كريتر نت – العرب – صابر بليدي
رغم تواريها عن المشهد العام في البلاد خلال الأشهر التي انتفض فيها الشارع الجزائري ضد السلطة، لارتباطها بمسار سلطة الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، إلا أن الزوايا بدأت تعود شيئا فشيئا إلى الواجهة الدينية والسياسية، لاسيما بعد بروز بوادر احتفاظ السلطة الجديدة بنفس الأهمية للزوايا، كشريك ديني يعول عليه لتحقيق التوازن مع التيارات الأخرى، ويضفي الرداء الشرعي على خياراتها وأجنداتها
أوحى تنصيب الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون لمستشار مكلف بالجمعيات الدينية، برسالة واضحة عن احتفاظ السلطة بنفس توجهات السلطة السابقة في التعاطي مع المشهد الديني، والإبقاء على الزوايا كشريك أساسي في تحقيق التوازن مع التيارات الدينية المتنامية في البلاد، وتوظيفها في إضفاء التزكية الشرعية على الخيارات السياسية.
وتوارت الزوايا عن الأنظار خلال الأشهر الماضية بسبب احتجاجات الحراك الشعبي، الذي ربطها كغيرها من المؤسسات والفعاليات بنظام الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، ولم تسلم حينها من غضب الشارع الذي اعتبرها أداة السلطة في تخدير الشارع بالفكر الشرعي من أجل تمرير أجندة السلطة واستمرار النظام في ممارسات الفساد.
لكن يبدو أن السلطة غير المستعدة للتعاطي مع التيارات الدينية الأخرى، لحداثتها وغرابتها عن المجتمع، لم تجد ملاذا آخر غير الزوايا التي تحمل جذورا اجتماعية وروحية عريقة، رغم ارتباطها بسلطة الرئيس السابق، ورغم ما يشوبها من تهم الارتماء في أحضان النظام.
ولم يتوان مستشار رئيس الجمهورية المكلف بالجمعيات الدينية، عيسى بلخضر، في التعبير أكثر من مرة عن “حرص الرئيس تبون على تعزيز دور الزوايا في الإشعاع الثقافي والمعرفة”.
واعتبر بلخضر أن “الزوايا والمدارس القرآنية فاعل حقيقي مع سيرورة المجتمع ومشارك له في مختلف الاستحقاقات والملفات الهامة، وأن استرجاعها لمكانتها في المجتمع، هو مرادف لاستعادة الذاكرة الوطنية التي تميزت في بداية شهر يوليو الماضي، باستعادة جماجم مقاومين جزائريين إلى الوطن من متحف الإنسان بباريس”.
بعض المسؤولين الجزائريين اعتاد على التزود بـ”بركة” الزوايا مما أضفى أجواء قريبة من الشعوذة على المشهد العام
وكشف المستشار الرئاسي أن “دور الزوايا لا يقتصر على التعليم الديني، بل يشمل أيضا ترسيخ قيم المساعدة المتبادلة والتضامن الأخوي والعيش معا، وهي القيم التي تعتبر أسس المجتمع الجزائري، خاصة وأنها لعبت دورا هاما في الحفاظ على الهوية الوطنية وقيم المجتمع الجزائري خلال الحقبة الاستعمارية، من خلال المشاركة بشكل لافت في المقاومة والكفاح ضد الاستعمار الفرنسي الذي انتقم منها”.
وظلت الزوايا محل شبهة خلال العقود الماضية، إلى غاية قدوم عبدالعزيز بوتفليقة إلى السلطة سنة 1999، حيث أولاها أهمية قصوى وأعاد لها دورا هاما في صناعة الخطاب الديني والروحي، والمساهمة في تكوين مرجعية وطنية بغية التصدي لتغلغل التيارات الدينية الأخرى، كالإخوان والسلفية وحتى التشيّع والأحمدية.. وغيرها.
وأدت المؤسسات المذكورة دورا داعما للسلطة ولاستمرار بوتفليقة في قصر المرادية لعشريّتين كاملتين، حيث دعمته في مختلف الاستحقاقات الانتخابية والسياسية، وتحول بعضها إلى قبلة لزيارات المسؤولين الكبار في الدولة، على غرار زاوية سيدي محمد بلكبير في أدرار.
وساد تقليد راسخ لدى هؤلاء بضرورة التزود بـ”بركة” الزوايا، وتعميق العلاقة بينهما مما أضفى أجواء قريبة من الشعوذة على المشهد العام، زاد من انتقاد الشارع لتنامي دور هذه المؤسسات في تقوية نفوذ النخب الحاكمة على حساب الشعب الطامح إلى انتزاع حريته من سطوة النظام، الأمر الذي حولها إلى مؤسسة متواطئة مع النظام القائم.
واتضحت معالم احتفاظ الزوايا بنفس المهمة في الطبعة الجديدة للنظام الجزائري، من خلال دعوة مستشار الرئيس تبون، في إحدى مداخلاته إلى “التصدي للتيارات التي تبث التفرقة في المجتمع، وضرورة مواجهة كل دعاة الفتنة من خلال التمسك بالدين الإسلامي السمح الذي يسع الجميع، وتوعية المواطن بالتصدي لكل التيارات التي تبث التفرقة في المجتمع، والشروع في إرساء أسس الجزائر الجديدة”.
مهمة تسيير الجامع الأعظم وإدارته، والمقرر تدشينه في بداية شهر نوفمبر القادم، قد تسند إلى مؤسسة ذات مرجعية صوفية
وأكد مجددا حرص رئيس الجمهورية على أهمية الزوايا والجمعيات الدينية، لما تمثله من رمزية دينية مبنية على مرجعية قوامها وحدة الوطن وتماسكه، وانخراطها في كل المساعي والاهتمامات الوطنية والاجتماعية، كما هو جار مع المساهمة في مواجهة وباء كورونا.
ولم تستبعد مصادر مطلعة أن تسند مهمة تسيير وإدارة الجامع الأعظم المقرر تدشينه في الفاتح من نوفمبر القادم، إلى مؤسسة ذات مرجعية صوفية خرّيجة إحدى الزوايا الكبرى في البلاد، لتكريس التوجه الديني والروحي للبلاد، بعيدا عن التجاذبات المذهبية التي تحاول الهيمنة أو توجيه الصرح الجديد وفق توجهها.
ونفى مستشار الرئيس تبون أن تكرر بلاده تجربة ثمانينات القرن الماضي لما كانت تستعين بشخصيات دينية من خارج البلاد، مما ساهم في إذكاء مذاهب دينية غريبة عن المجتمع، في إشارة للإخوان والسلفيين، وأوضح بأن “مهمة الإمامة والتسيير ستكون لجزائريين وعدم تكرار تجربة الثمانينات”.
وشدد على أن “المرحلة السابقة شهدت انحرافا واستغلالا لمحترفي الشعوذة السياسية بزعم الانتساب للزوايا، بينما الحقيقة كانت غير ذلك، وأن الجمعيات الدينية والزوايا في الجزائر الجديدة موجودة لتنمية القيم والتربية”.
وذكر بلخضر في تصريح لموقع “سبق براس” المحلي، بأن “الرئيس تبون بعد ستة أشهر من تكليفه بملف المجتمع المدني، أراد التخصيص أكثر من خلال تكليفه بملف الزوايا والجمعيات الدينية، نظرا لما تشكله من رصيد قيمي يحتاج إلى حركة تنموية، لأنه عندما نتكلم عن تفعيل حيوية النشاط الاقتصادي إذا لم نسندها بجانب قيمي يركز على الثوابت الوطنية والأبعاد التربوية، فمعنى ذلك أننا لا زلنا نراهن خارج ثوابتنا”.
وأضاف “عندما نتكلم عن مرجعيتنا الدينية فإننا نتكلم عن قيم الجزائري التي لم يكن فيها خلاف عبر التاريخ، ولكننا اليوم في عصر الأجواء المفتوحة وفي عصر التسويق والترويج للأفكار الهدامة التي تعد نوعا من الأسلحة العابرة للقارات التي تدعم من هذا وذاك، وهنا يدخل دور الزوايا والجمعيات الدينية كحاضنة للمرجعية الدينية الوطنية”.
وتابع “عندما نتحدث عن الجمعيات الدينية يظن البعض أننا نتكلم عن الزوايا والانزواء.. لا أبدا، نحن نتكلم عن التربية والاحتواء، نتكلم عن الأخذ والعطاء ولا نقصد إطلاقا الانكفاء عن الذات، لذلك المؤسسات الدينية في بلادنا كانت تمد بإشعاعاتها أكثر من عشرين دولة أفريقية دخلها الإسلام وقيمه الحضارية”، في إشارة لمقار الزوايا ومدارس الصوفية الممتدة في عموم أفريقيا والعالم، كما هو الشأن بالنسبة للمقر العام للزاوية التيجانية الواقع ببلدة عين ماضي في محافظة الأغواط بجنوب البلاد.