كريتر نت – العرب
سلط الدبلوماسي الموريتاني محمد الحسن ولد لبات، وسيط الاتحاد الأفريقي السابق في الأزمة السودانية، من خلال كتاب “السودان على طريق المصالحة” نشر مؤخرا كيف أن غياب أسس بناء الدولة المدنية في هذا البلد اصطدم طيلة عقود بكثير من العقبات، التي جعلت من دبلوماسية الوساطة تشكل النقطة الأبرز في الخلافات بين القوى السياسية.
ويتناول ولد لبات، الذي عمل ممثلا للأمين العام للمنظمة الدولية للفرنكوفونية لتسوية النزاع الداخلي في تشاد عام 2008، في خمسة محاور تلك المسيرة من الدبلوماسية لتسوية نزاع قديم في السودان تتعلق بسياق الوساطة وإنضاج الوساطة ومسارات الوساطة وتحديات المرحلة الانتقالية وتساؤلات حول المستقبل.
ويثير الكتاب إشكالية جسيمة تطرحها الديمقراطية في السياق الأفريقي، وهي ديمقراطية يتحتم عليها، أن تبتكر سبلا خاصة بها، فهذه المجتمعات المبنية على تمفصلات عرقية وطائفية وقبلية، لن تتوفر على الانسجام، إلا في ظل نموذج ديمقراطي ينأ عن المقولة التي مؤداها أن “من ينل الأغلبية يتولى الحكم ومن يفقدها لا يبقى له ملجأ سوى المعارضة”.
ويرى المتابعون إن تلك ثنائية لا جدوى منها ولا معنى لها في المنطقة العربية، فتداعياتها تتمثل في الإقصاء والحرمان والظلم والحيف والتوترات والأزمات، ذلك أن مثل هذا المبدأ لا يعمل إلا في المجتمعات، التي انصهر فيها الفرد ضمن المجموع، وحيث يتعالى مفهوم الشعب على الهويات المتميزة.
ويعد الكتاب الواقع في 424 صفحة من الحجم المتوسط، شهادة حية يرويها ولد لبات وزير خارجية موريتانيا سنة 1997 عن المسار الذي قطعته المفاوضات بين أطراف الأزمة السودانية التي اندلعت في أعقاب انهيار حكم الرئيس عمر البشير، قبل توصل الفرقاء السياسيين إلى اتفاق المصالحة الذي كان من بين نتائجه ميلاد المجلس الانتقالي.
ولعل ما كتبه الرئيس المالي الأسبق عمركوناري في تقديم المؤلف يختزل تحركات العمل الدبلوماسي المعقد، فكتاب ولد لبات، الذي صدرت نسخته العربية عن المركز الثقافي بالعاصمة اللبنانية يعتبر “اختبارا جريئا على ممارسة الوساطة المتسمة بالمكاشفة النزيهة والحياد الفكري المنصف”.
ويشير كوناري في المقدمة إلى أن هذا العمل الفكري يشكل “إسهاما قيما في ترسيخ المذهب الأفريقي للوساطة، ومرجعا علميا للاستفادة من تجربة تطبيقية على أرض الواقع”.
وتطرق ولد لبات إلى الهنات والنواقص التي قد تشوب الوساطة وعيوبها. وعادة، يتطلب نجاح الوساطة في النزاعات توفر منظومة ملائمة للدعم لتزويد المبعوثين بما يلزم من الموظفين المساعدين والمشورة السليمة، وكفالة توافر ما يلزم من موارد لوجستية ومالية لإجراء المحادثات وفق ديبلوماسية تعمل للحيلولة دون تصعيد الصراع وللحد من انتشارها عند حدوثها.
وفي سياق ذلك، يرى ولد لبات في كتابه، أن الديمقراطية في قارة أفريقيا، لا بد أن تكون توافقية جامعة أو لا تكون على الإطلاق، فالمقصود في الواقع ديمقراطية قائمة على التنازلات الديمقراطية وعلى التوافق الديمقراطي الذي ينبذ العنف نبذا مطلقا.
وإن كان نجاح الوساطة الأفريقية في السودان، لن يكون خاتمة المطاف في مسيرة السودان الطويلة نحو السلام، وبناء النظام الحر الضامن للتحولات الديمقراطية والمؤسسية التي يتطلع إليها الشعب السوداني بكل مكوناته، فإن “النجاح الباهر الذي حققته هذه الوساطة والإضاءات النظرية التي يقدمها الكتاب” لهذا المسار التاريخي سيجعل من الثورة السودانية نموذجا يحتذى به.
وهذا الطرح هو ما خلص إليه الرئيس الأسبق كوناري في تقديم هذا المؤلف، الذي يشكل بالنسبة للدبلوماسيين والمدرسين والطلبة والباحثين، حالة مدرسية تنطوي على طرق التعامل مع العراقيل والمعوقات التي تجابه مسلسلات الوساطة.
وإذا كانت التساؤلات التي يثيرها بحكمة المؤلف بشأن المستقبل، تمثل نداء ملحا لالتزام الحيطة واليقظة القصوى لتفادى أي انحراف للمرحلة الانتقالية وللثورة السودانية، فإن ولد لبات، يؤكد على أن المصالحة تبدو شرطا تمهيديا لا غنى عنه لإنجاح أولويات هذه المرحلة الانتقالية، وأن هذا المطلب يكتسى اليوم في السودان أهمية بالغة وملحة.
ونجاح الحكم الانتقالي بالسودان مرهون إلى حد بعيد بتحقيق مصالحة حقيقية بين السلطات الحالية والحركات المكونة للنسيج السياسي، إلى جانب السياسات والإجراءات التي يتعين على مجلس السيادة والحكومة تصورها وتنفيذها بأقصى درجات الفاعلية للتحكم في تناقضات المشهد السياسي الداخلي، وحماية البلاد من الأطماع الخارجية ومحاولة السيطرة والهيمنة.
ويعبر ولد لبات في كتابه عن اعتقاده الراسخ بأن أي انتقال سياسي “لم ينجح نجاحا مؤكدا في أي بلد أفريقي، إلا بإرساء التهدئة في قلوب مواطني البلد قبل إرسائها في مؤسسات وأجهزة الدولة، فضلا عن أن المصالحة كذلك تستحيل إذ لم تقم على العدالة”.
وفي نفس الإطار، يرى ولد لبات الحاصل على الدكتوراه في القانون الخاص من جامعة تولوز الفرنسية، أنه “لا مصالحة ما لم تكشف حقيقة انتهاكات حقوق الإنسان، وما لم يتم جبر الأضرار، في حين أن تحقيق السلام سيشكل رافعة للمصالحة في ما بين جميع السودانيين”.