التنظيرات العقائدية البراقة يختفي لمعانها ويتلاشى عند تطبيقها عملياً على أرض الواقع
عماد الدين الجبوري
تطرقنا في الحلقتين السابقتين عن جذر الصلة بين إيران وجماعة الإخوان، منذ زيارة الخميني لمقر الإخوان في القاهرة عام 1938، والتعاون بين الطرفين مستمر التواصل، علاوة على المفاهيم الفكرية والفقهية التي تجمع بينهما، وهي بمجملها ذات أهداف سياسية بصبغة إسلامية.
ثانياً: المفهوم العقائدي
من بين الجوانب التنظيرية التي تشترك أو تتقارب فيها إيران وجماعة الإخوان، ما يتعلق بمفاهيمهما العقائدية تجاه الإسلام، وأهمها عالمية رسالة التوحيد، وأن الإسلام هو الطريق الوحيد في الحياة ووحدة الأمة الإسلامية والشورى في القرار مع ضرورة العمل الإسلامي الجماعي.
ولكن هذه التنظيرات العقائدية البراقة يختفي لمعانها ويتلاشى عند تطبيقها عملياً على أرض الواقع، لأن الهدف لدى النظام الإيراني والتنظيم الإخواني “سياسي” غايته الحكم باسم الاسلام، أي توظيف الدين لمآرب سياسية، وهنا تبدأ التضادات والتناقضات في سياسة الحكم بين الشؤون الدينية والدنيوية، فأخطاء السياسية تنعكس سلباً على الدين وهو براء منها. لذلك فإن الإسلام أكبر من أن يُحصر في شخص أو جماعة، ومن يستغل الإسلام فلن تستقيم له الأمور.
وعموماً فإنّ بعض المفاهيم المشتركة بين الجانبين الإيراني والإخواني تأخذ دوراً مهماً في إظهار عقائدهم التي يسوّقونها للآخرين، مثل مبادئ التنظيم والجهاد، إذ يشتغل الطرفان على إحياء البعث الإسلامي، وإعادة صياغته من جديد وفقاً لمعطيات العصر، واعتبار حضارة الغرب ومدنيّتها مادية خاوية روحياً، وأن الإسلام يتميّز برسالة عالمية جامعة للدين وللحياة في آن، وبذلك يكون قادراً ومؤهلاً لقيادة العالم. وبالنسبة إلى المسائل العقائدية والتفسيرية للنصوص الدينية بين الطرفين، فثمة ليونة إخوانية جليّة تجاه عقائد التشيّع الصفوي، بحجة إيجاد أرضية مشتركة تُجمّع ولا تُفرق. ففي مسألة الحاكمية أو الخلافة يحاول الإخوان حصر الخلاف في آلية الاختيار الجمعي لا النصي بغية الالتقاء في عملية التوحيد بين المسلمين.
لذلك كتب المرشد العام الثالث عمر التلمساني في مجلة “الدعوة” عام 1985، قائلاً إن “الاتصالات بين الإخوان المسلمين ورجال الدين الإيرانيين، لم يكن الهدف منها أن يعتنق الشيعة المذهب السُّني، ولكن الهدف الأساس الالتزام برسالة الإسلام في توحيد الفرق الإسلامية، والتقريب بينها قدر المستطاع”.
وكذلك تصريح محمد مهدي عاكف (1928-2017) الذي أصبح المرشد العام السابع في 2004 إذ قال خلال مقابلة له مع وكالة الأنباء الإيرانية في 28 يناير (كانون الثاني) 1982 “إن الإخوان المسلمين يؤيدون أفكار ومفاهيم الجمهورية الإسلامية”.
وكان أحد أبرز مفكري الإخوان ومرشدهم السابق في لبنان، فتحي يكن (1933-2009) خصّ آية قرآنية بالخميني ونظامه السياسي الديني، حين أكد أن “قيام الثورة الإيرانية تحقيق لما وعد الله به إذ قال (ولقد سبقت كلمتُنا لعبادنا المُرسلين أنّهم هم المنصورون وأنّ جندنا لهم الغالبون)”.
غير أن النظام الإيراني كان أكثر وضوحاً في توظيفه النصوص الدينية التي يستخدمها في تسويق مشروعه السياسي الطائفي العنصري. فمسألة “الإمامة” أو “الحكومة الإسلامية” أو “الولي الفقيه” لها ركائزها الفيصلية في دولة “المهدي المنتظر”، فوفقاً للخميني في محاضراته التي ألقاها باللغة الفارسية عندما كان مقيماً في النجف عام 1969، والتي صدرت عام 1970 بعنوان “الحكومة الإسلامية”، الذي كان يقول إن “من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مُرسل، وقد ورد عنهم أنّ لنا مع الله حالات لا يسعها مَلك مُقرب ولا نبي مُرسل”.
وبحسب مفهوم الخميني فإنّ النبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يوفّق في دعوته، وإن على نظام “الولي الفقيه” أن يحقق ما لم يستطع تحقيقه نبي الإسلام نفسه. إذ “ومنذ صدر الإسلام والنبوة، وما تلاه، لم يدعوا أن تظهر إلى الوجود حكومة كما يريدها الإسلام. ففي زمن رسول الله ونتيجة لكل تلك المشكلات من حروب ومعارضة، لم تتحقق الحكومة بالشكل الذي كان يريده”.
وبلغة ملؤها التعصب والعنصرية وبعيدة كل البُعد عن الروح والقيم والعقيدة الإسلامية، يرى الخميني في “الوصية الإلهية السياسية”، أنّ شعبه أفضل من أهل الحجاز في عهد النبوة، ويقول بكل وضوح “أنا أزعم بجرأة أن الشعب الإيراني بجماهيره المليونية في العصر الراهن، أفضل من أهل الحجاز في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله”.
ومن دون ريب، تُعد أقوال الخميني تطاولاً وتجاوزاً صريحاً على رسول الله، لكنه منسجم مع آرائه وأفكاره الصفوية المنشأ والتصوّر. لذلك فإنه يؤيد الفكرة الصفوية القائلة “لو كان علي عليه السلام ظهر قبل رسول الله صلى الله عليه وآله، لأظهر الشريعة، كما أظهر النبي صلى الله عليه وآله، ولكان نبياً مرسلاً، وذلك لاتحادهما في الروحانية والمقامات المعنوية والظاهرية”.
أدى هذا الموقف المنحرف بالخميني أن يصل الشكّ عنده إلى كتاب الله سيراً على خطى سابقيه من عهد الدولة البويهية (621-932) والصفوية (1501-1736) من العلماء الذين أيّدوا القول بتحريف القرآن. ففي كتابه الموسوم “القرآن باب معرفة الله”، يشير الخميني بكل وضوح إلى أن “القرآن من دون تحريف وتغيير، ومن كتاب الوحي الإلهي، وأن الذي يستطيع أن يتحمل هذا القرآن هو الوجود الشريف ولي الله المطلق علي بن أبي طالب، ولا يستطيع الآخرون أخذ هذه الحقيقة إلا بالتنزيل من مقام الغيب إلى موطن الشهادة، والتطور بالأطوار الملكية، والتكسي بكسوة الألفاظ والحروف الدنيوية، وهذه إحدى معاني التحريف التي وقعت في جميع الكتب الإلهية والقرآن الشريف، وجميع الآيات الشريفة وضعت في متناول البشر بعد تحريفات عدة، بحسب المنازل والمراحل التي طواها، من حضرة الأسماء إلى عوالم الشهادة والملك الأخير، وعدد مراتب التحريف يتطابق مع عدد بطون القرآن طابق النعل بالنعل”.
وبذلك تعتبر إيران البلد الإسلامي الوحيد المستمر تاريخياً في تأييد فكرة الشك بالقرآن، من دون الاهتمام بالآية الكريمة “إنَّا نحنُ نزّلنا الذِكرَ وإنَّا له لحافظونَ”. فلا غرابة أن يواصل النظام الإيراني في طبع وتوزيع الكتب الدينية مجاناً، التي لا ترى في التاريخ الإسلامي إلا النظرة الرافضية، والنهج الشعوبي العنصري، وفيها من السب واللعن لصحابة رسول الله، والطعن في زوجاته.
فما قاله الأولون والمتأخرون والمحدثون من الرواة والمؤرخين من الفرس الشيعة أمثال المفيد محمد بن النعمان وأبو الحسن العاملي ونعمة الله الجزائري ومحمد باقر المجلسي وعلي بن إبراهيم القمي وميرزا حبيب الله الخوئي وحسين النوري الطبرسي وغيرهم، من الجزم بتحريف القرآن والحط من منزلة خلفاء رسول الله والنيل من أمهات المؤمنين وكراهيتهم للعرب والعروبة بشكل عام، فإن مجموعة المراجع الدينية المتنفذة وطبقة الملالي الحاكمة في النظام الإيراني تؤيده بلا خجل، وتشجعه من غير وجل. والإخوان أيضاً لا يجدون ضيراً في بعض القواسم المشتركة معهم، وفق القاعدة التي تمسك بها مؤسسهم حسن البنا “نتعاون في ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً في ما اختلفنا فيه”!
ثالثاً: التسيس الديني السلطوي
من ضمن المفاهيم المتقاربة بين دولة إيران الدينية وجماعة الإخوان المسلمين، السلوكية السياسية السلطوية. إذ إنهم يجيزون لأنفسهم ويخولون لعقولهم في تكفير من يخالفهم وتغليط من ينقدهم، وذلك بحسب تصوّراتهم ومعتقداتهم السياسية في الدين. ناهيك بالحديث عن استخدامهم أسلوب العنف في قمع الآخرين من ناحية، وتثبيت تحكمهم السلطوي من ناحية أخرى. فعندما انفجرت ثورة الشعوب داخل الجغرافيا السياسية الإيرانية ضد استبدادية الشاه محمد رضا بهلوي (1941-1979) وأسقطته، جاءت بالخميني إلى الحكم، لكنه بدأ رويداً رويداً في إزاحة جميع معارضيه السياسيين والدينيين، وحتى منتقديه من داخل دائرته الضيقة.
قالت الباحثة الأميركية نيكي كيدي في كتابها “إيران الحديثة: جذور ونتائج الثورة” (2006)، “كانت السنوات العشر من حُكم الخميني بارزة بتصاعد سلطة أتباعه وإسقاط الآخرين، وغالباً ما تكون بالعنف، بالرغم من مقاومة المجاميع المعارضة له، فضلاً عن ازدياد هيمنة الإلزام الأيديولوجي والسلوكي على السكان”.
ومعلوم أن الخميني أسس نظاماً دينياً سياسياً، يستمد أصوله من التشيع الصفوي، الذي يجمع بين السلطتين الروحية والزمنية، وهذا ما يخالفه عليه التشيع العربي الذي يفصل بينهما. وفي “الحكومة الإسلامية”، بحسب مفهوم الخميني، “إذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل، فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا”.
وكذلك يشير الخميني إلى أن هذه الولاية لا تخص المنزلة الخاصة بالنبوة والأئمة، بل هي اعتبارية عقلانية، تخص “الوظيفة العمليّة” فقط. ولكن في هذا الجانب العملي أو التطبيقي لشرع الله، الذي يكون فيه الحاكم منفذاً لأمر الله وحكمه، فإن هذا الحاكم قد يكون “نبياً أو إماماً أو فقيهاً عادلاً”.
إلا أنّ آية الله حسن الطباطبائي القمي (1912-2007)، نقد الخميني بشدة، قائلاً “إذا كان المراد من هذه القسم من الولاية المبسوطة والواسعة، التي ثبتت للرسول صلى الله عليه وسلم والأئمة الأطهار، أن توجد بنفس التوسعة للفقيه، فهي على القطع خطأ بلا تردد، لأن هذه القسم من الولاية يحتاج إلى قدرة العصمة الكاملة والمطلقة، وليس لأي فقيه مقدرة كهذه، وبهذا الدليل كلما يكون الفقيه عالماً ووراداً ومتقياً وربانياً وذا ملكة للعدالة أيضاً، فبالطبع تحت تأثير السهو والاشتباه والنسيان، وتحت تأثير العوامل النفسية الأخرى، يمكن أن يقوم بعمل لم يكن فيه ملحظاً”.
وجاء رد فعل الخميني تجاه نقد حسن القمي له في خراسان أن سامه سوء العذاب والاضطهاد، ووضعه تحت الإقامة الجبرية محاطاً بجلاوزة النظام، ومراقباً على مدار الساعة.
وكذلك جرى الأمر ضد آية الله محمد كاظم شريعتمداري (1905-1986)، الذي عارض فكرة ولاية الفقيه كنظام حكم بصلاحيات مطلقة، إذ لم يكفِ الخميني عدم منحه حق الاستثناء من عموم الولاية، بل عمد إلى إذلاله وتهميشه، ورفض السماح له حتى بالعلاج من مرض السرطان في الخارج. وفي 1982 تم توجيه الاتهام له بالتآمر، ومحاولة اغتيال بعض قيادات الثورة، وتعرض للضرب والإهانة برغم شيخوخته ومنزلته الدينية والعلمية، ومات مريضاً معزولاً في بيته بمدينة قم المقدسة عندهم.
والأنكى من هذا وذاك، أن آية الله حسين علي منتظري (1922-2009)، الذي عينه الخميني نائباً للمرشد الأعلى تعرّض لذات الإقصاء المرير، عندما رفض مبدأ ولاية الفقيه، لأنها تعني إحلال الاستبداد الديني محل الاستبداد العلماني، وخالف فتوى الخميني في إعدام آلاف السجناء من المعارضين للنظام، ولم يوقف سهام نقده نحو الحرس الثوري في إشعال فتيل الطائفية في البلدان العربية. فأمر الخميني بوضع منتظري رهن الإقامة الجبرية، وفرضت عليه عزلة سياسية إلى آخر حياته. وهكذا استمر موقف الخميني التعسفي والظالم مع كبار رجال الدين من الذين تجرأوا على نقده أو معارضة نظامه، فكيف الحال مع مناوئيه من السياسيين المدنيين والعسكريين؟
وكذلك بالنسبة إلى الإخوان، فعن استخدام القوة ضد الغير يقول المرشد المؤسس البنا “إن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها، وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة، وهم حين يستخدمون هذه القوة سيكونون شرفاء صرحاء وسينذرون أولاً، وينتظرون بعد ذلك ثم يقدمون في كرامة وعزة، ويتحملون كل نتائج موقفهم بكل رضاء وارتياح”.
وعلى منوال البنا يدور سيد قطب، ولكن بتطرف أكثر، ففي كتابه “معالم على الطريق” يرى أن المسلمين اليوم “ليسوا مسلمين كما يدعون إن شهدوا أن لا إله إلا الله وإن محمد رسول الله وإن صلى أحدهم وحج البيت الحرام وهم يحيون حياة الجاهلية”. وأن “موقف الإسلام من هذه المجتمعات الجاهلية كلها يتحدد في عبارة واحدة، أن يرفض الاعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلها”.
أما في كتابه “في ظلال القرآن” فيذهب للقول “ليس على وجه الأرض دولة ومسلمة ولا مجتمع مسلم قاعدة التعامل فيه هي شريعة الله والفقه الإسلامي”. ويرى أيضاً “إن قضية وجود الإسلام ووجود المسلمين هي التي تحتاج اليوم إلى علاج”.
ومن عبارات تلك النصوص يتضح لنا كيف أن الإخوان يستخدمون قضية التكفير ضد الآخرين وفق رؤية فكرية ومفهوم ديني يخصهم وحدهم. ما يعني أن الإخوان هم فقط على الصراط المستقيم، وهي طريقة يحاولون فيها احتكار الإسلام لمنهجهم بغية فرض سيطرتهم وسطوتهم.
وهذا التسلط والاستبداد الروحي ظهرا بشكل سافر في صلاحيات الولي الفقيه المطلقة، باعتباره المرجع الديني والسياسي في آن واحد. ففي تاريخ 31 ديسمبر (كانون الأول) 1988، بعث خميني برسالة إلى خامنئي الذي كان يشغل حينها منصب رئيس الجمهورية، يشرح له فيها تصوراته عن الأطر والصلاحيات الواجبة لدى الولي الفقيه، وأدرجت هذه الرسالة في الدستور الإيراني في ما بعد. ومما يشير إليه الخميني فيها “إذا كانت صلاحية الحكومة محصورة في إطار الأحكام الفرعية الإلهية، لوجب أن تلغى أطروحة الحكومة الإلهية والولاية المطلقة المفوضة إلى نبي الإسلام، وأن تصبح بلا معنى… ولا بد أن أوضّح أنّ الحكومة شعبة من ولاية رسول الله المطلقة، وواحدة من الأحكام الأولية للإسلام، ومقدمة على جميع الأحكام الفرعية، حتى الصلاة والصوم والحج… إنّ الحكومة تستطيع أن تمنع موقتاً في ظروف التناقض مع مصالح البلد الإسلامي إذا رأت ذلك، أن تمنع من الحج الذي يعتبر من الفرائض المهمة الإلهية. وما قيل حتى الآن وما قد يقال ناشئ من عدم معرفة الولاية المطلقة الإلهية”.
نقلا” عن أندبندنت عربية