كتب : فيوليت غزال البلعة
بعد أسبوع من المناورات العسكرية وعمليات التنقيب عن الهيدروكربون المكتنز في أعماق المياه الإقليمية المتداخلة، تحوّلت منطقة الشرق الأوسط الى “بؤرة توتر” جديدة استحوذت على اهتمام مراكز القرار في العالم، بعدما باتت أمام خيارين لا ثالث لهما: فإما تنجح الديبلوماسية الدولية، وتحديدا الأوروبية، في تغليب منطق التفاوض من أجل “تسوية عادلة” تحفظ حقوق الدول المتنازعة على الثروات الغازية والنفطية، وإما تنزلق المنطقة إلى صدام عسكري ينذر بتداعيات لن تكون قصيرة الاجل.
فلأي خيار ستكون الغلبة؟ وما سيكون عليه مصير إقتصادات منطقة الشرق الأوسط التي تعاني في الأساس من أزمات عميقة ناجمة عن خيارات سياسية للأنظمة الحاكمة؟ والأهم، هل ستنجح الدول في استخراج ثرواتها الطبيعية بما يتيح لها حفظ مستقبل آمن للأجيال المقبلة؟
من المعلوم ان النزاعات السياسية في الشرق الأوسط، وخصوصا بين اليونان وتركيا، ليست طارئة، إذ تعود الى اكثر من قرن، وتوالت التراكمات لترفع من منسوب حدتها أخيرا، في ظل استفزاز تركي واضح عبّر عنه مسؤولو أنقرة أخيرا، وعكس رغبة تحقيق حلم “الوطن الأزرق” الباحث عن حقوقه في بحور تركيا الثلاثة (الأسود والمتوسط وبحر إيجه) بما دفع الرئيس رجب طيب اردوغان الى دفع المنطقة نحو مغامرة محفوفة بالمخاطر، من خلال تعديات طالت سيادة اليونان وقبرص على مياههما الإقليمية، في استعادة لأمجاد عثمانية باتت في هذا العصر، خارج إطارها التاريخي والجغرافي.
بقلق كبير، يترقب العالم الوجهة التي ستسلكها منطقة الشرق الأوسط في المستقبل القريب. ولكل من الخيارين، أي التسوية والحرب، حسابات خاصة لها انعكاسات مباشرة وغير مباشرة، سواء على الـ122 تريليون قدم مكعب من الهيدروكربون القابع في بحر المتوسط، او سواء على إقتصادات تئن من جراء حال “عدم اليقين” التي نجمت عن اهتزاز استقرار معظم دول المنطقة، سواء نتيجة حروب عسكرية دامية أم لتراكم أزمات اقتصادية متشابكة المفاصل.
لا شك في ان الاندفاعة التوسعية لتركيا لن تنفعها في ظل العزلة التي فرضتها على نفسها، وذلك بعد دخولها في مواجهات من جبهة ليبيا ضدّ مصر والإمارات والسعودية وروسيا، وتموضعها عبر جبهة سوريا في المعسكر المعارض لموسكو وطهران، وإزعاجها لحلفائها الأميركيين والأوروبيين بما ينذر برفع العقوبات الاقتصادية عليها، وتذمّر الإسرائيليين من محاولات تعطيل مشروع أنبوب مشروع “إيست ميد” بين قبرص واليونان وإسرائيل لمدّ أوروبا بالغاز، فضلا عن مواجهات “غير قانونية” واستفزازية مع جيرانها القبارصة واليونانيين الذين يستظلون حماية الإتحاد الأوروبي وسوق الـ500 مليون مستهلك.
في السيناريو الأول، ستقود التسوية السلمية “العادلة” حول مخزون الغاز، دول المنطقة الى فترة من الازدهار والنشاط الاقتصادي غير المسبوق، على ان تستند المفاوضات بين الأطراف المتنازعة الى قانون البحار (1982) والقانون الدولي، لترسيم واضح ودقيق في مسار طويل زمنيا ومضمون النتائج لإعتماده التكنولوجيا الحديثة في تحديد المناطق الاقتصادية الخالصة، بما يزيل التداخل الحاصل حاليا ويكفل حقوق كل دولة في اكتشاف ثرواتها النفطية، فضلا عن تخفيضه لمنسوب المخاطر والكلفة، وذلك على خطى تسويات آخر 20 نزاعا بحريا خلال العام الماضي.
وفق التسوية السلمية، ستتمكن الإقتصادات من تلقي جرعات أوكسيجين، وخصوصا بعدما فقد بعضها “بطاقته الاقتصادية”، مثل سوريا ولبنان، فيما تعاني تركيا من أزمات إقتصادية عميقة أطاحت بالليرة وبالاستثمارات، في وقت لا تزال مصر على طريق التعافي الذي يقودها اليه برنامج صندوق النقد الدولي، بينما تعاني إسرائيل من أسوأ إنكماش منذ عام 1961، مع توقع بنك إسرائيل المركزي بلوغه نسبة 6% هذا العام بسبب جائحة “كورونا” والإنفاق الحكومي وتضرر التجارة وتوقف جزء كبير من النشاط الاقتصادي.
في معظم تلك الإقتصادات، انهارت العملات الوطنية، (الليرة التركية تراجعت بنحو 20% مقابل الدولار منذ بداية العام، والليرة السورية خسرت 70 ضعفاً عن قيمتها عام 2011، والليرة اللبنانية فقدت 70% من قيمتها، والجنيه المصري فقد تحسّن الـ2% هذا العام بعد ضعف مناعته جراء “كورونا”)، وارتفعت مستويات التضخم لتوّسع دائرة “خط الفقر” وتدخل اليها اكثر من 40% من الأتراك، و90% من السوريين، و55% من اللبنانيين، فضلا عن إنحلال شبكات الأمان الاجتماعي والصحي والتعليمي.
ومن المؤكد أن مفاعيل السِلم سترخي مناخات استقرار تشكل بطاقة مرور للإستثمار المحلي والأجنبي، حيث تشتاق إقتصادات المنطقة الى دفق مالي مباشر ينعش قطاعات نالت منها جائحة “كورونا”، وفي مقدمها السياحة التي ستقع حتما تحت تداعيات الجائحة رغم تفاؤل أنقرة وإطلاق “سياحة محكومة صحيا مع 31 دولة”، بعد موسم 2019 الناجح نسبيا مع 52 مليون سائح و34 مليار دولار عائدات سنوية. أما السياحة في سوريا كما في لبنان، فتحوّلت بفعل حال عدم الاستقرار الأمني والإقتصادي الى سياحة داخلية لا تغني جوع الناتج القومي لكلا البلدين الى “دولارات طازجة”. أما في إسرائيل، فتراجعت السياحة بنسبة 71% في الأشهر السبعة الأولى من العام، فيما يتوقع انخفاض السياحة المصرية بنسبة 60% هذا العام، لتحقق إيرادات بنحو 10.6 مليار دولار مقابل 12.6 مليارا عام 2019.
ويبقى سيناريو الحرب غامضا لجهة الفوضى التي سيحدثها في منطقة هشة ومفتوحة على كل أنواع الصدمات، فيما ستكثر المخاوف من احتمال فقدان فرص الإكتشافات النفطية والغازية التي بدأت إقتصادات دول المنطقة تعد نفسها بثروات قادرة على إنهاضها من أزماتها. ومعلوم ان كل أشكال الصدام العسكري من شأنها ان تطيح بالاستقرار وتهدّد الأمان والسلم الذي يعتبر ضمانة أولى لجذب المستثمرين ورجال الأعمال، فضلا عن التكاليف التي ستترتب على دول المعسكرين المتقاتلين، سواء المادية او البشرية. وهذا يعني أنه سيكون على إقتصادات المنطقة مواجهة سيناريو قاتم يقوم على: خسارة النشاط الاقتصادي وإن كان على مسار التباطؤ او الركود، دفع تكاليف إضافية لتمويل المواجهة العسكرية بالدم وبالمال، وفقدان فرصة إستغلال الموارد الهيدروكاربونية وتاليا تأخير مشاريع تطوير حقول الطاقة وقنوات تصريف الغاز الى أسواق أوروبا.
“الوطن الأزرق” ببحوره الثلاثة هو حلم تركيا. والغاز الأزرق بإيراداته المستقبلية هو حلم دول شرق المتوسط. تسابق بين أحلام العسكرة والتوسع والدمار وبين أحلام النشاط والازدهار والبحبوحة. أيهما يصل أولا؟ سؤال لا ينفيه واقع يؤكد أن إبقاء المنطقة في “ستاتيكو” التوتر الواقف عند الحد الفاصل ما بين الحرب والسلم، من شأنه ان يخلّف تداعيات سلبية وإن كانت بأضرار جانبية أقل، كونها تشيّع مناخات طاردة للإستثمارات الباحثة عن ملاذات آمنة، وتشكل ضربة لماكينة الإقتصادات الباحثة عن أوقات مستقطعة قبل أن تعود الى الخريطة العالمية.
نقلا” عن العربية نت