أكد المفكر والمؤرخ التونسي هشام جعيط في حواره مع “العرب” أن أزمة المسلمين العرب عمّقها هوسهم بالدين. مشددا على أن هذا الدين يلعب دورا مجحفا في حياة هؤلاء. كما دعا جعيط التونسيين إلى تغيير النظام السياسي في بلادهم إلى رئاسي، معتبرا أن ذلك هو الحل لاسيما أن التونسيين ترسخت لديهم قناعة بأن الرئيس هو من يحكم، مشيرا إلى أن الدولة الأمة أو الوطنية هي التي تفوقت على فكرة الوحدة العربية والإسلامية.
تونس – صغير الحيدري
دعا المفكر التونسي والمؤرخ هشام جعيط في حوار مع “العرب” التونسيين إلى ضرورة العودة إلى النظام الرئاسي مبرزا محاسن هذا النظام الذي تعود التونسيون عليه.
وأشار جعيط، الذي له إسهامات بارزة في الفكر العربي والإسلامي، إلى أن أزمة التونسيين الحقيقية تتمثل في كونهم عجزوا عن وضع نظام سياسي يتلاءم مع متطلبات واقعهم ومع تصوراتهم للحكم.
وفي سياق آخر، شدد جعيط على أن للمسلمين ’’هوسا كبيرا‘‘ بالمحافظة على الدين عكس الشعوب في الغرب التي مرت بمراجعات وفترات نهضة فكرية.
ويُعد جعيط أحد أبرز المفكرين العرب الذين سبروا أغوار التاريخ الإسلامي ودرسوا فترات حساسة في تاريخ الإسلام، ومن أبرز مؤلفاته “الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر”، “جدل الهوية والتاريخ”، “في السيرة النبوية جزء 1: الوحي والقرآن والنبوة”، “في السيرة النبوية جزء 2: تاريخية الدعوة المحمدية”، “في السيرة النبوية جزء 3: مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام”، وغيرها من المؤلفات.
ودرس جعيط في العديد من الجامعات العربية والأجنبية منها جامعة كاليفورنيا ومعهد فرنسا، كما تولى رئاسة المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون (بيت الحكمة) بين سنتي 2012 و2015.
نظام سياسي مأزوم
تعيش تونس على وقع تجاذبات سياسية كبيرة باتت تهدد بالذهاب إلى انتخابات برلمانية مبكرة وسط تراشق بالتهم بين جل مكونات المشهد السياسي.
في تعليقه على ذلك، يؤكد هشام جعيط أن الخلل يكمن في النظام السياسي الذي وضع منذ 2014 قائلا ’’الكل يُجمع اليوم على أننا وصلنا إلى درجة كبيرة من الاضطراب.. والوضع لم يعد يحتمل لكن لا بد من الرجوع إلى الأصل‘‘.
وأضاف ’’عندما اندلعت الثورة وقع توزيع الحكم السياسي إلى ثلاث رؤوس: رئيس الجمهورية الذي ينحصر دوره الضعيف في مجالي الدفاع والخارجية ورئيس الحكومة الذي تعد غالبية الصلاحيات بيده ورئيس البرلمان الذي يلعب هو الآخر دورا صغيرا‘‘.
ويوضح أن هناك سياقات أحاطت باختيار هذا النظام السياسي على غرار صعود “تيارات إسلاموية” والأحداث الدامية التي شهدتها البلاد على غرار الاغتيالات السياسية حيث استشهد القياديان محمد البراهمي وشكري بلعيد إبان حكم الترويكا، مشددا على أنه من الضروري العودة إلى النظام الرئاسي.
وقال المؤرخ التونسي ’’ترسخت قناعة لدى التونسي مفادها أن الرئيس هو من يحكم، لذلك من الضروري العودة إلى النظام الرئاسي ووقف تشتت الصلاحيات لاسيما في ظل حالة الانقسام الحادة‘‘ مضيفا ’’يجب على الرئيس تكوين حزب سياسي والفوز بغالبية مطلقة (على التونسيين التصويت له) من أجل تحقيق ذلك (تغيير النظام السياسي).. هي عملية صعبة لكن نستطيع العمل على ذلك‘‘.
وفي خضم الأزمة السياسية التي تعيش على وقعها البلاد، حيث تسود حالة من التوتر لاسيما بين حركة النهضة الإسلامية و خصومها الذين يتهمونها بمحاولة إدخال البلاد في سياسة المحاور، تتكثف الدعوات من أجل تغيير نظام الحكم في تونس.
وأيدت هذه الدعوات أحزاب ومنظمات عريقة على غرار حركة مشروع تونس التي يرأسها محسن مرزوق وكذلك الاتحاد العام التونسي للشغل الذي دعا علنا إلى المرور إلى “الجمهورية الثالثة” وتغيير النظام السياسي.
هشام جعيط يعتبر أن المسلمين العرب عززوا سطوة الدين على مجتمعاتهم من خلال الاهتمام المبالغ فيه به مشددا على أن شيئا لن يتغير بشأن ذلك في مرحلة ما بعد الوباء
ويرجع هشام جعيط الأسباب التي جعلت بعض الأحزاب تتبنى وتتمسك بالنظام البرلماني أو شبه البرلماني إلى المخاوف من عودة الدكتاتورية، لكنه يستبعد ذلك.
ويقول “المشكلة تكمن في أن تغيير النظام الانتخابي لن يغير شيئا لأننا رأينا منذ 2011 لا يوجد أي حزب نجح في حصد غالبية مطلقة في البرلمان قادرة على التغيير الفعلي.. لذلك لا بد من تغيير النظام السياسي ككل.. المخاوف من عودة الدكتاتورية تتبدد في وجود صحافة حرة ومنظمات حقوقية وغيرهما”.
ويشدد المفكر التونسي على أن دستور 2014 حمل الكثير من التناقضات حيث ينص من ناحية على أن الحكم برلماني (رئيس الحكومة يزكيه البرلمان) لكن من ناحية أخرى رئيس الجمهورية يُنتخب انتخابا مباشرا من الشعب وهذا يعطي للرئيس شرعية كبيرة.
وتساءل جعيط ’’كيف يمكن لرئيس جمهورية منتخب مباشرة من الشعب لا يحكم خصوصا في الأمور الداخلية، ورئيس حكومة يأتي به البرلمان (ليس منتخبا) يحكم ويقوم ببرامج؟‘‘ مشددا على أنه في ظل هذا ’’النظام الهجين‘‘ لا يمكن أن نحقق استقرارا سياسيا.
ومع استفحال الأزمة السياسية في تونس، يزداد السخط الشعبي على الأحزاب التي انصرفت إلى صراعات توصف بـ”الصبيانية” وتخلت عن دورها الحقيقي.
ويقول هشام جعيط في هذا الصدد ’’القوى السياسية بعد انتخابات 2019 لم تعد تستسيغ الحكم مع حركة النهضة خصوصا في ظل تآكل الخزان الانتخابي للحركة الإسلامية‘‘.
ويشير المفكر التونسي إلى أن تونس ’’ليست مستعدة تماما للديمقراطية‘‘ لأن هذه الأحزاب مثلا ليس لها أي ماض وليست لها أي رؤية ولا تتجه إلى استنساخ تجارب من بلدان مقارنة، حسب جعيط.
ويضيف جعيط أن هذه الأزمة التي افتعلتها الأحزاب منحت قيس سعيد، رئيس الجمهورية، الضوء الأخضر للتحرك لتغيير النظام السياسي وهو ما لم يفعله الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، قائلا ’’قائد السبسي كانت له شرعية أدبية سياسية فقط، لكن قيس سعيد له شرعية قانونية لذلك هو يتجه الآن نحو تغيير النظام السياسي إلى نظام رئاسي، وهو نظام أعتقد أنه الأمثل للتونسيين، وهو الذي يتماشى ومخيالهم العام‘‘.
ويشير إلى أن التونسيين “متأثرون جدا” بفرنسا والسياسات الكبرى لباريس قائلا ’’نحن شعب دائما نتجه لنستنسخ ما تقوم به فرنسا.. حتى في الأزمة الصحية نفسها، لم تكن هناك ضرورة للحجر الصحي الإجباري الذي هدم الاقتصاد، ومع ذلك اتبعنا ما قامت به فرنسا.. لماذا لا نتبع إذا النظام السياسي الفرنسي وهو نظام ناجح ولم يفرز دكتاتورية حيث يوجد رئيس دولة ورئيس وزراء له برامجه لكنها تتماشى مع سياسات الرئيس‘‘.
أزمة العرب
هشام جعيط يلخص أسباب الأزمة التي تعيشها بعض البلدان العربية في التدخل الأجنبي في هذه الدول
في معرض حديثه عن التحولات الجيوسياسية التي يعيشها العالم العربي لاسيما بعد ثورات “الربيع العربي” يلخص هشام جعيط أسباب الأزمة التي تعيشها بعض البلدان العربية في التدخل الأجنبي في هذه الدول.
ويقول المفكر التونسي ’’اليوم ليبيا تشهد حربا أهلية واليمن أيضا، مصر تعيش نوعا من الاستقرار الحذر، لبنان يعيش أزمة لم يشهد مثيلا لها حتى خلال الحروب التي عرفتها الدولة اللبنانية، ما يمكن أن نستخلصه من هذه الأزمات أن التدخلات الأجنبية هي التي عمقت أزمة العرب‘‘.
وأضاف ’’لم يشهد العرب سواء في الشرق الأوسط أو شمال أفريقيا حالة من الاضطراب مثل هذه التي يعيشونها اليوم.. هناك قوى عظمى تتدخل بكل ثقلها في العالم العربي وحتى دول صاعدة.. فتركيا مثلا تتدخل وإيران تتدخل والولايات المتحدة وروسيا وحتى مصر الآن وغيرها‘‘.
ويؤكد جعيط أن إيران مثلا باتت تتدخل ’’بصفة مجحفة‘‘ في الشأن العربي منذ قيام ثورة 1979، مشيرا إلى تحركاتها في سوريا ولبنان ودعمها لحركة ’’حماس‘‘ وغيرها، ما جعلها تدخل في صراع مع السعودية باعتبار الطابع الإسلامي لدى الدولتين.
ويشدد المفكر التونسي على أن الوضع في بلاده يعد أفضل من أوضاع دول أخرى على غرار لبنان وليبيا وسوريا، لكن الأفضلية تبقى دائما لدى المملكة المغربية التي نجحت في إرساء استقرار سياسي واجتماعي مكنها من تطوير اقتصادها.
ويضيف أنه منذ 50 عاما تقريبا جرت نقاشات كبيرة حول هوية الدولة وفصل الدين عن الدولة (العلمانية) أفضت في نهاية المطاف إلى أن الدولة الأمة (الوطنية على النمط الأوروبي) تستقر في العالم العربي، قائلا ’’فكرة الوحدة العربية زالت، وحتى التيارات الإسلامية أخفقت ولم تنجح إلا في إيران التي فيها الدولة الأمة حيث تم رسم سياسة خارجية توضح العنجهية الإيرانية وتتدخل في الدول لحماية مصالحها.. السعودية أيضا تتجه نحو هذا المثال (بناء دولة وطنية).. الإمارات كذلك صارت قوة عسكرية وليست اقتصادية فحسب وهي اتجهت نحو بناء دولة وطنية‘‘.
وبالنسبة لهشام جعيط أنه عند الحديث عن الدين والدولة لم يعد بالإمكان الحديث عن دولة دينية، مبرزا ’’يمكن الحديث عن قوى سياسية دينية في العراق مثلا ولبنان حيث توجد أحزاب تنتمي إلى السنة والشيعة.. أعتقد أن في تونس حُسم الأمر: لم تعد لدينا مشكلة وهاجس من إقامة دولة دينية، لم يبق إلا المثقفون والنخبة يتحدثون عن ذلك‘‘.
ويضيف ’’بالنسبة للمجتمعات العربية، لو نقوم بمقارنة بسيطة مع مجتمعات أخرى، فإن المشكلة تكمن في الدور الكبير الذي يلعبه الدين في هذه المجتمعات.. مهما كانت طبيعة الدولة لم تتخلص المجتمعات العربية من سطوة الدين.. نحن نحترم الدين لكن عدم التخلص من هذه السطوة سمح بوجود تنظيمات دينية (إسلامية).. الدين بطقوسه، وباهتمامات الناس به في العالم العربي موجود بطريقة مجحفة‘‘.
ولدى سؤاله عن مكانة الدين ومؤسساته وممثليه في العالم العربي في مرحلة ما بعد الوباء يستبعد هشام جعيط أن يكون لهذه المؤسسات دور سلبي حتى قبل الوباء، قائلا ’’هناك دول عملت على تحجيم نفوذ بعض المؤسسات الدينية ونجحت في ذلك حيث بات خطاب المؤسسات الدينية متناغما مع ما تتطلع إليه الدولة‘‘.
ويضيف ’’أعود وأكرر، ليست المشكلة في المؤسسات ولا في ممثليها، المشكلة تكمن في أن المسلمين لديهم هوس كبير بالدين وبالمحافظة عليه.. الدين يلعب دورا مجحفا في حياة المسلمين‘‘.
وشدد جعيط على أن ’’المشكلة مشكلة حضارة.. الحضارة الغربية مثلا كانت متأثرة بالدين لكن المراجعات جاءت في سياق النهضة الفكرية التي أفرزها عصر التنوير.. منذ ثلاثة قرون حسم الغربيون أمرهم في هذا الصدد وهو ما لم يقم به المسلمون والعرب‘‘.
ويضيف ’’العرب حتى وإن قاموا بمراجعات منذ 50 سنة فإنهم لم يحسموا بعد بالشكل الذي نجح فيه الغرب.. الدين لا يتدخل في المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الغرب بخلاف المجتمعات العربية‘‘.
نقلا” عن العرب اللندنية