساء الشركات والمديرين التنفيذيين في الهياكل الإدارية التقليدية عادة بالشهادات الأكاديمية والخبرة التي تكتسب مع الوقت وأيضا بجنس الذكور، إلا أن هذه القاعدة العامة، أصبحت قابلة للتغيير في العصر الحالي بظهور جيل من الشابات الموهوبات في التكنولوجيا والمتميزات بكفاءتهن القيادية اللافتة للنظر، وبمهاراتهن الناعمة التي تمكّنهن من التفاعل والتواصل مع الآخرين بذكاء، وهذه المهارات هي التي تؤهلهن للنجاح في وظيفة مثقلة بالأعباء والمهام الإدارية.
وأظهرت الأبحاث التي أجريت على امتداد عقود من الزمن، أن النساء يتبعن طرقا في القيادة تختلف عن الرجال، فهن أقرب لأن يكن أكثر تعاونا، كما أنهن يتمتعن بروح العمل في الفريق، وكلها صفات تجعل القيادة أكثر فاعلية، في عالم اليوم ذي الإيقاع السريع، الذي يعتمد على الابتكار ولا يكترث كثيرا بالتسلسل الوظيفي.
وبينت دراسة حديثة معززة بالبيانات ركزت على عينة تتكون من حوالي 22 ألف شركة حول العالم، أن الشركات التي تشغل فيها المرأة نحو 30 في المئة من المناصب القيادية (الرئيس التنفيذي، ومجلس الإدارة، وغيرها من المناصب القيادية) تحقق أرباحًا أكثر بمقدار 15 في المئة مقارنة بالشركات التي لا تتولى فيها المرأة أي مناصب قيادية على الإطلاق.
وتُعزى هذه الأرباح في جزء منها إلى التنوع في التفكير ووجهات النظر، بفضل وجود الجنسين معا في منظومة العمل. كما وجدت الدراسة أن التنوع في بيئات العمل يحقق جدوى تجارية مهمة بالنسبة للجهات المهتمة بذلك التنوُّع. ولكن هل من السهل القضاء على العقبات التي تكبح جماح طموحات المرأة وتمنعها من الوصول إلى مستوى أعلى في الهرم الوظيفي؟
الرجال أقدر على القيادة
بينما تسعى الحكومات والشركات الكبرى، لإيجاد سبل لتمكين النساء في قطاعات الحياة العامة والقضاء على مشكلة انعدام المساواة على أساس النوع، بإيصال أعداد أكبر منهن إلى مناصب قيادية، إلا أن هذه التعيينات قد تضطر بسببها النساء إلى مواجهة المشاحنات الشخصية، والتعاملات الاجتماعية السلبية، والأفكار النمطية الشائعة، بالإضافة إلى تذمر ومقاومة المرؤوسين والزملاء من الجنسين.
وتجد النساء أنفسهن أمام الكثير من التحديات بسبب المعتقدات والنظريات المبنية على المعايير الاجتماعية، وتعتبر نظرية “الرجل العظيم” للمؤرخ البريطاني توماس كارليل من بين النظريات التي ربطت سمات ومواصفات القائد الجيد بجنس الذكور من دون الاعتراف بقدرة الإناث على صنع القرار.
وبسبب تلك المعتقدات، تضطر النساء للعمل أكثر بكثير للوصول لنفس هذه المناصب، ليكتشفن حتى بعد وصولهن إليها، استمرار البعض في التشكيك في “حقهن” في تولي هذا المنصب.
ومع أن العالم قد قطع شوطا كبيرا في المساواة بين الجنسين خلال الـ50 عاما الماضية، وأصبحت سوق العمل أكثر ربحا، والحكومات أكثر تمثيلا، لكن الهوة بين الرجل والمرأة في مكان العمل ستحتاج إلى قرن من الزمن لردمها، بحسب ما يقوله المنتدى الاقتصادي العالمي.
وفي العالم العربي، سنت معظم الدول إجراءات وقوانين لتحسين مشاركة النساء في إطار القوى العاملة، إلا أن الفجوة بين الجنسين ما زالت شاسعة جدا، فرغم ما تتمتع به النساء من مؤهلات علمية وتأهيل مهني، فإنهن يعانين من التمييز في الأجور والمناصب القيادية، وفقا لتقرير صدر مؤخرا عن البنك الدولي، إذ تذيلت 3 دول عربية القائمة بين دول العالم.
شبكة علاقات ضعيفة
هناك أسباب عدة تفسر هذه الظاهرة، فالكثير من أرباب العمل يعتقدون أنه من الصعب على النساء التوفيق بين النجاح المهني والأسرة وخصوصا عندما يكون لديهن أطفال، ولذا فهم يدعمون النساء أقل من الرجال. ولا تواجه النساء العربيات في العديد من الشركات صعوبات في الوصول إلى المناصب الإدارية المتوسطة، لكنهن يواجهن صعوبات حين يحاولن الترقي إلى المناصب الإدارية العليا. وهذا بسبب شبكة العلاقات الرجالية، التي تمتد إلى المدير التنفيذي، في حين أن شبكة علاقات المرأة التي تشغل مناصب إدارية وسطى تمتد إلى أسفل الهرم.
وتشعر الكثير من الموظفات اللواتي تحدثن لـ”العرب”، أنه يتعين عليهن العمل أكثر من زملائهن الرجال للترقي في عملهن.
وأكدت موظفة تعمل في إحدى شركات التأمين التونسية، أن وجودها في بيئة عمل يهيمن عليها الرجال أجبرها على أن تعمل ساعات مضاعفة وتتغاضى عن أنشطتها اليومية والكثير من شؤونها الشخصية.
وقالت الموظفة التي سمت نفسها هدى “أدركت أنه ليس من السهل علي الترقي وأنني بحاجة إلى البقاء حتى وقت متأخر في المكتب، لأني بحاجة إلى إثبات جدارتي أكثر من أي رجل آخر بثلاثة أضعاف”.
وأضافت “بيئات العمل تراكم الضغوط والأعباء على كاهل النساء، وتجعل الأمهات بوجه خاص منهكات، بسبب الخوف من التسريح، أو ارتكاب مشكلات في العمل، أو بدعوى أنهن لم يقمن بواجبهن المهني بالطريقة المفروضة”.
الحواجز الخفية أكبر عائق
هناك أدلة متزايدة، سواء مستمدة من دراسات علمية أو مستقاة من إفادات أشخاص، تشير إلى أن السلوكيات والأفكار المتحيزة ضد المرأة، لا تزال شائعةً في مختلف دول العالم، أما الرجال فيحصلون في الأغلب على تقييمات تشيد بقدراتٍ بعينها وترتبط بالوظائف القيادية المنوطة بهم. علاوة على ذلك، هناك تعبيرات مجازية ومصطلحات لا تتعلق – بصفةٍ خاصة – بالتمييز بين الجنسين، ولكنها تعزز القوالب النمطية المرتبطة بالقائد الجيد.
وفي هذا الإطار، أجرى باحثون في معهد كلايمان للأبحاث المتعلقة بالنوع الاجتماعي دراسة حول أسلوبي الحديث عن القيادة في المجال المهني، بدءاً من طبيعة الإعلان الذي يُنشر عن الوظائف المتوافرة فيه وصولاً إلى طريقة تقييم أداء العاملين.
ويسمى الأسلوب الأول “القيادة بالوكالة”، وهو النمط الذي يعتمد على وجود شخص يتسم بالإصرار والقدرة والبراعة ليتولى قيادة مجموعة مرؤوسين، ويُطبق ذلك على الرجال بشكل أساسي، ويتمحور بشكل أكبر حول إنجاز المهمة المنوطة بالعاملين، والإمساك بزمام المسؤولية، والاتصاف بالاستقلالية.
أما النمط الثاني فيسمى “القيادة ذات الروح الشعبية”، وهي تلك التي تتسم بطابعٍ أكثر انفتاحاً وشفافية، كما تحظى بقبولٍ أكبر من جانب المرؤوسين ويرتبط هذا النمط بالقيادات النسوية بالأساس، ويختزل صفات ترتبط بالمرأة بشكل نمطي، مثل كونها داعمةً لمن حولها، وأنها تُشع بالدفء، وتضطلع بدورٍ مساعد لفريق العمل.
وبالرغم من أن هذين النمطين لا ينطبقان على جميع النساء والرجال القادة على حد سواء؛ فإن القوالب النمطية المتعلقة بالنوع الاجتماعي تبدو كما لو كانت صندوقاً يطوق النساء في بيئات العمل ويتحكم في مسارهن المهني.
وفي هذا السياق، تقول ماغدالينا زافيشا، وهي مُحاضرة في علم نفس المستهلك والنوع الاجتماعي في جامعة أنغليا روسكين البريطانية “من العسير للغاية أن تهرب المرأة من الصور النمطية المتجذرة المتعلقة بالنوع الاجتماعي. فضلا عن ذلك، فقد أتت الكثير من المصطلحات اللغوية المماثلة بنتائج عكسية، تحط في من قدر النساء كمديرات”.
وفي كتابها الصادر حديثا “الإعلان والنوع الاجتماعي والمجتمع: رؤية من منظور علم النفس”، أشارت زافيشا إلى أن وسائل الإعلام المرئية، تعج بنماذج عن التحقير من دور المرأة، على نحو لا يتعرض له الرجال مطلقا.
وكشف بحث أجرته ميشيل ريان، أستاذة علم النفس في جامعة إكستر البريطانية بالتعاون مع زميلها أليكس هيسلَم عن دور الاستعارات والمصطلحات المجازية التي تستخدم لوصف أوضاع النساء في أماكن العمل، ودورها في تشكيل الحواجز الخفية التي تحول دون تبوؤ النساء مناصب تنفيذية في المؤسسات التي يعملن فيها.
واستعان الباحثان في دراستهما بمقال نُشر في باب المال والأعمال في صحيفة “تايمز” البريطانية، يقول إن النساء اللواتي مُنحن مواقع قيادية في الشركات المدرجة على مؤشر “إف.تي.إس.إي 100” – وهو أحد المؤشرات الرئيسية في البورصة البريطانية ويشمل أكبر 100 شركة مُدرجة في هذه البورصة – قد جعلن أداء مؤسساتهن أسوأ.
وقالت ريان في هذا الشأن إن مُعدي الموضوع قالوا “إن النسوة يُلحقن الخراب (بتلك الشركات) وأن المؤسسات الاقتصادية والتجارية البريطانية ستصبح في وضع أفضل إذا لم تُضم النسوة إلى مجالس إدارتها”. مشددة على أنها وزميلها هيسلَم قد شعرا بدهشة شديدة حيال النبرة الجازمة التي صدر بها هذا الادعاء.
وأضافت “نحن لا نتحدث قط عن رجال يثقون في أنفسهم أكثر من اللازم، بل دائما ما نتحدث عن نساء قليلات الثقة في أنفسهن.
كما أننا لا نتحدث على الإطلاق عن رجال يحظون بامتيازات ما، أو يجدون الطريق (المهني) أمامهم مُيسرا، بل نتحدث على الدوام عن نساء يجدن الأمور صعبة”.
وعكف الباحثان ريان وهيسلَم على تجميع أدلة وبيانات من الشركات التي مُنحت فيها النسوة مناصب رفيعة، واكتشفا أن العلاقة بين تبوّؤ النساء مواقع قيادية في هذه الشركات وتدهور أدائها علاقة عكسية، تختلف عن تلك التي افترضها الموضوع الذي نُشر في صحيفة التايمز. فالنساء اخترن لمناصب رفيعة في شركات تعاني في الأصل من تردي أوضاعها.
الطريق لا يزال طويلا
في عالم السياسة يتجسد تفاوت أكثر حدة بين طرق معاملة الرجال القادة وتلك الخاصة بمعاملة النساء القياديات؛ بسبب القيم والمعايير الثقافية المتجذرة على مدى قرون ودورها في توسيع الفجوة بين الجنسين في السلطة.
ووفقا لخارطة تمثيل المرأة في الحياة السياسية لعام 2019، بلغت نسبة الوزيرات حول العالم مستوى غير مسبوق وصلت إلى 20.7 في المئة، أي بزيادة قدرها 2.4 في المئة مقارنة بعام 2017، مع تنوع أكبر في أنواع الحقائب الوزارية التي تشغلها النساء.
وبينما زادت الحصة العالمية للبرلمانيات في العالم لتصل إلى 24.3 في المئة، انخفض تمثيل النساء في المناصب القيادية العليا إلى 6.6 في المئة من رؤساء الدول المنتخبين و5.2 في المئة من رؤساء الحكومات.
وعلقت المديرة التنفيذية لهيئة الأمم المتحدة للمرأة السيدة فومزيلي ملامبو-نغكوكا على هذا الأمر بقولها إن “زيادة عدد النساء في الحياة السياسية يعني تعزيز الطابع الشامل للقرارات، وتغيير صورة القادة في أذهان الشعوب”، مشددة على أن الطريق لا يزال طويلا وشائكا.
وركزت معظم البحوث التي تناولت موضوع القيادة والمرأة، على الهياكل التنظيمية الضخمة المعقدة كالشركات الكبرى والحكومات والجيوش التي يسيطر عليها الرجال، بينما تتولى المرأة مواقع قيادية بشكل ربما غير مرئي في الأسر والمؤسسات الصغيرة، ولا يقلل ذلك من شأن تبصرها وقدرتها على إيجاد حلول غير مسبوقة والمساهمة في تغيير طريقة العمل بما يتناسب مع التغييرات السريعة التي يشهدها العالم.
وكشف تقرير جديد صادر عن مكتب أنشطة أصحاب العمل في منظمة العمل الدولية أن الأعمال التجارية ذات التنوع الحقيقي بين الجنسين، وخاصة على مستوى القيادة، يكون أداؤها أفضل، وتحقّق زيادات كبيرة في الأرباح.
واستطلع التقرير الذي حمل عنوان “المرأة في الأعمال التجارية والإدارة: دراسة جدوى التغيير” آراء قرابة 13 ألف شركة في 70 بلداً. وقد اتفق أكثر من 57 في المئة ممن شملتهم الدراسة على أن مبادرات التنوع بين الجنسين حسنت نتائج الأعمال التجارية. كما أفاد نحو ثلاثة أرباع الشركات التي رصدت التنوع بين الجنسين في إدارتها بأن الأرباح شهدت في معظمها زيادات تراوحت بين 10 و15 في المئة.
وقال نحو 57 في المئة إن جذب أصحاب الكفاءات والاحتفاظ بهم بات أسهل. كما ذكر أكثر من 54 في المئة من هذه الشركات أنها شهدت تحسناً في الإبداع والابتكار والانفتاح، وقالت نسبة مماثلة إن الشمولية الفعالة للجنسين عززت سمعة الشركات، فيما شعر قرابة 37 في المئة منها أنها مكنتها من معرفة آراء العملاء بفاعلية.
وخلُص التقرير أيضاً إلى أن زيادة توظيف المرأة، يرتبط ارتباطاً إيجابياً بنمو الناتج المحلي الإجمالي. واستند هذا الاستنتاج إلى تحليل بيانات استُمدت من 186 بلداً في الفترة 1991-2017.
ويقدم التطور التكنولوجي اليوم فرصا أكبر للنساء لإثبات جدارتهن في القيادة حتى في بيئات العمل التي يسيطر عليها الرجال، لكن مع وجود مجموعة من النساء في نفس التخصص المهني وفي نفس مكان العمل، قد يكون التعامل اليومي بينهن أكثر صعوبة.
مع ذلك، هناك خيط رفيع بين سعي المرأة وراء النجاح، والغيرة من منجزات بنات جنسها، فالرغبة في المنافسة في صورتها الحسنة تدفع بصاحبتها بقوة نحو المقدمة، لكن المنافسة في صورتها السيئة تدمر فريق العمل بالكامل.
وبالطبع، يوجد الكثير من الأمور الإيجابية عندما تساعد القياديات النساء بنات جنسهن على صعود السلّم الوظيفي ويسهمن في تشكيل فريق من الجنسين متوازن ومتنوع القدرات، خاصة وأن أبحاثا كثيرة تبرز مدى النفع الذي يعود على المؤسسات التي تتنوع أنماط التفكير لديها.
نقلا” عن العرب اللندنية