العقل بمقدوره أن يجد نفسه في الطبيعة كما يجدها في الذات تماماً
كتب : عماد الدين الجبوري
في الفلسفة المثالية الألمانية الحديثة، دار سجال حول مفهوم “الذات” عند بعض كبار فلاسفتها، إذ رأى كانط أن “الشيء في ذاته” ولا يمكن للعقل أن يسبر غوره. أما فختة فقد جعل المعرفة “ذاتية” خالصة، فكل ما موجود هو ذواتنا لا غير. بينما شلنج اتجه إلى جانب “الموضوعية”، فالعقل بمقدوره أن يجد نفسه في الطبيعة كما يجدها في الذات تماماً. وجاء هيغل جامعاً الذات والشيء في “وحدة” متماسكة، عمد فيها إلى التوفيق بين الأضداد. ولقد استمر تأثيرهم على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين، لا سيما في الكانطية المحدثة والهيغلية المحدثة.
كانط (1724-1804)
يُعدّ عمانوئيل كانط أحد أهم عمالقة الفكر الحديث ليس في ألمانيا فقط، بل في عموم العالم الغربي أيضاً، لا سيما أن فلسفته نقدية علمية تحافظ على الصورة والمادة أو الذات والموضوع في آن، فهو يؤمن بالعلم والواقع التجريبي وما يترتب على ذلك من حقائق عيانية، لكنه يُبدي كذلك اهتماماً وحرصاً على أهمية الأخلاق في ذوات نفوسنا. وفي هذا الصدد يقول:
إن “الأخلاق هي فلسفة التصرف، وبما أن التصرفات هي المبادئ الأساسية للفعل والأفعال المترابطة وأُسس الاندفاع، فإن الأخلاق هي فلسفة عملية”. (علم الأخلاق، طبعة إنجليزية، 1979).
إلا أن كانط لا يرى هناك تطابقاً أو توافقاً بين الفكر والواقع، والسبب بحسب تصوّره، أننا لا ندرك الأشياء في ذواتها قط، وبذلك فإن الحقيقة في إمكانية المعرفة ليست أكثر من صورة توافقية مع قوانين الفكر ذاته، لا وفق وجودها في الواقع الخارجي، إذ ليس هناك حيّز مستقل من الحقائق الموضوعية يتوجب على المعرفة البشرية إدراكها، وإنما تكون المعرفة وفق عملية تأليفية يؤديها العقل، سواء كانت صوراً أو مقولات، من خلالها وضع الأشياء في قوالبنا الذهنية الخاصة، أي أن الواقع هو من صور أو تأليف الذات ومقولاتها ليس إلا.
ويشير كانط إلى أن “تطابق المفاهيم المجرّدة للفهم على الحدس الموضوعي عامة، يكون من خلال الفهم وحده، سواء كان الحدس خاصاً بنا أو بغيرنا، شرط أن يكون حسياً فقط. إلا أنه، لهذا السبب بالذات، مجرد صور الفكر من خلالها وحده لا يمكن التعرف إلى أي شيء محدد”. (نقد العقل المجرد، طبعة إنجليزية، 1979).
وهذا يعني، إن مثالية كانط هي صورية تكون فيها المعرفة محصورة ضمن نطاق الحدس الحسي فقط. فالمقولات: الجوهر، الكم، الكيف، المكان، الزمان … إلخ، تكون فارغة من غير الإحساس فيها. إن سبب تركيز كانط على الحدس الحسي، لأنه ينكر الحدس العقلي، فالعقل لا يملك حدساً طبيعياً في معرفة الواقع، إلا من خلال تقسيمات وجودية، مثل الأشياء والظواهر، المحسوس والمعقول، الجسد والروح وغيرها.
وبحسب تصوّره، ليس بمقدورنا أن ندرك إلا المحسوسات، وذلك حين نُطبّق عليها قوالب فكرنا أو مقولاتنا الذهنية لنتمكن من الوصول إلى تعقل واضح أو فهم صحيح إلى العالم المحسوس.
من دون ريب، إن إنكار كانط إلى الحدس العقلي في المعرفة البشرية، مُفترضاً بوجود أحكام أولية تأليفية أو مسلمات طبيعية أولية، أدى به إلى إرباك وغموض جعله ينصّ إلى حلول حقيقية للمشكلات العقلية الرئيسة المتعلقة بالوجود والحياة والإنسان والماورائيات.
والموقف الكانطي ليس عويصاً أو يدفع نحو التعقيد، بل بكل بساطة يرى أنه إذا تفحصنا بشكل دقيق ما لدينا من تجربة حسية، فسيتضح لنا كيف أن هذه التجربة تكون محصورة في مجال الظواهر فقط، كما يتبيَّن أنه يستحيل علينا أن نمنحها طابعاً وجودياً، إذ ليس ما يبرّر الاعتقاد بأن الأشياء التي ندركها هي ذاتها على نحو ما ندركها.
بمعنى آخر، أن العلاقات القائمة في عملية التجربة الحسية هي في الواقع وفق ما تبدو لنا لا أكثر ولا أقل. وهكذا وصل كانط إلى القول إن “الأشياء في ذواتها”، ولا سبيل لنا في معرفة جوهر الشيء. وبما أن عالم الفكر واقعي، في حين عالم الحس ظاهري، لذلك في وسعنا أن نتسامى فوق العالم المحسوس لنعرف أن الأشياء في ذواتها.
وعلى الرغم من ذلك، فقد أكد المفكر الألماني، أن المعرفة هي وليدة فعل العقل في الأشياء وليس العكس. فالعقل هو الذي يؤلف أو يُركّب التجربة، وليست التجربة هي التي تُركّب العقل. فعند كانط، الطبيعة ليست هي سيدة على العقل بل العكس صحيح. وعليه، فالطبيعة ملزمة بالإجابة على أسئلة العقل الذي يحقق ويبحث فيها.
في نظرية المعرفة، كان كانط مؤمناً بأن المعرفة العلمية الصحيحة تكون من خلال العقل وحده، وهي كفيلة بإظهارنا على حقيقة الأشياء. وتجاه الإشكال الذي أثارته هذه النظرية، طرح كانط هذه التساؤلات: كيف تكون مفاهيم العقل التي نكوّنها نحن عن طريق نشاط فكرنا ذاته، صالحة للتطبيق على أشياء مستقلة عنا تماماً؟
أليست هذه المفاهيم مثل: العلّة والجوهر والإمكان والواقعية والضرورة، هي من تكويننا نحن، فكيف نعدّها نتاجاً لتأثير الأشياء فينا؟ وكيف نعتبرها مجرد ثمرة من ثمرات التجربة؟ إذاً لا بدّ لنا أن نفحص تلك المفاهيم الأساسية، حتى نقف على طبيعة تلك المقولات التي نستعين بها في معرفتنا للعالم.
حاول كانط أن يبيّن أن حدود عالم الفكر إنما متأتية من طبيعة العقل ذاته، فهي حدود تفرضها عليه قوانين العقل نفسه، فما يحققه العقل من نجاح في جانب، وإخفاق أو عجز في جانب آخر، فتلك هي من صميم طبيعة العقل ليس إلا. فالعقل يحتوي على مبادئ أولية وصور ذاتية تمثل الشروط الضرورية لكل تجربة، ولا يمكن تطبيقها خارج نطاق التجربة البتة.
ومع أن مصدر هذه المعاني الأولية ليس تجريبياً، لكننا لا نستطيع استخدامها إلا استخداماً تجريبياً، وبما أن التجربة الوحيدة التي نمتلكها هي تلك التي نحصل عليها عن طريق تطبيقنا لصور الحساسية ومقولات الذهن، إذاً فإن كل ما نعرفه يكون هو بالضرورة الظاهرة وليس الشيء في ذاته.
إن هذه “الطبيعة في ذاتها”، لذلك فهي موضوع للتفكير، لكننا لا نعرف عنها شيئاً محدداً، لأن الصور والمقولات قد فرضناها نحن على الطبيعة، وبذلك لا يمكن تطبيق المبادئ الأولية بطريقة شرعية على المقولات أو الحقائق أو الأشياء في ذاتها، وربما يوجد عقل آخر غير بشري بمقدوره أن يدركها، لكن من المؤكد نحن البشر ليس لدينا حدس عقلي في هذا المجال من الإدراك.
أما إذا حاولنا تطبيق مقولاتنا العقلية على تلك المقولات، فإننا لن نتوصل إلى أي معرفة عقلية، بل سنكون قد تجاوزنا مجال الحدس الحسي الذي هو النطاق الوحيد المشروع لاستخدام تلك المقولات.
إن النهج النقدي الذي يتبعه كانط كما يلي، إذا كانت الفلسفة النظرية هي التي تحدد “الذات” من حيث تحديد طبيعتها وتبيان قوانينها، فإن الفلسفة العملية هي التي تحقق هذه “الذات”، إذ تنقلها من مجال الفكر إلى مجال الوجود، من القول إلى الفعل.
لذلك، يميّز كانط بين هذين المجالين النظري والعملي، الأول يخص علم الطبيعة وكل ما هو كائن موجود، الثاني يختص بعلم الحرية وكل ما ينبغي أن يكون. من هنا، يفرّق كانط بين ما ورائية الطبيعة وما ورائية الأخلاق، والاستعمالين النظري والعملي للعقل. فالعقل النظري يتضمن جميع المبادئ العقلية الخالصة للمعرفة النظرية، أما العقل العملي فيحتوي على المبادئ التي تحدّد وتلزم كل فعل.
وهكذا يضع كانط كتابَيْه “نقد العقل المجرّد” و”نقد العقل العملي” على حدٍ سواء في بحثه العلمي في الموضوعات والمشكلات. بخاصة أنه يميل إلى الإيمان أكثر من العلم، فقد كان يهدف إلى فصل العلم عن المفاهيم الماورائية، إذ لا خوف على الاعتقاد الماورائي من نتائج العلم، كما لا يخشى العلم من انعدام اليقين التجريبي والحدس العقلي في مجال الماورائيات.
إذ إن “الماورائيات يجب ألا تتعلق بمفاهيم الطبيعة فقط، والتي تجد تطبيقها في التجربة دائماً، بل مع المفاهيم العقلانية المجرّدة أيضاً، والتي يمكن تقديمها في أي تجربة ممكنة على الإطلاق”. (تمهيد في علم الماوراء، طبعة إنجليزية، 1988).
وبحسب رأي كانط، أن عملية الفصل التي نجريها، لنتمكن من الوصول إلى مجال ما وراء المحسوس، طالما يتعذر على العقل تجاوز شروط المعرفة الممكنة في نطاق التجربة. كما أن الفصل يقوم على استعمال العمل الضروري للعقل المجرّد، لأنه يرتبط ببعض المستلزمات الأخلاقية التي لا يمكن البرهنة على صحتها بواسطة العقل النظري.
وبلغة يقترب فيها كانط من فلسفة الغزالي، يرى أن البحث في المسائل الماورائية: الله والملائكة والخلود والروح، فلا بد لنا من أن نعترف بأن العقل النظري عاجز تماماً عن الإثبات في كل هذه القضايا، لأنها تتجاوز جميعاً شروط التجربة الممكنة، كما أنها تمتد إلى ما وراء الدائرة التي نستطيع أن نجد فيها معايير للصدق.
وبذلك، لا سبيل غير الإقرار بأن ليس هناك موضع للإنكار ولا الإثبات بالنسبة إلى تلك المشكلات الماورائية الرئيسة.
في الحقيقة، لا يريد كانط دحض العقل في الماورائيات، وكذلك لا يهدف إلى تهديم الفكر الماورائي، وإنما أراد تمهيداً ضرورياً لتقديم علم ما وراء الطبيعة وفق نهج علمي نقدي، يستند إلى مبادئ يقينية لا خلاف في صحتها، وإلى الاستعانة بمفاهيم محددة بشكل واضح ودقيق.
صفوة القول، إن المعرفة التي نكوّنها تبدأ بالحدس الحسي أولاً، بعدها تنتقل إلى المفاهيم أو التصوّرات الذهنية ثانياً، ومن ثم تصل إلى الأفكار أو المبادئ العقلية ثالثاً. وعن طريق هذه المراحل الثلاث المتمايزة تقابل قوى الروح الإنسانية الثلاث: الحساسية والذهن والعقل، وفق التتابع. غير أن هذه القوى الثلاث لا تزود المعرفة البشرية بأية مادة خارجية، بل هي جميعاً صور تأليفية خالصة، تأتي إلينا بواسطة مادة المعرفة التي هي المعطيات الحسية الخالية من أي ترابط أو تآلف.
ولذلك، فإن قوة الحساسية تفرض على تلك الكثرة الواردة إلينا من الخارج أول صورة من صور الوحدة، إذ تطبعها بطابع الزمان والمكان، فيتحوّل الحدس الحسي أو المُعطى الحسي إلى ظاهرة، التي بدورها تتحول إلى مادة تتمثل تجاه مقولات الذهن، ولا تمكث بل سرعان ما تخضع إلى صورة جديدة أخرى من صور الوحدة، وما تلبث أن تستحيل إلى تجربة، فتتخذ صفتَيْ العمومية والكلية اللازمتين لكل معرفة علمية. وفي النهاية يحاول العقل أن يفرض على التجربة، كونها مادته المجرّدة، صورة عليا من صور الوحدة، بغية تكوين مُركّب اسمي يضم فيه جميع معارفه العقلية.
ومن هنا، يستنتج كانط أن العلوم الرياضية والطبيعية ممكنة، لأن الأحكام الأولية التركيبية ممكنة بالنسبة إليها. فالعلم الموضوعي الذي توصلنا إليه قوانين الذهن إنما هو بالضرورة علم إنساني يمكن التصديق فيه على أساس الظواهر.
كما يُنبّه كانط ألا نجعل تجربتنا هي النموذج الأوحد لكل تجربة، فالتجربة لا تحدّ العقل بالبحث سواء في موضوع “الشيء في ذاته” أو في ما وراء كل معرفة موضوعية.
كانت عقلانية كانط تبني نهجاً مغايراً في المذهب العقلي الغربي، لها رؤيتها النقدية الخاصة والمميزة عن ديكارت وسبينوزا ولايبنتز وغيرهم من الذين يقولون بوجود تطابق بين الفكر والواقع، فقد رفض كانط هذا القول جملةً وتفصيلاً، كما تبين لنا ذلك من خلال موقفه الفكري الآنف الذكر.
نقلا” عن أندبندنت عربية