بعد انطفاء الحماسة الأيديولوجية أصبحت الدولة الوطنية هدفاً بحد ذاتها
كتب : تركي الحمد كاتب سياسي وروائي
مرّ على العرب حين من الدهر، بخاصة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كانوا يرون فيه أن الدولة الوطنية أو القطرية وفق أدبيات ذلك الزمان السياسية، ليست إلا كياناً كرتونياً لا يلبث أن يذوي، وتعود الوحدة الأصيلة والمفقودة، حين يتحد العرب في ظل كيان سياسي واحد، ألا وهو دولة الوحدة العربية.
الزعم الوحدوي العربي يتصاعد كثيراً خلال فترة أواخر الأربعينيات وعقد الخمسينيات بظهور تيارات وأيديولوجيات قوموية، بعضها وصل إلى سدة الحكم من طريق انقلابات عسكرية (ثورات)، لعل أبرزها حزب البعث والناصرية وحركة القوميين العرب، مستوحين ذلك من تجارب وحدوية أوروبية، مثل التجربة الإيطالية مع غاريبالدي، والتجربة الألمانية مع بسمارك، بخاصة حزب البعث العربي الاشتراكي، وكل ذلك مبني على فرضية أيديولوجية مشتركة، وهي أن العرب يشكلون أمة واحدة، من حقها، كما كان من حق الإيطاليين والألمان، أن تتجسد في كيان سياسي واحد، أو دولة – أُمة.
هذه القناعة الأيديولوجية بوجود الأمة الواحدة الممتدة تاريخياً، والمحرومة سياسياً من تجسيد وحدتها واقعياً نتيجة مؤامرات الإمبريالية والصهيونية وقوى الاستعمار القديم والحديث، دفعت أهل السلطان من القوميين إلى تنصيب أنفسهم أمناء على “الأمة”، وأوصياء على تحقيق مصالحها التي لا يعرفها إلا هم في النهاية، سواء كنا نتحدث عن مصر الناصرية أو عن فكر البعث والقوميين العرب.
هذه الوصاية أو الأمانة دفعت هؤلاء إلى التدخل في شؤون الدول العربية الأخرى، وفق شريعة قائمة على فكرة تهافت الدولة “القطرية” العربية، وبأنها مجرد مرحلة ما بعد استعمارية في الطريق إلى الوحدة الشاملة، ثم جرى تقسيم عالم العرب بناء على هذه المنطلقات، إلى “فسطاطين”، فسطاط التقدميين، وفسطاط الرجعيين، وبدأت الحرب الباردة بينهما.
كانت هزيمة يونيو (حزيران) عام 1967 نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى، نهاية هيمنة الفكر القومي على العقل العربي، وبداية صعود الفكر الإسلاموي أو “الصحوة”، كما عرفت بعد ذلك، التي تسارعت وتيرتها بعد الثورة الخمينية في إيران عام 1979، والاحتلال السوفياتي لأفغانستان، الذي أفرز حركة “الجهاد” الإسلامي الذي صعد بالصحوة إلى آفاق بعيدة، وحلّت الأيديولوجيات الإسلامية محل القومية في الذهن العربي والإسلامي. كانت الصحوة سنية – شيعية على حدّ سواء، ولكن برغم الاختلافات الفرعية، إلا أن الطرفين كانا على اتفاق مبدئي من أن الدول الوطنية القائمة هي مجرد صنائع استعمارية، أو تغريب في أحسن الأحوال، وكلا الأمرين مرفوض تماماً. فالخلافة هي النظام السياسي الوحيد المقبول لدى تيار الصحوة السني، وولاية الفقيه الخمينية هي النظام السياسي الوحيد المقبول لدى تيار الصحوة الشيعي، وما الأنظمة السياسية الأخرى “الوضعية” إلا مرحلة مؤقتة فرضتها الظروف القاهرة. والحقيقة أنه حين التشريح العميق، لا نجد فرقاً بين “الحلم العربي” في الوحدة العربية، وبين “الحلم الإسلامي” في الوحدة الإسلامية، سواء كانت خلافة سنية على منهاج النبوة، أو إمامة شيعية على منهاج أهل البيت، فكلاهما ينفي ولا يعترف بالدولة الوطنية.
وإضافة إلى نفي الدولة الوطنية، فإن كلا التيارين لا يعترف بالتفاصيل الثقافية والاجتماعية وغيرها من تفاصيل “عرقية وطائفية” تزخر بها ذات الدولة الوطنية، في مقابل حلم الوحدة الكبير الذي يتطلب التجانس التام بين فئات المجتمع، كشرط لبلوغ الوحدة الوطنية المرجوة، أو لنقل الوحدة المتخيّلة، وهو ما سيكون له آثار سلبية في الدولة والمجتمع، أبرزها مشكلة الأقليات في الدولة الوطنية الواحدة. فبعد انحسار الحلمين الأيديولوجيين في الوحدة “عربية كانت أو إسلامية”، والاعتراف الواقعي بها على الرغم من استمرار الرفض الأيديولوجي لها نظرياً، “نقصد الدولة الوطنية”، بدأت مشكلة الأقليات تفرض نفسها، وهي التي كانت مكبوتة ومقموعة في تلك الدول التي كان القوميون بخاصة يتحكمون في شؤونها، استناداً إلى مبدأ التجانس التام والمفروض كشرط أوّلي لتحقيق الوحدة.
انفجار مشكلة الأقليات نتيجة طبيعية لمحاولة فرض التجانس المطلق على مجتمعات لا يمكن أن تكون متجانسة بطبيعتها، فليس هناك مجتمع يتمتع بالتجانس المطلق في أي بقعة من هذه البسيطة، وعلى مرّ التاريخ المكتوب، إلا إن كنا نتحدث عن تلك التجمعات البشرية في ما قبل التاريخ، وبدلاً من البحث عن صيغة للتعايش في هذا المجتمع أو ذاك، كانت الأنظمة ذات التوجه الأيديولوجي تفرض التجانس بالقمع والحديد والنار، ولعل أبرز مثال على ذلك العراق البعثي، وإسلاموياً جمهورية الملالي في إيران، بل وفي السعودية خلال مرحلة ما، قبل أن تتغير الأحوال.
اليوم، وبعد انطفاء جذوة الحماسة الأيديولوجية، سواء القومية أو الإسلاموية، أو لنقل بموضوعية أكثر “خفوت تلك الجذور”، أصبحت الدولة الوطنية هدفاً بحد ذاتها، والحفاظ عليها غاية بعينها في وجه تلك النزعات الفئوية والانفصالية، التي هي في حقيقتها رد فعل تاريخي على تاريخ طويل من محاولات فرض التجانس المطلق من قبل الأنظمة المؤدلجة.
لم تعد الدولة الوطنية محل جدل أيديولوجي عقيم أو حجر عثرة في طريق الحلم الأكبر، حلم الوحدة الشاملة المتجانسة التي لا تشوبها شائبة، بل أصبحت واقعاً ثابتاً في حياة الشعوب والمجتمعات، وأصبحت الهوية مرتبطة مع هذه الدولة بعروة وثقى لا انفصام لها، بعد أن زال التناقض والصراع، أو يكاد، بين الهويات في الذات العربية، ما بين هوية عربية وإسلامية ووطنية.
نعم هناك تداخل بين هذه الهويات، ولكنه لا يصل إلى حد الصراع وفق معادلة صفرية، تفترض أنه إما هذه الهوية أو تلك، ولا مجال للتداخل والتناغم بينهما، كما كانت الحال أيام هيمنة التيارات العابرة للدولة الوطنية.
ولكن كما أدى القول بعروبة صافية نقية من قبل التيارات القوموية إلى نوع من “الشوفينية” القومية، جسدتها حقيقة حين التشريح العميق، مقولة البعث “أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة”، لأن الخلود أسطورة ماورائية في نهاية المطاف، فإن الانتماء إلى الدولة الوطنية كمرجع رئيس للهوية أدى إلى نوع من “الشوفينية” الوطنية، كرد فعل على “الشوفينية” القومية السابقة.
كان التيار القوموي يبشر بأنه لا وجود لشعوب عربية، بل هو شعب عربي واحد متناثر، وأمة واحدة متجانسة ومتصالحة ولكنها ممزقة بين أقطار عدة، وهي في النهاية صنيعة الاستعمار بأشكاله وتجلياته كافة، من صهيونية وإمبريالية وعمالة حكام، وما إن سقط الوهم، أو هذه الأسطورة السياسية، حتى خلّفت وراءها شعوباً عربية في حال خصام مع بعضها، وهذا ما نراه هذه الأيام من حالات توتر في العلاقة بين الشعوب العربية، وليس الحكومات كما كانت الحال في السابق.
ولعل جزءًا من ذلك يفسر بأنه نتيجة ذلك التقسيم الأيديولوجي للعرب بين معسكرين، تقدمي ورجعي، والتأجيج الإعلامي آنذاك لكل معسكر على الآخر، بخاصة الإعلام “التقدمي” وتحديداً الإعلام المصري إبان الفترة الناصرية.
نتيجة ذلك التأجيج والتعبئة الأيديولوجية الإعلامية، هي الزرع في النفوس أن هناك شعوباً ودولاً عربية “أرقى” من بعضها الآخر، فكان رد فعل الشعوب “الرجعية” هو التعصب لكل ما هو وطني “شوفينية”، وكان رد الشعوب “التقدمية” هو مزيد من التعالي باجترار الماضي القريب، وكلاهما يلجأ إلى التاريخ لتبرير موقفه، وهو غالباً تاريخ أسطوري مبتسر ومنتقى، لا علاقة له بوقائع التاريخ الفعلية.
لذا فإن العلاقة اليوم بين الشعوب العربية هي علاقة مرَضية، ولا سبيل إلى علاجها كخطوة أولى إلا بالبدء بإزالة “آثار العدوان”، من حيث تصحيح تلك المفاهيم السياسية المؤدلجة خلال الفترة الماضية، مثل مفاهيم الوحدة المتجانسة، ونظرية المؤامرة والمصير المشترك الذي لا مصير غيره كدرب وحيد، والبحث عن مفاهيم جديدة تعكس الواقع المعاش ولا تتجاوزه في سمو مفترض، لا يوجد إلا في أذهان أعمتها أساطير “الأيديولوجيا العربية” عما يتفاعل واقعاً في جوف مجتمعات هذه الكتلة التي نسميها عالم العرب، والذي هو في النهاية كيان ثقافي تاريخي ممتد، وليس كياناً سياسياً كما أراده “الحلم” العربي.
نقلا” عن أندبندنت عربية