كتب : علي قاسم
الجميع يتحدث عن الخلاف الدائر بين بكين وواشنطن، منتظرا حدوث معجزة تعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. فهل يشهد العالم انقطاعا في العلاقات، منهيا بذلك تكاملا اقتصاديا استمر أربعين عاما؟
فكرة أن “الحياة تغيرت بشكل دائم، هي فكرة مقلقة للغاية” كما يقول المحلل، جديون راشمان، من صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية، وهي فكرة “يصعب التعامل معها”.
الأمر نفسه ينطبق على جائحة كورونا؛ بعد مرور تسعة أشهر تقريبا على ظهور فايروس كوفيد – 19، ما زال العالم ينتظر حدوث معجزة.
وبينما التكنولوجيا هي سبب الصراع، ظاهريا على الأقل، بين الولايات المتحدة والصين، ننتظر في حالة وباء كورونا أن يأتينا الحل من التكنولوجيا.
تهاون فوق الحد
حالة عدم اليقين هذه، يمكن تتبعها في حركة أسواق المال في وول ستريت، حيث أغلقت، يوم الجمعة، على صعود المؤشرين ستاندرد آند بورز وناسداك، إلى مستويين غير مسبوقين، مدعومين بسهم أبل وبيانات أشارت إلى بعض مواطن القوة في الاقتصاد الأميركي.
وأضاف مؤشر الأسهم التكنولوجية، ناسداك، 2.7 في المئة إلى قيمته على أساس أسبوعي.
الترجمة الوحيدة لما يحدث هي أن الجميع ينتظر صفقة تفضي إلى إزالة الخلافات بين واشنطن وبكين، وتعمل على استقرار الأمور بين الطرفين؛ على الأقل أن يحدث هذا بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية.
عندما أشار مقربون من ترامب إلى احتمال أن يؤدي أمره الجديد، إجبار الشركات الأميركية على مقاطعة تطبيق المراسلة الصيني، وي تشات، للإضرار بالمبيعات الأميركية في الأسواق الصينية، كان رده السريع كالعادة “لا يهمني”.
رد ترامب لا يدل على “تهاون فوق الحد”، كما حاول أن يصوره محللون اقتصاديون؛ ما يحدث ليس مجرد “حماقة ترامبية”؛ الحزبان الجمهوري والديمقراطي اجتمعا على اتخاذ موقف صارم من الصين، حتى لو أضر ذلك بأرباح الشركات الأميركية.
في شهر مايو أقر مجلس الشيوخ، بالإجماع، مشروع قانون لإجبار الشركات الصينية على شطب إدراجها من البورصات الأميركية إذا لم تفتح دفاترها للمنظمين الأميركيين.
كلا الجانبين يوجه اللوم للآخر، متهما إياه ببدء الأعمال العدائية؛ الصينيون يشيرون إلى فرض ترامب رسوما جمركية من جانب واحد. بينما تشير الولايات المتحدة إلى أن غوغل وفيسبوك كانتا محظورتين في الصين منذ أكثر من عقد من الزمان، قبل أن تتخذ الولايات المتحدة إجراءات جادة ضد شركات التكنولوجيا الصينية، مثل هواوي وبايت دانس.
هل مهم حقا معرفة من بدأ الخطوة الأولى في هذه الحرب؟ وهل هي حرب اقتصادية، أم هي حرب سياسية أمنية، السبب فيها مخاوف طرحها التطور التكنولوجي الهائل بالدرجة الأولى؟
المهم هو ماذا سيحدث الآن، وماذا سيترتب على هذا الصراع من نتائج، ليس فقط على طرفي الصراع، ولكن على العالم أجمع؟
إذا اتخذت واشنطن المزيد من الإجراءات ضد شركات التكنولوجيا الصينية، لا بد أن ترد بكين بفرض المزيد من القيود على شركات التكنولوجيا الأميركية في الصين.
ستكون العلامات التجارية الأميركية عرضة للمقاطعة من قبل المستهلك الصيني، حيث أدت مخاوف الشركات الصينية أمام حظر مبيعات رقائق الكمبيوتر الأميركية إلى تكثيف الجهود الصينية لتحقيق الاكتفاء الذاتي من التكنولوجيات الرئيسة.
إزاحة فيسبوك
تينسنت تزيح فيسبوك من قمة منصات التواصل الاجتماعي الأكبر قيمة في العالم
في هذا كله سترغب الدول والشركات الأوروبية الكبرى في البقاء على الحياد في الحرب الباردة الناشئة بين الولايات المتحدة والصين، ولكن هل تتمكن من ذلك؟ قرار المملكة المتحدة فتح سوق اتصالات الجيل الخامس أمام هواوي لم يصمد طويلا، بل تبين أنه مستحيل.
بعد إحداث شلل في هواوي، وتفكيك الأعمال العالمية لشركة بايت دانس، حولت الولايات المتحدة أنظارها الآن إلى شركة تكنولوجيا عملاقة صينية ثالثة، تينسنت.
وكانت تينسنت قد أزاحت فيسبوك من قمة منصات التواصل الاجتماعي الأكبر قيمة سوقية في العالم. حيث قفزت القيمة السوقية لها إلى 670 مليار دولار. وما زال عملاق الإنترنت الصيني يمتلك فرصا لارتفاع قيمته السوقية.
وبحسب التقرير فإن تينسنت تلقب باسم قوة ألعاب الجوال العالمية، فهي تضم تحت مظلتها حزمة واسعة من الألعاب التي يتجاوز عددها 480 لعبة، إلى جانب عدد المنصات الاجتماعية منها تطبيق وي تشات المعروف. كما تشتهر الشركة بمقاطع الفيديو الموسيقية وتطبيقات الحوسبة السحابية.
فيما يصنف مؤسس ورئيس مجلس إدارة الشركة، بوني ما هواتنغ، كأغنى شخص في الصين، والمصنف رقم 20 عالميا بمؤشر بلومبرغ بثروة تفوق 52 مليار دولار، ليسبق جاك ما، مؤسس شركة علي بابا، الذي تقدر ثروته بـ50.5 مليار دولار.
ويشتد التنافس بين شركات الإنترنت الأميركية والصينية هذه الفترة، وهو ما تجلى قبل أسبوعين في إزاحة شركة علي بابا للتجارة الإلكترونية، شركة فيسبوك من المرتبة السادسة كأكبر شركة في العالم من حيث القيمة السوقية، بعد أن وصلت قيمة العملاق الصيني إلى 673 مليار دولار.
وتستفيد الشركات الصينية من النمو الاقتصادي المحلي وتعاظم الناتج المحلي الإجمالي، مع تمتعها بفرص أكبر للانفتاح على المزيد من الأسواق الناشئة في آسيا وأفريقيا.
حظر تينسنت وتطبيق وي تشات، الذي يستخدمه مليار صيني، سيكون له تأثير كبير ليس فقط في ثاني أكبر شركة تكنولوجيا صينية من حيث القيمة، لكن أيضا في قطاعات كبيرة من الشركات الأميركية.
الأمر التنفيذي الذي وقعه دونالد ترامب كان غامضا ولم يوضح إلى أي مدى ستكون العقوبات شديدة. لكنه كان سلبيا بما يكفي لإزالة عشرات مليارات الدولارات من أسعار أسهم تينسنت وأبل، التي لم تستجب لطلب التعليق.
إذا كان هناك تفسير صارم فإنه يمكن أن يضطر أبل وغوغل إلى إزالة تطبيق وي تشات، من متجر تطبيقاتهما، وهي خطوة ستؤدي حتما إلى إضعاف مبيعات أجهزة آيفون في الصين، وبالتالي شعبية التطبيق.
الشركات الأميركية مثل وول مارت، وكوك، ونايكي التي تعتمد على وي تشات لتسويق وبيع سلعها ستتضرر هي الأخرى. خاصة وأن التطبيق قد حل محل البريد الإلكتروني في الصين، بوصفه واحدا من طريقتين رئيستين للدفع عبر الهاتف الذكي التي تشهد تزايدا في التخلي عن استخدام النقود في عمليات التسوق.
حماية الأمن القومي
غاب الدفع نقدا وحضر وي تشات وعلي بابا
يبلغ عدد مستخدمي وي تشات في الولايات المتحدة نحو ثلاثة ملايين مستخدم فعال شهريا فقط، معظمهم من المغتربين الصينيين والطلاب الصينيين الذي يدرسون في الجامعات الأميركية، الذين يعد التطبيق وسيلة قيمة بالنسبة لهم للبقاء على تواصل مع عائلاتهم وأصدقائهم في البلد الأم.
ولكن، مصدر القلق الأكبر يكمن في القيود على أعمال الشركة الخارجية التابعة لها، وهو منعها من شراء الخوادم أو الرقائق الأميركية لاستخدامها في أعمال وي تشات الخاصة بها.
جميع التحاليل تشير تقريبا إلى عدم وجود رابح في هذه القضية، التي يتقاسم فيها الطرفان الخسارة.
الصراع الذي يجري حاليا هو صراع سياسي وأمني بالدرجة الأولى. طالما أن الولايات المتحدة ومعها الاتحاد الأوروبي لا يثقان في النظام الشيوعي في بكين، سيبقى هناك قلق من استخدام بكين شركات أميركية وأوروبية في جمع البيانات بشأن المستخدمين، وتشكيل المحتوى الإعلامي والتدخل في البنية التحتية الأساسية.
وأشار ترامب بوضوح إلى أن الأمر الذي أصدره للتوقف عن التعامل مع شركة “بايت دانس المحدودة”، وهي الشركة الأم التي تمتلك شركة تيك توك، ومقرها بكين، إضافة إلى عملاقة الإنترنت، تينسنت هولدينغز المحدودة، في المعاملات المتعلقة بتطبيق “وي تشات”، خلال مهلة حددها بـ45 يوما، تبرره التهديدات الجدية للأمن القومي الأميركي، واستشهد بجمع البيانات تلقائيا بواسطة تطبيق التواصل الاجتماعي الشهير الذي يركز على الفيديو.
وجاء في الأمر أن “جمع البيانات هذا يهدد بالسماح للحزب الشيوعي الصيني بالوصول إلى المعلومات الشخصية وممتلكات الأميركيين. ويجب على الولايات المتحدة اتخاذ إجراءات حازمة ضد مالكي تيك توك لحماية أمننا القومي”.
وتهدف شركة “مايكروسوفت” إلى شراء عمليات “تيك توك” في الولايات المتحدة قبل الموعد النهائي. ودعم ترامب الخطوة التي اتخذتها شركة البرمجيات العملاقة التي يقع مقرها في سياتل.
ويبدو أن إدارة ترامب عازمة على المضي قدما إلى ما هو أبعد من ذلك. وكان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أعلن عن مبادرة تشير إلى أن الهدف النهائي للإدارة الأميركية هو محو التكنولوجيا الصينية من شبكات الاتصالات الأميركية بالكامل.
ويرى تيار فكري معارض أن فرض المزيد من الضغط الغربي لن يؤدي إلا إلى تسريع وتيرة التقدم التكنولوجي للصين، حيث تعمل بكين على مضاعفة هذه البرامج التي تقودها الدولة، وتشعل الحماس القومي بين رواد الأعمال في مجال التكنولوجيا.
ويعتبر أحد أسباب حفاظ الولايات المتحدة على هيمنتها حتى في ظل تراجع حصتها من النشاط الاقتصادي العالمي، هو أن العالم ما زال يستخدم تطبيقات أميركية على أجهزة تعمل بأنظمة تشغيل ورقائق أميركية.
الحاجة إلى التواجد العالمي لا يقل أهمية في العصر الرقمي عن الصناعة. كما أن الوصول إلى الجمهور الدولي يوفر فرصا للتطبيقات من أجل جمع عدد أكبر من المستخدمين، وبالتالي عرض الإعلانات، والأهم من ذلك أنه يوفر البيانات التي تعتبر شريان الحياة الجديد بالنسبة للتكنولوجيا الجديدة.
اقتصاد الانتباه
قيمتنا بالنسبة لشركات التواصل الاجتماعي تزداد كلما اختلفنا في الرأي واختصمنا
ستون في المئة تقريبا ممن يتلقون رسائل عن طريق وسائل الاتصال الاجتماعي، يحولونها إلى طرف ثالث دون أن يقرؤوا محتواها، حسب دراسة كانت قد صدرت عن جامعة كولومبيا.
اعتاد البشر في السابق الربط بين الموضوع وعنوانه، ولكن اليوم يكتفي الكثيرون بالعناوين فقط. ما تفسير ذلك، وكيف ينعكس على العالم الذي نعيش فيه اليوم؟
بعض الإجابة على الأقل نجده عند حركة يُنظمها “مركز التكنولوجيا الإنسانية”، التي نقرأ على صفحتها الإلكترونية “طالما تُحقق شركات التواصل الاجتماعي أرباحاً من وراء إدمان الناس الإنترنت والإثارة وتشويش الذهن، فإن حياتنا وديمقراطيتنا ستظل مهددة بالخطر. آن الأوان لتغيير ذلك”.
قد تكون هذه واحدة من الإجابات، التي تفسر اليوم ما يحدث.
المركز، أسسه خبراء يعملون بشركات عملاقة، مثل فيسبوك وتويتر وغوغل وغيرها، بعد أن أدركوا خطورة تلك المنصات الرقمية، وقرروا أن يقودوا حملة لتوضيح طبيعة المشكلة، والعمل على تفادي أخطارها.
منصات التواصل الاجتماعي مثل واتسآب وأخواتها، حسب هؤلاء، تربح المليارات من وراء جعلنا “ندوس ونمسح ونُشيِّر” طوال الوقت.
قيمتنا بالنسبة لشركات التواصل الاجتماعي تزداد كلما اختلفنا في الرأي واختصمنا، بل وكلما تمادى تطرفنا، ونزعنا نحو المبالغة وتعمد الإثارة، حتى الاكتئاب الناجم عن إدمان الموبايل، أجادت تلك الشركات استثماره وتحويله إلى أرباح.
هناك اقتصاد جديد عملاق يولد اليوم، تبدو الاقتصاديات الكلاسيكية مقارنة معه تافهة وضئيلة، بما في ذلك الصناعات الكلاسيكية والزراعة. هذا الاقتصاد بات يعرف بـ”اقتصاد الانتباه”.
كل ما على هذه الشركات هو الفوز بانتباهنا لتحقق مزيدا من الربح. ولا يهم إن كانت المعلومة صحيحة أو خاطئة، قد تترتب عنها أحيانا كوارث للفرد والمجتمع، مهما ادعت تلك الشركات الحرص على التمييز بين الجيد والخبيث.
في عالم اليوم حيث تجري الأمور بسرعة كبيرة أصبح جذب الانتباه إحدى أهم {السلع} التي تتنافس عليها الدول.
ونحن هنا لا نتحدث بالضرورة عن الادعاءات التي تقول إن “الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي يؤدى إلى انحطاط الوعي وفقدان الإنسانية، لأنه يزيد من السلوك البدائي المتسرع التلقائي العاطفي، على حساب التفكير المتأني العقلاني”.
هناك من يصل باتهاماته إلى درجة يحمل فيها تلك الشركات المسؤولية عن “غياب الوعي الجمعي اللازم لمواجهة المخاطر الكونية المشتركة بين كل البشر كتلوث البيئة، والكوارث الطبيعية، والحروب والعنصرية واتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء”.
وقد يشير البعض إلى توظيف التكنولوجيا لتزوير الحقائق، كما حصل حسب زعمهم، في ثورات الربيع العربي، التي لعبت فيها وسائل التواصل الاجتماعي دورا كبيرا، لم يكن دائما “بريئا”.
وهذا حسب هؤلاء “يهدد الأنظمة السياسية ومستقبل الأجيال، بل يهدد الحقيقة نفسها”.
في عالم اليوم، حيث تجري الأمور بسرعة، أصبح جذب الانتباه أحد أهم “السلع” التي تتنافس عليها الدول. لذلك فقد سبب تطبيق تيك توك الصيني قلقاً كبيراً للأميركيين.
من يسيطر على ثورة المعلومات، يستطيع أن يسيطر على العالم، هذا الحكم الصادر عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التقفه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وسار وفقه.
لا يهم ترامب أن تخسر اليوم الشركات الأميركية والاقتصاد الأميركي من جراء حربه المعلنة ضد الصين. الخسائر ستكون مؤقتة؛ بعد أن يهدأ غبار الحرب ستجني تلك الشركات أضعافا مضاعفة من حجم الخسائر التي تكبدتها.
المهم اليوم بحسب ترامب، حتى وإن لم يعلن ذلك صراحة، أن يحرم الصين من ثمار النجاح التكنولوجي الذي استطاعت أن تحققه حتى هذه اللحظة.
لقد تم بناء الأربعين عاما الماضية من تاريخ العالم حول العولمة والتقارب بين الولايات المتحدة والصين. لكن هذا العالم يختفي بسرعة الآن.
المصدر : العرب اللندنية