ثورة المعلّم التي دفعت مريديه إلى الانشقاق
كتب : إبراهيم العريس باحث وكاتب
بل أصل الحكايتين بالأحرى؛ فمن ناحية كان هذا الكتاب، “ثلاث مقالات في النظرية الجنسية”، الذي أصدره مؤسس التحليل النفسي سيغموند فرويد عام 1905، سبب خلافاته العديدة مع عدد من تلامذته، وربما مع الهيئات العلمية المرتبطة بعلم النفس، التي كانت بالكاد استفاقت من الصدمة التي شكّلها كتابه الكبير الأول “علم الأحلام” أو “تفسير الأحلام”، ومن ناحية ثانية شكّل موضوع الكتاب في حد ذاته صدمة كبيرة لمجمل قرائه، إذ راح يؤكد أن كل ما نمر به في حياتنا من تقلبات وصعوبات نفسية ورهابات، إنما يجد أصوله في سن الطفولة.
ومهما يكن من أمر، فإن إرنست جونز، في كتابه المؤسس عن حياة فرويد وأعماله يؤكد أن عدد قراء الطبعة الأولى من الكتاب لم يكن كبيراً، لم تبع تلك الطبعة سوى ألف نسخة خلال السنوات الأربع الأولى. ففي ذلك الحين لم يكن الكتاب قد شكّل “فضيحة” بعد، ولم يكن قد تسبب في الانشقاقات داخل حركة التحليل النفسي، لا سيما منها انشقاق آدلر ويونغ، اللذين كان لهما صلة مباشرة بالكتاب، بخاصة كارل يونغ، “البروتستانتي المتزمت”، بحسب توصيف الفرويديين الأقحاح له.
والحقيقة أن قارئ أيامنا هذه قد يصعب عليه إدراك كنه تلك “الفضائحية” التي وسمت ذاك الذي كان من أوائل كتب فرويد، الذي بعد أن تم تجاهله لسنوات عديدة، راحت طبعاته تصدر تباعاً، وراح مؤلفه يعدّل فيه ويضيف ويخصّ كل طبعة بمقدمة جديدة يفسر فيها ويبرر تلك التبديلات، موحياً أنها إنما كانت بفعل ما يستجد من اكتشافات علمية على صعيد علاقة الجنس بحياة الإنسان.
انجذاب غريزي
في الأحوال كافة، يبقى “ثلاث مقالات في النظرية الجنسية”، أهم كتاب وضعه فرويد حول نظرية الجنسية. الكتاب الذي أسس حقاً للانتقال من البحث في طفولة الإنسانية ككل “عقدة أوديب”، إلى الطفولة بالمعنى الحرفي للكلمة بوصفها الحقبة المبكرة التي يستيقظ فيها الشعور الجنسي لدى الطفل وهو بين الثالثة والخامسة من عمره، ويترجم ذلك من خلال انجذاب “غريزي” أي غير واع، للصبي نحو أمه وللبنت نحو أبيها. وفي هذا الانجذاب يعثر فرويد على جذور العقدة الأوديبية التي سترافق الإنسان طوال حياته، وتملي عليه العدد الأكبر من دوافعه وتصرفاته، مقابل “عقدة إلكترا” التي تعكس الآية بالنسبة إلى علاقة البنت بأبيها.
والحال أن هذا الموضوع المزدوج، الذي يستند فيه فرويد إلى تجاربه وأحلامه الخاصة أكثر كثيراً مما يستند إلى بحوث علمية في هذا المجال سبقت أشغاله، يشكل جوهر المقال الأول في سلسلة المقالات الثلاث التي تكوّن الكتاب. ولعل أهم ما يرد فيه هو رفض فرويد للأفكار، التي كانت سائدة في زمنه وفحواها أن الانحرافات الجنسية لدى الناس ليست سوى نتيجة لنقصان خلقي.
في مقابل هذه الفكرة التي كانت سائدة منذ أعمق الأزمنة، جاء فرويد ليقترح البحث في الطفولة المبكرة “على مستوى توقف النمو البسيكو – جنسي لدى الطفل”، وانطلاقاً من هنا على سبيل المثال “يفسر فرويد المثلية الجنسية من طريق التركيز على مرحلة مبكرة من مراحل الثنائية الجنسية السيكولوجية، تكون فيها الازدواجية الجنسية ماثلة لدى كل فرد”، بحسب فرويد الذي نجده من خلال هذه الفرضية يقيم جسوراً صلبة بين الأشكال الجنسية “غير السوية” وتلك السوية، منطلقاً من وجهة نظر علمية، لا تهتم بإصدار أي حكم أخلاقي في هذا المجال.
نسف مؤثر
في المقال الثاني، يقوم فرويد من جديد بعملية نسف بالغة التأثير، يرفض من خلالها تلك الفكرة السائدة التي كانت تؤكد أن الاندفاعات الجنسية الحقيقية؛ أي الواعية، لا تظهر لدى المرء إلا مع وصوله إلى سن البلوغ. هذا ليس صحيحاً، يقول فرويد، كل ما في الأمر أن الطفل بعد سنوات “وعيه الجنسي” الأولى التي تتمحور بين العامين الثالث والخامس، يميل إلى استبعاد الحالة الجنسية بـ”تناسيها” عن وعي. وذلك بالنظر إلى أن الطفل بين السنوات الأولى وسن البلوغ ينحو إلى جعل “حالته الجنسية” أمراً خاصاً وحميماً يتعايش معه بعيداً من أنظار الآخرين وإدراكهم. تضحي علاقته مع جسده خاصة، وتكاد تكون استمنائية في وضعية يصبح فيها أي مكان من جسده مثيراً لشهوته، وهي وضعية يسميها فرويد: استعداد جنسي مبكر متعدد المصادر والأشكال. وذلك في انتظار المرحلة التي يطال فيها نوعاً من الانتظام مكامن الإثارة في جسده، وصولاً إلى ما يسميه فرويد توحيداً جنسياً.
ويرى فرويد أن هذا الانتظام هو الذي يتكامل عند سن البلوغ، تلك السن التي تشكل المرحلة الثالثة والأكثر تكاملاً في حياة المرء الجنسية، ويخصص لها المقال الثالث والأخير في الكتاب وهو الأقل أهمية، وبالتالي الأقل ثورية بالنظر إلى أن الجديد الثوري الذي اكتشفه فرويد وأراد قوله إنما قاله في المقالتين الأولى والثانية، وبالتحديد مشتغلاً على ذاته وأحلامه، وما كان قد تبقى لديه من ذكريات طفولته.
ولعل هذا الجانب الأخير من البحث هو ما خلق المنازعات إلى حد استثارة العداوات مع تلامذته ومعاونيه، بل حتى مع زملائه الذين أدهشتهم تلك القدرة التي تبدت لدى فرويد في مجال تذكّر كل ما يزعم أنه تذكره، وبالتالي اشتغاله على تحليله، وكأنه يحلل حالات معروضة عليه. ومن هنا لم يتورع المناوئون عن اتهامه بالاختزالية وبقدر كبير من التعميم، بل وصل بعضهم إلى اتهامه باختراع أحلام وذكريات لمجرد أن يثبت نظريات لا سند لها في الواقع.
اعتراف تدريجي
أما الدفاع الأكبر عن فرويد في هذا السياق، فقد أتى كما العادة من جانب إرنست جونز، الذي يذكّرنا بأن هذا الكتاب كان من أكثر كتب المعلّم إثارة للرفض والهجوم “ولا يزال هذا دأبه حتى اليوم”؛ أي بعد عقود من صدوره. “لا سيما في أوساط الجهلة”. كما يضيف مؤرخ حياة فرويد وأعماله مفسّراً، “لقد زعم هؤلاء أن فرويد قد دنس براءة الطفولة في هذا الكتاب”. ومع ذلك يخلص جونز إلى أن “هذا الكتاب يستحق، وكما يقول ستراتشي، أن يوضع في مستوى كتاب (علم الأحلام) نفسه ليعتبر أكبر مساهمة تجديدية أضافها فرويد إلى المعرفة الإنسانية”.
ولئن كان جونز قد ذكر، كما أشرنا أعلاه، إلى أن ألف نسخة فقط قد بيعت من هذا الكتاب خلال السنوات الأربع التالية على صدوره، فإنه يضيف لاحقاً أن ألفي نسخة من الطبعة الثانية قد بيعت في زمن قياسي تبعها ألفان آخران.
ويقول جونز، إن حقوق فرويد عن تلك النسخ بلغت مئتين واثنتين وستين كرونة سويدية، وأن الكتاب قد تُرجم من فوره إلى تسع لغات، بينها التشيكية والهنغارية واليابانية، كما صدرت ترجمات إنجليزية عدة، منها واحدة خلال حياة فرويد في ست طبعات متتالية. يضيف أن فرويد أجرى تعديلات وإضافات بنفسه على تلك الطبعات، ناهيك أن جيمس ستراتشي اشتغل طويلاً على النصوص الإنجليزية، “جاعلاً إياها مفهومة بشكل واضح ومتكامل”.
ولعل من المفيد هنا أن نذكر من جانبنا أن هذا الكتاب الفرويدي الذي يعتبر واحداً من أكثر كتبه نجاحاً بعد “علم الأحلام”، قد تُرجم إلى العربية عام 1963 من قبل أستاذ التحليل النفسي سامي محمود علي ليصدر في عدة طبعات متلاحقة، بتقديم من مصطفى زيور الذي عُرف كواحد من أبرز المحللين النفسيين والباحثين في هذا المجال بين الأربعينيات والستينيات، وكان هو مترجم “علم الأحلام” الذي أصدرته دار المعارف نفسها ضمن سلسلتها الشهيرة “المؤلفات الأساسية في التحليل النفسي” التي كان يشرف عليها زيور نفسه وأصدرت الكتب الأمهات في هذا المجال.
نقلا” عن أندبندنت عربية