شيء من التضامن في مواجهة السياسات الإسرائيلية والإيرانية والتركية التوسعية في الأرض العربية
كتب : رفيق خوري
العراق يستعيد دوره العربي، وسط الصراع الجيوسياسي في الشرق الأوسط وعليه. والأساس هو قوة الوطنية العراقية ودور الدولة الوطنية. هذه هي المعركة التي يخوضها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بدعم من جيل عراقي جديد يتمرد على العصبية المذهبية واليد الثقيلة للنفوذ الخارجي، في مواجهة مصاعب قوية. بعضها في الداخل، حيث تركزت مصالح وامتيازات فئوية في ظل التأسيس الخاطئ، عن قصد، للسلطة والدولة بعد الغزو الأميركي وإسقاطهما مع الإسقاط الرمزي لتمثال الرئيس صدام حسين. وبعضها الآخر في المنطقة، حيث صراع المحاور الإقليمية والدولية فوق المسرح العربي. وكلها في تداخل وترابط بين الداخل والخارج. فالحوار الإستراتيجي مع أميركا يتبعه حوار من أجل “اتفاق إستراتيجي” مع إيران. الأول أعاد تنظيم العلاقات وما تحتاجه بغداد من واشنطن أمنياً وعسكرياً واقتصادياً، والجدول الزمني لانسحاب القوات الأميركية إلى خارج العراق خلال ثلاث سنوات. والثاني يضبط العلاقات الإيرانية – العراقية بعد سنوات من تعاظم النفوذ الإيراني والهيمنة من دون ضوابط. والقمة الثلاثية التي جمعت في عمان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والملك الأردني عبد الله الثاني والكاظمي، تلتها محادثات وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان في بغداد والتنفيذ العملي للاتفاقات، وقول الكاظمي: “إن دول الخليج تمثل عمقنا الإستراتيجي”. ولا دور للعراق إن لم يكن العمق الإستراتيجي للخليج.
واللافت هو التصور الذي طرحه الكاظمي في “الواشنطن بوست”، خلال زيارته أميركا وبعد عودته منها، تحت عنوان “المشرق الجديد”. فالشرق الأوسط يحتاج إلى “رؤية جديدة” يقول رئيس الوزراء العراقي، ومعها “إعادة تموضع العراق” واستعادة العلاقات مع محيطه العربي. وليس هذا ما يريح إيران بالطبع. فهي تريد الاستئثار بالعراق ورفض أي تعاون لها مع أميركا، وتطالب بانسحاب كل القوات الأميركية من “غرب آسيا”. وميليشياتها تعترض على جعل السلاح بإمرة الدولة، وتعاود قصف المنطقة الخضراء بالصواريخ. ولا مجال للخطأ في قراءة ما كتبه حسين شريعتمداري رئيس تحرير صحيفة “كيهان” ومستشار المرشد الأعلى علي خامنئي، من أن “مواقف الكاظمي امتداد للخيانات التي تعرض لها آل البيت في الكوفة” أيام زمان.
لكن تعبير “المشرق الجديد” لا يزال عنواناً عريضاً. وهو بالطبع يختلف عن مشروع “الشرق الأوسط الجديد” الذي طرحه شيمون بيريز، كما عن مشروع “الشرق الأوسط الواسع” الذي عملت له كوندوليزا رايس أيام الرئيس جورج بوش الابن والمحافظين الجدد. ولا شيء يربطه بشعار “المشرقية” الذي كان محاولة لحماية لبنان واستعادة الدور المسيحي في تاريخ المنطقة، عبر إحياء الروابط بين كل المذاهب المسيحية، خوفاً من طغيان التنظيمات المتشددة التكفيرية الإرهابية تحت عنوان الإسلام السياسي. وهو ما جرت في الفترة الأخيرة محاولات لتوسيعه وتطويره بحيث صارت “المشرقية” تعبيراً عن “حلف الأقليات” في مواجهة أكثرية. إذ هو مشرق الكل أكثرية وأقليات.
والواضح حتى الآن هو الانتقال من صراع المحاور إلى بدء محور جديد قوامه التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتعاون الأمني والسياسي. شيء مما سماه أستاذ العلوم السياسية في جامعة النهرين ياسين البكري مشروع “رؤية لإعادة صياغة المنطقة”. وشيء من التضامن في مواجهة السياسات الإسرائيلية والإيرانية والتركية التوسعية في الأرض العربية.
وهذا ما يعطي قوة إضافية لثلاثيّ القمة في الأردن، ومجلس التعاون الخليجي، و”مجلس الدول العربية والأفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن”، والجامعة العربية نفسها التي تبدو في الأزمات الصعبة كأنها تقادمت في الزمن. ولن تكتمل “إعادة الصياغة” من دون توقف الحروب في سوريا واليمن وليبيا، وترتيب تسويات سياسية تحل الأزمات وتعيد تلك البلدان إلى لعب أدوارها العربية على المسرح.
والطريق مفتوح، على الرغم من الحواجز القوية، للخروج من محاور الصراعات والمشاريع المستحيلة والمكلفة إلى “محور” اقتصادي وسياسي لمواجهة تحديات التنمية، والبنية التحتية، والحداثة، واستعادة الموقع العربي الطبيعي على خريطة المنطقة.
حين تسلم الكاتب المسرحي البريطاني هارولد بنتر جائزة نوبل للآداب، قال: “هذا عالم لم يعد فيه فاصل بين المزيف والحقيقي، ولا بين الخيال والواقع”. والوقت حان لنا كعرب لنضع هذا الفاصل بعد عقود من القفز فوق الواقع إلى لا مكان.
نقلا” عن أندبندنت عربية