كتب : علي شندب
تترسخ مساحة القناعة بين جموع الليبيين بأن شعار “حماية المدنيين” الذي رفعه المجتمع الدولي ضد الجماهيرية الليبية كان الكذبة الكبرى التي انطلت عليهم لتنفيذ أكبر عملية سطو تعرضت وتتعرض لها ليبيا منذ عام 2011 حتى اليوم.
فحماية المدنيين بالأساطيل الناتوية الساركوزية والأوبامية، المعزّزة بالفتاوى القرضاوية منها والخامنائيّة، والتي انخرط فيها ضمنا وتحت راية حلف الناتو كل من حركة حماس وحزب الله، لم تكن إلا الذريعة الهادفة إلى شطب ليبيا المتموضعة على عقدة المواصلات القارية الأوروبية والمتوسطية والإفريقية من معادلة القوة والنفوذ والحضور الإقليمي والدولي.
إنها الحماية التي رفعت عن المدنيين الليبيين بمجرد الانتهاء من إسقاط وتفكيك الدولة الليبية وقتل معمر القذافي لتدخل ليبيا بعدها معه في ذاك القبر المجهول، ولتتحول إلى مقبرة حقيقية لليبيين وطموحاتهم وأحلامهم الموؤودة في الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان بالإضافة إلى التنمية الموعودة لتصبح طرابلس مثل دبي، وبنغازي مثل باريس، ومصراتة مثل روما.
وليستفيق الليبيون بعد انتهاء مفعول حقنة الثورة التي حقنهم بها المرشد الأعلى للثورات المسمومة برنار هنري ليفي، على وطن مسلوب الإرادة والسيادة ومنهوب الثروات، ولتتحول ليبيا بعد انتهاء صلاحية فتاوى القرضاوي والصلابي والغرياني إلى “بيت مال المسلمين” الذي ينفق بسخاء على المرتزقة من سوريين وتونسيين وتركمانيين وغيرهم. وليتحول الليبيون إلى متسوّلين لأموالهم الخاصة في المصارف الفاقدة للسيولة تماما مثل اللبنانيين، وليجدوا أنفسهم أنهم في بلادهم أقل من رعايا في بلاط رئيس تركيا وأردوغان الإخوان.
بعد عام 2011 افتقد الليبيون الأمن والأمان والكرامة، ووجدت شرائح واسعة منهم نفسها على قارعة الطريق، تمد يدها عوزا وجوعا وذلا وانكسارا. فقبل عام 2011 كان الليبيون يرفلون بالستر الجميل الذي كان يخيم على ليبيا، وبعد عام 2011 اكتشف الليبيون أنه تم هتك ستر ليبيا التي أصبحت بلدا مشاعا بدون ساتر أو سواتر.
طفح كيل الليبيين، فقرروا كسر حاجز الصمت والخوف، كما قرّروا التمرد على الانكسار والخروج على حالة الإنكار والمقارنة غير الظالمة بين ما قبل 2011 وما بعده. وخرجوا إلى الشوارع والساحات بهدف وضع حد للمهانة التي تلفهم ووجدوا أنفسهم فيها. فهي المهانة التي جعلت الحياة والموت يتساويان لديهم.
الليبيون شعب طيب متسامح ومتدين بفطرته، حباهم الله ثروات نفطية وغازية ومنجمية معلومة وغير معلومة. هي الثروات التي لأجل السطو عليها استصدر القرار الدولي رقم 1973 تحت شعار حماية المدنيين. وهي الثروات التي لأجل السطو عليها أيضا شحن الأردوغان عشرات الآلاف من مرتزقته من السوريين والتونسيين والصوماليين وغيرهم على متن بوارجه وأساطيله المختلفة واحتل غربي ليبيا ويطمح باحتلال مدن الهلال النفطي انطلاقا من مدينة سرت، ليصطدم بالخط الأحمر المصري، وأيضا برفض شركائه الأوروبيين في العدوان الناتوي عام 2011.
أدرك الليبيون عمق المقلب وحجم الخازوق الذي أكلوه جيدا. ولهذا قرروا الخروج في طرابلس، فضاقت بهم شوارع بن عاشور، فشلوم، الدريبي، غوط الشعال، قرقارش، حي الأندلس، حي دمشق، الجمهورية، النصر، زاوية الدهماني، الضهرة، الترسانة، الحي الإسلامي، ميدان القادسية، طريق السكة، اول سبتمبر، محمد المقريف، ميزران، البلدية، سوق الثلاثاء، وعمر المختار، وقد يمموا صرخاتهم وقبضاتهم وأقدامهم وقلوبهم قبل وجوههم شطر “ميدان الشهداء” أو “الساحة الخضراء” المنبسطة والمتكئة على جدار “السرايا الحمراء” التي يكتظ متحفها بمآثرهم التاريخية في قلب المدينة القديمة.
وعلى مدى أربعة أيام مضت أطلق الليبيون والليبيات العنان لأوجاعهم وآلامهم وأحلامهم، وأعلنوا بوضوح عار من كل إنكار مطالبهم في المياه والكهرباء والغذاء والرواتب والسيولة. ثم تجحظت المطالب القائلة برحيل فايز السراج وحكومة الوفاق المعين من الأمم المتحدة منذ خمس سنوات، وهو التعيين الذي ترجمته السياسية تقول إنه الحكومة المعترف بها دوليا. لكنها الحكومة التي لم تحظ بثقة البرلمان الليبي، ولا تحظى بقبول الليبيين خصوصا في طرابلس وغربي ليبيا.
استشعر السراج بصفته الأداة المشرّعة للتدخل التركي في ليبيا، الخطر من خروج الليبيين عليه، فسارع بإيعاز من المخابرات التركية لعقد اجتماع لقياداته الأمنية والاستخبارية والعسكرية لتدارس خطر مظاهرات الغضب. فلم يجد سوى جائحة كورونا ليقمع الليبيين بحجة مكافحتها، فقرّر حظر التجول لمدة أربعة أيام قابلة للتمديد بهدف مواجهة كورونا.
فات فايز السراج تعلّم الدرس من نظيره العراقي عادل عبدالمهدي الذي تمترس خلف مواجهة كورونا وقد حوّلت ميليشيات الحشد الشعبي المندمجة في سلطته، ساحة التحرير في بغداد وساحة الحبوبي في الناصرية وغيرهما من الميادين العراقية إلى مقتلة للكثيرين من ثورة تشرين العراقية، الذين وللمفارقة لديهم ذات المطالب الحياتية لأقرانهم الليبيين مضافا إليها التخلص من هيمنة إيران ونفوذها.
كما فات السراج التعلم من درس نظيره اللبناني حسّان دياب الذي أراد إقناع ثوار 17 تشرين الذين وللمفارقة لديهم ذات المطالب الليبية والعراقية في مكافحة الفساد والإصلاح والتحرر من ميليشيا المال والسلطة والسلاح وناظمها حزب الله بوصفه ذراع إيران في لبنان.
ما تقدم يشي بتماثل الأوضاع في ليبيا والعراق ولبنان، وتطابق عناوينها الفرعية والرئيسة: سلطة محاصصة، فساد، فقدان سيولة، مياه، كهرباء، أمن وأمان، جوع ومهانة وذل وفقدان كرامة، ميليشيات حاكمة ومتحكمة في مفاصل الدولة ورديفة لها في آن بعيدا عن أي حساب أو مسائلة.
واذا كانت الأوضاع في العراق ولبنان نتيجة التوغل الإيراني، فالأوضاع في ليبيا نتيجة التغول التركي الإخواني الناتوي، وفي هذا السياق يتماثل التغول التركي مع التوغل الإيراني إلى درجة تنتفي فيها إمكانية التمايز والمفاضلة بين نموذجين رديئين للإسلام السياسي السني والشيعي.
قرأ الليبيون جيدا أنهم هم الجائحة الكورونية التي يقصدها السراج، وليس فايروس كورونا الأصلي، الذي شحنه الأردوغان مع مرتزقته السوريين إلى مطارات وموانئ مصراتة وطرابلس. فاستشاطوا غضبا وغيظا مضاعفا ضد الأرزقيين السوريين الذين ليسوا إلا مجرد بندقية للإيجار. وأعلن المتظاهرون الليبيون، كما قبلهم أشقاؤهم العراقيون واللبنانيون، أنهم “يفضلون الموت بكورونا على الموت جوعا”.
تحدّى أبناء طرابلس وجوارها قرار حكومة السراج في حظر التجول الكوروني، ونزلوا إلى الساحة الخضراء. فصعّدوا مطالبهم من مكافحة الفساد وتأمين خدمات المياه والكهرباء والسيولة، إلى المطالبة برحيل السراج وحكومته المستمرة بشرعية الاعتراف الدولي، وليس شرعية الشعب الليبي، فكانت ميليشيات بادي والبقرة وغنيوة والنواصي السرّاجية والمرتزقة الأردوغانية لهم بالمرصاد مطاردة وخطفا وترويعا وإرهابا وقتلا.
تذكر الليبيون الشعار الاستراتيجي الدولي “حماية المدنيين”، فاستنجدوا ببعثة الأمم المتحدة بصفتها الوكيل الحصري والشرعي لحماة المدنيين في ليبيا، وناشدوها التدخل والضغط على من وهبته الأمم المتحدة شرعيتها لإيقاف المقتلة بحقهم، فلم يسمعوا من الأمم المتحدة لصوتهم صدى يعود. لكن رجع الصدى وصل طرابلس على شكل مظاهرات تأييد من شباب مدينة الزاوية، وأيضا من شباب مدينة اوباري جنوبي ليبيا، فضلا عن دعم وإسناد حقوقي لافت قدمته نقابة المحامين في طرابلس.
وتشير المعطيات والبرقيات التواصلية المتطايرة، بأن يتحول حراك شباب طرابلس الذي بات بمثابة شمعة في ليل ليبيا البهيم، إلى كرة ثلج تنمو وتكبر على امتداد ليبيا، رغم محاولات حكومة السراج والمخابرات التركية بما اكتسبته من خبرات واسعة في سوريا والعراق، العمل على تفخيخ الحراك وتجويفه (كما حصل في لبنان) وحرفه عن أهدافه في كنس كل الطبقة السياسية والعسكرية الرسمية والميليشياوية المتنفذة شرقي ليبيا وغربها، كما دلّت بعض شعارات مندسي الميليشيات من جهة، والصراع الذي خرج إلى السطح بين السراج ووزير الداخلية فتحي باش آغا الذي هدّد باستخدام قوة “بركان الغضب” ضد الميليشيات السراجية التي أطلقت النار على المتظاهرين في شوارع طرابلس والذين تعهد باش آغا بحمايتهم من جهة أخرى.
ما تقدم يشي بتصدع عميق في بنيان حكومة الوفاق غير المرصوص، فهل الأمر مجرد توزيع أدوار بين باش آغا الإخواني المصراتي، والسراج الطرابلسي من أصل تركي، أم أن الصدام سيندلع حقا بين قطبي حكومة الوفاق بهدف إقصاء السراج وسيطرة مصراتة غير المقنّعة على مفاصل السلطة في طرابلس، وتنفتح ليبيا على مشهد سياسي جديد، أطلق شرارته انتفاضة شباب طرابلس؟.
لننتظر عزيمة شباب ليبيا الرافضين لكل هذه التخندقات والمحاور والمصممين على إسقاط منظومة ميليشيا المال والسلطة والسلاح، وما ستلده الأيام المقبلة والحبلى بالتطورات المفاجئة.
نقلا” عن العربية نت