كتب : مصطفى عبيد
يعد سيد قطب من أوائل منظري فكر السلفية الجهادية منذ ستينات القرن الماضي، حيث قاد العمل الدعوي والتنظيمي من داخل مكتب الإرشاد في جماعة الإخوان المسلمين. ظل إلى يومنا هذا سندا أساسيا للتكفيريين ودعاة الخروج على الحاكم، من خلال أفكاره ورؤاه وقراءاته التي اعتبرت متزمتة للشريعة والحياة والنظام، بل إنه لم يتوان عن تكفير الجميع بسبب نزعته التخريبية. لكن ما سر المرأة في حياة قطب، خاصة تلك التي دفعته إلى التحول من كاتب وروائي إلى زعيم تكفيري.
قبل 54 عاما نفذ حكم الإعدام بمنظر جماعة الإخوان المسلمين، سيد قطب، الأب الروحي للتنظيمات الجهادية، فلا يذكر اسمه بمعزل عن الدم، ولا تطرح أفكاره وعباراته إلا في سياق حثّ الشباب الباحث عن هوية على القتل باسم الدين، ولا يولد تنظيم راديكالي إسلامي في العالم العربي من المحيط إلى الخليج دون توصية الأعضاء بقراءة كتبه المنتشرة كالجراد.
لكن هذا الرجل المتشدد كان كاتبا متعدد الإسهامات وشاعرا وروائيا وناقدا ومحللا قبل أن يكون كاتب تكفير من الطراز الأول ما جعل نهايته درامية بشكل مستغرب.
في التاسع والعشرين من أغسطس سنة 1966 نفذ حكم الإعدام شنقا بحق قطب بتهمة قيادة تنظيم انقلابي إسلامي يتبنى العنف منهجا للتغيير ويجلب السلاح ويخطط للقتل والخراب. من يومها اكتسب قطب أهمية لدى الجماعات الراديكالية، فهو المُنظّر الأول للتكفير والمحرض على الآخر والرافض للحضارة والتمدن. كان شديد العداء لأصحاب الأديان الأخرى وغير مكترث بالمرأة ويعيش في وهم المؤامرة الكونية الدائمة ضد الإسلام.
لم تكن بدايات سيد قطب توحي بالنهايات، حيث انقلب من شاعر إلى “ثائر”، ومن كاتب إلى محرض، ومن رومانسي إلى دموي، وتحولت السنبلة في مخيلته إلى قنبلة وتغيرت دواة الحبر إلى خطة حرب وتبدلت قيم الرحمة والمودة والتسامح في نفسه إلى كراهية واستعلاء وغطرسة.
وتنوعت تفسيرات الانقلاب العجيب في حياة سيد قطب حيث ربط البعض بينه وبين رحلته إلى الولايات المتحدة سنة 1949 وأرجع هؤلاء التغير المفاجئ في شخصيته إلى ما شهده من صدمة حضارية حادة، لكنّ آخرين رأوا أن التحول سببه تجاهل استوزاره أو تكريمه من قبل الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر ورفاقه عقب ثورة يوليو 1952، بعد أن ساندهم ووقف إلى جوارهم في مواجهة الأحزاب السياسية القائمة في ذلك الوقت.
وتحدث آخرون على أن التحول كان نتيجة تورطه غير المحسوب في العمل التنظيمي داخل جماعة الإخوان المسلمين وما استتبعه من نصرة التنظيم بأي طريقة وفكر. لكن لم يُشر إلى المرأة، فرغم مقولة نابليون بونابرت الشهيرة “فتش عن المرأة”، إلا أنّ أحدا من الباحثين الذين تناولوا سيرة سيد قطب بالبحث والدراسة والتحليل لم يشك لحظة أن امرأة مجهولة فاتنة لعبت دورا مؤثرا في تبدل شخصية قطب، وهذه المرأة التي أحبها الرجل بجنون تركت جُرحا غائرا في ذاته عانى منه أشد المعاناة، كان كفيلا بإبحاره ناحية التطرف وكراهية الحياة.
أشواك قطب
شخصية البطل في رواية “أشواك” الصادرة في طبعتها الأولى في العام 1947 تنبئ ببعض صفات سيد قطب التي تطورت وصارت أكثر حدة في ما بعد
وردت بعض تفاصيل حكاية سيد قطب وأسرارها مع المرأة في ثنايا رواية قصيرة له بعنوان “أشواك”، والتي صدرت طبعتها الأولى في العام 1947 عن دار سعد بالفجالة في وسط القاهرة، وهي رواية أعيدت طباعتها في مصر سنة 2011 بعد صعود نجم الإخوان عقب انتفاضة يناير من العام نفسه، ونشرتها حينها هيئة الكتاب المصرية بمقدمة للناقد والشاعر شعبان يوسف.
وترسم الرواية قصة حب محموم بين رجل يدعى “سامي” وفتاة تدعى “سميرة” انتهت بالفراق والألم والوجيعة، ففي حقيقة الأمر لم يكن “سامي” بطل الرواية سوى سيد قطب نفسه، خاصة أن الأدباء في ذلك الوقت اعتادوا سرد أجزاء من حياتهم في قصص أو روايات كنوع من الواقعية، مثلما فعل الكاتب توفيق الحكيم في روايته “يوميات نائب في الأرياف” الصادرة سنة 1937.
وما يؤكد صحة هذا التصور أن رواية “أشواك” تصدّرها إهداء من المؤلف إلى البطلة الحقيقية للقصة، إذ يقول “إلى التي سـارت معي في الأشواك ، فدميتُ ودميَتْ، وشقيتُ وشقيَتْ. ثمّ سـارت في طريق وسرتُ في طريق كجريحين بعد المعركة. لا نفسها إلى قرار. ولا نفسي إلى استقرار».
تشير علامات عديدة في الرواية إلى وجود تشابه كبير بين شخصية البطل سامي وبين سيد قطب نفسه، فمثلا نجد البطل شخصا معروفا لدى الناس بسبب كتابته للمقالات في الصحف، حتى أن ضابط شرطة يلتقي به مصادفة فيسأله بعد أن يطلع على هويته، إن كان هو الكاتب المعروف الذي يكتب في الصحف، فيجيب بالإيجاب.
والبطل في الرواية هو مؤلف لكتب عديدة في النقد والأدب، وتطلب منه حبيبته أن يختار لها كتابا من مؤلفاته لتقرأه، وهو أيضا قادم مثل سيد قطب من مجتمع ريفي شبه بدائي إلى القاهرة بصخبها وزحامها وقسوتها، وهو شخص مسكون بالبراءة والخجل ويحب الشعر ويكتبه.
والملاحظ في الرواية في حديث لأم سميرة وهي تتحدث عن سامي، ما يشبه شخصية سيد قطب، حيث تقول الرواية إنها تنظر له باعتباره شابا تثق في أخلاقه ومستقبله، وهو ملحوظ المكانة في الأوساط الأدبية والسياسية، كأن قطب يتحدث هنا عن نفسه.
وتنبئ شخصية البطل ببعض صفات قطب نفسه، التي ربما تطورت وصارت أكثر حدة في ما بعد، فهو شخص كثير الشك والغيرة. يرى المرأة دوما مثيرة للفتنة، ويسيء الظن بها إلى درجة تدفعه في ما بعد إلى الندم على ما يبدر منه من تعبيرات تجاه إنسانة يحبها.
وتحكي الرواية عن شاب في العقد الرابع من عمره، يخطب فتاة مرحة لطيفة ابنة أسرة متوسطة، وتصغره بنحو عشر سنوات هي سميرة، التي تختار أن تصارحه من البداية فتقول له عن خطبتها السابقة بضابط الشرطة “ضياء” وتعلقها به لفترة قبل أن ينفصلا، ما يدفعه إلى الظن أنها ما تزال تحبه، فيذهب إليه ويعرض المساعدة للعودة إلى فتاته إن كان مازال يحبها، غير أن الخطيب السابق يرفض.
وتتسع المشاحنات بينه وبين خطيبته نتيجة الشك الدائم من جانبه وسوء تفسيره لتصرفاتها، ما يجعله يقرر فسخ الخطوبة قبل أن يقرر العودة مرة أخرى بعد شعوره بالندم، ليعيش شهورا من الحب والهيام والأشواق الملتهبة، لكنه ما يلبث أن يتشاحن مع الخطيبة ويحتد عليها فتفسخ الخطبة وتعيد له هداياه.
ويمر العاشق في رواية “أشواك” بفترة تخبط وتعاوده الذكريات فيحاول الرجوع مرة أخرى إلى خطيبته، لكنها تعتذر له لأنه يخلط بين خيالاته والحقيقة وتقول له “أنت لا تهرب من الخيالات، فعش في رواياتك وقصصك واترك لي الحقيقة”.
تتكرر محاولات “سامي” في الرواية للعودة إلى خطيبته فيقول لها بكبرياء لا يتخلى عنه “اسمعي يا سميرة. إنني على استعداد أن أغفر لك كل شيء. كل شيء”، حيث تجيبه بأن الحياة لن تصلح، ويسأل عن السبب فتجيبه بصراحة قائلة “لأنك لن تثق بي أبدا. لا يخدعنك أنك تشعر بالتسامح الكبير، إن هذه اللحظة ستزول. ستزول عندما يضمنا بيت واحد. وعندما يطلب كل واحد منا من صاحبه تبعات الحياة المشتركة فلن يجدها”.
وتشرح له تصورها، “بربك تصور أننا كنا معا في الطريق، فلقينا ضياء. ألا تثور في نفسك المعركة من جديد؟ ألا تجثم عليك هواجسك؟”. وينتهي الأمر بأن تطلب منه أن يبقيا أصدقاء، فينصاع للأمر. وبعد سنوات قليلة يبصرها وهو سائر في أحد الأماكن العامة، فتسأله “أما زلت وحيدا يا سامي؟”، فيقول لها بكبريائه المعتاد “لا يهم”، ثُم يجد طفلا متعلقا بثوبها فتخبره أنه ابنها.
ولادة التطرف
سيد قطب.. الرومانسي والإرهابي
يبدو سيد قطب الإسلامي المتطرف مختلفا عن سيد قطب الأديب، إذ نجده في القصة يصف لحظة تقبيله لمحبوبته بعفوية غريبة إذ يقول “أخذ جسدها يرتجف، وعيناها مغرورقتان بالدموع، وفي وجهها براءة عذبة، ثم لا يدري كيف نسي كل شيء، فإذا شفتاه تهويان على شفتيها، فتستجيب له بكل ما فيها من نهم، ثم يستمعان إلى وقع أقدام فينتبهان..”.
ولا نتوقع للحظة أن يصطحب مُنظر الإرهاب الديني فتاته إلى السينما لمشاهدة فيلم ما، إذ يصف ذلك بكلمات صريحة، “ثم أطفئت الأنوار، وتحركت ذراعه قليلا، فسرت في جسده هزة، ومالت إليه قليلا، فصافح شعرها خده، وأحس بالنشوة فثمل، وطافت برأسه، الرؤى الغامضة في الفردوس النعسان”.
ويكتب أيضا في حكايته عن احتضانه لخطيبته خلال زيارته لها، فيقول “ولم يكن يملك إلا أن يضمها بعنف، وهي تسكب في نفسه أحلى رحيقها المذخور بهذه النظرة وتلك الفتنة، ثُم تملصت منه وانفلتت تجري، وعاد هو إلى الحجرة في حالة نشوة لكنه تعبان.عاد فجلس ولم يلحظ أحد منهم عليه شيئا”.
ورغم ركاكة الوصف، رسم صورة جذابة لمحبوبته عندما يكتب “لم تكن ممن يحسبهن العرف جميلات. كان تكوينها الجسدي، إذا استثنينا صدرها الفاتن، ليس ممتازا، ولكن كان في وجهها جاذبية ساحرة. كانت خمرية اللون، واضحة الجبين، وفي عينيها وهج غريب تطل منه إشراقة مسحورة، وكان هذا الوهج أشبه بالإشعاع الكهربائي المغناطيسي”.
وإذا كان المفكر الراحل محمد حافظ دياب، يرى أن قصص سيد قطب مليئة بالحشو والاستطراد والتدخل في الأحداث وصياغة العناوين المباشرة، فإن ذلك لا يمنع أن تكون القصة واقعية، لأنها تمثل محطة تحول واضحة في مؤلفاته التي تبلغ 24 كتابا.
فرواية “أشواك” هي الكتاب السابع في مؤلفات قطب، من حيث الترتيب الزمني بعد كُتب اتسمت جميعا بالإبداع الأدبي، بدءا من ديوان شعر “الشاطئ المجهول” الذي أصدره سنة 1935، مرورا بكتاب سيرته “طفل من القرية”، ثم قصة “المدينة المسحورة”، وحتى كتابه النقدي “كتب وشخصيات” الصادر سنة 1946.
وتجنبت كتب قطب التالية لـ”أشواك” الإبداع الأدبي، سواء السردي أو الشعري، وانخرطت في الشأن الديني لتنزع نحو التعصب والتطرف تدريجيا، فنجده يُصدر كتابه “العدالة الاجتماعية في الإسلام” سنة 1949، ثم كتاب “معركة الإسلام والرأسمالية” سنة 1951، حتى يمتد به الأمر إلى إصدار “في ظلال القرآن” نهاية الخمسينات، ثم يأتي كتاباه “هذا الدين” و”المستقبل لهذا الدين” قبل أن يصدر كتاب “معالم في الطريق” عام 1964 والذي يطرح فيه فكره التكفيري بصراحة وعمق وتفصيل.
فالشاعر الرومانسي الخجول المنتشي بالقبلة، والملتاع بالحب والمحترق بالأشواق انقلب إلى حامل راية إرهاب وتحريض، بعد أن غادرته المرأة التي عشقها. ومن تطرف إلى تطرف وصل بسيد قطب الحال أن كتب “إن الناس ليسوا مسلمين كما يدّعون. إنهم يحيون حياة الجاهلية. ليس هذا إسلاما وليس هؤلاء مسلمين، والدعوة اليوم إنما تقوم لرد هؤلاء الجاهليين إلى الإسلام، ولتجعل منهم مسلمين من جديد”.
وكتب أيضا “إن القوى الإنسانية نوعان، قوة مهتدية، تؤمن بالله وتتبع منهجه وهذه يجب أن نؤازرها ونتعاون معها على الخير والحق والصلاح .. وقوة ضالة لا تتصل بالله ولا تتبع منهجه. وهذه يجب أن نحاربها ونكافحها ونغير عليها”. فمات قطب وبقيت أشواكه.
سيد قطب في سطور
مفكر رومانسي ومنظر للإرهاب
ولد سيد قطب في قرية موشا بمحافظة أسيوط، في جنوب القاهرة عام 1906، وتخرج في كلية دار العلوم سنة 1933 وعمل ناقدا أدبيا ومدرسا. بدأ حياته السياسية عضوا في حزب الوفد الليبرالي قبل أن يتركه لينضم إلى حزب السعديين. كان تلميذا نجيبا للأديب المصري الكبير عباس محمود العقاد وأحد كوادر مدرسته الأدبية المعروفة بـ”الديوان”.
سافر إلى الولايات المتحدة في بعثة تعليمية ثم انضم إلى جماعة الإخوان سنة 1953، ودخل السجن بتهمة كتابة منشورات تحريضية للجماعة في العام التالي، ثم أفرج عنه سنة 1964 قبل أن يشكل تنظيميا جديدا لقلب نظام الحكم. صدر ضده حكم بالإعدام سنة 1965 ونفذ في 29 أغسطس 1966 ليتحول بعدها إلى “شهيد” الحركة الإسلامية الحديثة ومفكرها.
نقلا” عن العرب اللندنية