كريتر نت – كتب : مصطفى الفقي كاتب وباحث
تعد الانتخابات الأميركية الأهم والأشهر بين ديمقراطيات العالم المعاصر لأسباب تتصل بحجم الولايات المتحدة ووزنها الدولي ودورها الممتد على طول خريطة العالم بصورة أدت إلى حالة من الترقب الشامل مع الإحساس العام بأنها دائماً آلية فاعلة في تشكيل السياسة الأميركية بل والسياسة الدولية عموماً، ونحن حالياً أمام انتخابات غير تقليدية تختلف عن النمط السائد في سابقاتها، فالرئيس القابع في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض رجل عنيد يقف على واحد من أهرامات رجال الأعمال، فليس له تاريخ سياسي طويل أو حزبي كبير وقد كان أداؤه في السنوات الأربع الماضية مثيراً للجدل، فملأ الدنيا وشغل الناس بتصريحاته غير المألوفة ومواقفه غير المسبوقة وصراحته الشديدة وخروجه عن قواعد اللياقة السياسية والدبلوماسية. أما منافسه، فهو شخصية باهتة إذ إن (جو) بايدن المتقدم في السن نسبياً يدخل المعركة الانتخابية ليحصد أصوات الرفض لـ(دونالد) ترمب في فترة حكمه كما أن بايدن لا يؤسس لعهد جديد ولا يبشّر إلا بتكرار إدارة الديمقراطيين، خصوصاً في عهد باراك أوباما. ولعلنا نبسط الآن في قراءة عاجلة الفوارق الجوهرية بين أدبيات الحملة الانتخابية لكل من ترمب وبايدن:
أولاً: إن أجندة ترمب واضحة، عداء شديد للصين وتخوف من دورها الجديد دولياً، خصوصاً بعد انطلاق وباء كورونا من أرضها، فضلاً عن شعوره بأهمية الجانب الاقتصادي في العلاقات الدولية المعاصرة، فهو معني بتحويل السياسات الأميركية إلى أرقام في الخزانة العامة للدولة، ولقد كانت رحلته الشهيرة للسطو على أموال العرب وخلق فزاعات في المنطقة تسمح له بأن يحصل على ما يريد، لقد كانت تلك الزيارة أمراً مكشوفاً ومفهوماً لأنه يعني أن الرجل يتصرف بمنطق رجال الأعمال في السياسة الدولية، كما أنه لا يعير الأمم المتحدة ما يليق بتاريخها من اهتمام ولا ينظر إلى المؤسسات الدولية بالاحترام ذاته الذي نتوقعه، فالرجل نمط جديد من البشر على أهم مقعد في أكبر دولة معاصرة.
ثانياً: إذا كانت إدارة الديمقراطيين قد ركزت تاريخياً على القضايا ذات الطابع النظري من حقوق الإنسان إلى حماية الأقليات إلى الحرص على البيئة إلى الاهتمام بقضية تغيير المناخ، فإن ترمب مختلف تماماً عن ذلك كله، فهو لا يرى أمامه إلا الأرقام التي يريد أن يحصدها من جيوب الآخرين، فضلاً عن عناد واضح وتمسك شديد برأيه مهما اختلف معه الآخرون، فبينما الديمقراطيون معنيون – ولو شكلياً – بالحدّ من السياسات العنصرية داخل الولايات المتحدة الأميركية وخارجها، فإن ترمب لا يعطي هذه القضية الأولوية التي تستحقها، بل لا يضيره أن يتعامل مع بعض الديكتاتوريات في العالم وفقاً للمصالح الأميركية بغض النظر عن الجانب الافتراضي أو الأخلاقي في المنظومة.
ثالثاً: يتطاير الشرر من عيون الديمقراطيين وهم يتوعّدون أنظمة معينة في عالم اليوم بالانقضاض عليها والانتقام منها إذا ما فازوا في الانتخابات الرئاسية، بل إن تصريحات بايدن نفسه حملت هذا المعنى في أكثر من مناسبة، فالديمقراطيون بارعون في استخدام قضايا حقوق الإنسان لمحاصرة النظم وملاحقة الحكام لا عن إيمان حقيقي بذلك ولكن نتيجة البراعة في استخدام بعض الشعارات البراقة التي يرفعونها فوق رؤوس الشعوب المقهورة.
رابعاً: إن التركيز على أميركا أولاً وربما ثانياً وثالثاً أيضاً هو تعبير يرتبط بإدارة ترمب الذي لا يرى العالم إلا من منظوره هو، وتستبدّ به الشوفينية الأميركية البيضاء إلى حد يدفع به إلى تصريحات صاخبة تشعر الدنيا وكأن الولايات المتحدة في طرف والعالم كله في طرف آخر.
خامساً: لم تعطِ إدارة في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية مثل الدعم الذي أعطته إدارة ترمب لدولة إسرائيل، بدءًا من نقل سفارتها إلى القدس وإعلانها عاصمة أبدية للدولة العبرية، مروراً بتأييد سياسات الضم الإسرائيلي للأراضي العربية بما في ذلك الضفة الغربية ومحاولة ابتلاعها، ولقد فتح الإعلام الأميركي أبوابه واسعة أمام الدعاية الإسرائيلية التي انفتحت لها على الجانب الآخر أبواب جديدة في العالمين العربي والإسلامي والقارة الأفريقية.
خامسا: إن “صفقة القرن” ستبقى كالشبح الذي يؤرق العرب والفلسطينيين ويدفع غلاة المتطرفين في الإدارات الأميركية المختلفة إلى البناء عليها وتدعيم دورها والتلويح بها في محاولة خبيثة لتصفية القضية الفلسطينية في أقصر وقت، ولا بد من أن أعترف هنا أنهم نجحوا إلى حدّ كبير في ذلك حتى إنّ ما تحظى به القضية الفلسطينية حالياً هو نوع من التعاطف الإنساني وليس التأييد السياسي، والفارق بين الأمرين واسع وواضح.
سادساً: إن “صفقة القرن” ستبقى كالشبح الذي يؤرق العرب والفلسطينيين ويدفع غلاة المتطرفين في الإدارات الأميركية المختلفة إلى البناء عليها وتدعيم دورها والتلويح بها في محاولة خبيثة لتصفية القضية الفلسطينية في أقصر وقت، ولا بد من أن أعترف هنا أنهم نجحوا إلى حدّ كبير في ذلك حتى إنّ ما تحظى به القضية الفلسطينية حالياً هو نوع من التعاطف الإنساني وليس التأييد السياسي، والفارق بين الأمرين واسع وواضح.
سابعاً: إن تصويت الأميركيين الأفارقة قد لا يكون في صالح ترمب بعد الأحداث العنصرية الدامية التي جرت منذ فترة قصيرة، كما أنك لو سألتني قبيل انتشار وباء كورونا عن الرابح في الانتخابات الأميركية المقبلة، لكانت إجابتي بلا تردّد هي أن ترمب سيحصل على فترة حكم ثانية في البيت الأبيض، ولكن الأمور قد تغيرت لأسباب دولية وأخرى محلية يقع في مقدمتها انتشار وباء كورونا والأحداث العنصرية في بعض الولايات الأميركية أخيراً.
ثامناً: إن العلاقات الأميركية الأوروبية تمثل هي الأخرى بعداً جديداً في الانتخابات الرئاسية، فعلاقات ترمب المتوترة مع بعض دول الاتحاد الأوروبي تشكل فجوة واسعة بين ضفتي الأطلنطي، وواضح أن الكيمياء البشرية بين ترمب وعدد من زعماء أوروبا لا تبدو أبداً على النحو الذي تعوّدناه، فضلاً عن علاقاته شديدة التوتر بالصين والاتهامات المتبادلة بينهما والحرب التجارية المستعرة على المسرح الدولي بين بكين وواشنطن. كذلك فإن علاقات ترمب بروسيا الاتحادية قد مرت بمراحل مختلفة، بدءًا من شهر العسل في البداية عندما كانت موسكو متهمة بدعمه في الانتخابات الأميركية، وصولاً إلى التأزم المرحلي في تلك العلاقات لأسباب تتصل بالسياسات الروسية في منطقة الشرق الأوسط عموماً والإحساس بالعلاقة الوثيقة بين موسكو وبكين عبر العقود الأخيرة.
تاسعاً: إن الناخب الأميركي الذي يميل إلى الرئيس القوي ويغفر له بعض خطاياه يمكن أن يكون داعماً قوياً للرئيس ترمب، خصوصاً أنه لا يزال على مقعد السلطة لأنه ليس من ذلك النوع الذي يضعف أو يقبل الهزيمة، وهو دائماً يحتفظ بمعنويات عالية وقدرة على تجديد الثقة فيه.
عاشراً: إن نوفمبر 2020 سيكون حاسماً لا في معركة أميركية فقط ولكن في معركة دولية كبرى، وسنرقب الموقف عن كثب لكي نرى من الفائز، ألم أقل لكم إنها معركة غير تقليدية في توقيت صعب ولكن لا مفر من ذلك؟ فالديمقراطية لها لوازم ومواقف لا بد من أن ندركها جميعاً، خصوصاً أنني شخصياً استطلعت آراء عدد من المصريين ومن أبناء الخليج أيضاً وموقفهم من الحملة الانتخابية الأميركية على الصراع العربي الإسرائيلي بعد توقيع الاتفاق بين أبو ظبي وتل أبيب برعاية واشنطن، وأدهشني أن ردود الفعل في معظمها تقف إلى جانب دونالد ترمب، فمصر والسعودية وغيرهما من دول المنطقة ترى أن استمراره هو الأفضل على اعتبار أن الشيطان الذي تعرفه خير من ملاك لا تعرفه.
دعنا نتطلع جميعاً إلى انتخابات أميركية تمر بسهولة ويسر على الرغم من تعقيداتها الفنية وإجراءاتها الصعبة حتى نرى على رأس الولايات المتحدة رئيساً يؤمن باستقرار العالم وسلامة شعوبه والحفاظ على الشرعية الدولية ولا يمضي وراء سياسة الكيل بمكيالين أو ازدواج المعايير في العلاقات الدولية المعاصرة!
نقلا” عن اندبندنت عربية