كتب : حنا صالح
قبل 3 سنوات، أجرت وزارة الداخلية اللبنانية تشكيلات شملت مجلس قيادة الأمن الداخلي وقادة الوحدات التابعة لها، وفي آخر الشهر حجبت وزارة المالية مخصصات واسعة للوزارة أصابت عملها بشلل كبير. ولم تلتفت الوزارة إلى مطالبة وزير الداخلية، وبعد ذلك مطالبة رئيس الحكومة بالذات، ليتبين أن سبب حجب مخصصات موجودة في الموازنة العامة، يعود إلى ما اعتبرته الجهة السياسية التي يمثلها الوزير المذكور غبناً لها، فتجاوز الوزير حد القانون، لإملاء شروط فريقه على الوزارة، وخلال شهرين كان له ما أراد.
وزير المالية كان يومها علي حسن خليل، اليد اليمنى لرئيس مجلس النواب نبيه بري! وهو الوزير الذي أصدرت بحقه الخزانة الأميركية العقوبات، بتهم الفساد والإثراء غير المشروع، واستخدام منصبه لتحويل أموال إلى مؤسسات تابعة لـ«حزب الله»، كما تسخيره الأبواب الخلفية للوزارة من أجل تمرير صفقات لهذه الجهة، إلى إعفائه مؤسساتها من دفع الضرائب على مستوردات إلكترونية وسواها، تعود إلى «الاقتصاد الموازي» الذي أقامه «حزب الله»، ما حرم الخزينة من مئات ملايين الدولارات سنوياً!
ترتدي العودة إلى هذا الموضوع أهمية خاصة، مع الحملة السياسية تحت عنوان «الميثاقية» التي يُزعم أن وزارة المال تم تخصيصها للطائفة الشيعية من بابها. فاستهدفت الحملة التشكيلة الحكومية للرئيس المكلف مصطفى أديب، التي تعتمد صيغة مصغرة من شخصيات اختصاصية مستقلة عن منظومة الحكم وأحزابها الطائفية، تقوم على المداورة في الحقائب، بحيث لا يكون في الحكومة استملاك لحقائب وزارية لأي طائفة باسم «الميثاقية»، لأن الميثاقية الوحيدة هي المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في مراكز الفئة الأولى، وهذه المسألة أقرها اتفاق الطائف وباتت مكرسة في الدستور.
من المعروف أن توقيع وزير المالية عادة ما يأتي ليؤكد السلامة المالية للمحتوى المالي للمرسوم، على ما يؤكد أهل الاختصاص الدستوري. لكن ما قام به الوزير المذكور تكراراً، فيه تجاوز جوهري للدور المنوط به، إذ انتقل إلى انتزاع دور الموافقة على فحوى المرسوم، أي المشاركة بالقرار السياسي، وهذه مسألة منوطة حصراً برئيس مجلس الوزراء، فيما أبقى الدستور لرئيس الجمهورية حق الاعتراض، ويسقط الاعتراض عند تمسك مجلس الوزراء بقراره. بهذا السياق، هذه «الميثاقية» البدعة هي تكريس «فيتو» على مستوى السلطة التنفيذية!
إنها مسألة لا وجود لها في اتفاق الطائف، ولا في الدستور؛ هي تعبير عن استخدام فائض القوة، لفرض «المثالثة» في السلطة بشكلٍ صريح وواضح كعين الشمس، مع كل ما يعنيه ذلك من انقلاب على الدستور وطعن لوثيقة الوفاق الوطني، بحيث يتحول الأمر إلى استئثار مفروض يوازي جريمة «4 آب» دائمة بوجه اللبنانيين! هنا يبدو أن الثنائي الشيعي «حركة أمل» و«حزب الله»، برفضهما التخلي عن حقيبة المال، وما يصفونه بـ«التوقيع الثالث» إلى جانب توقيع رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء مرتبط بوهج العقوبات الأميركية والتحولات المتسارعة في طول المنطقة وعرضها. وعندما أعطى هذا الثنائي بعداً «ميثاقياً» لهذه الحقيبة الوزارية، أراد القول للآخرين إنه استثمر كثيراً في هذه المسألة منذ حرب يوليو (تموز) 2006، ليتمكن من الاستئثار بهذه الوزارة منذ العام 2014. ويعتبرها واحدة من أوراقه المهمة إذا ما فُتح الباب أمام أي حوار دستوري لاحق، بشأن النظام السياسي، أو بشأن حق الإمرة على السلاح، أو ما يعرف بالاستراتيجية الدفاعية والسلاح الفئوي الذي تمثله دويلة «حزب الله»! هنا نفتح مزدوجين للتذكير أن المثالثة مسألة طرحها وزير خارجية إيران السابق منوشهر متكي على رئيس وزراء لبنان حينها فؤاد السنيورة، غداة «حرب تموز»، وجوبه الطرح برفض لبناني لما فيه من افتئات على الدستور، ويومها طلب السنيورة من ضيفه الامتناع عن الإدلاء بأي تصريح من المنبر الإعلامي للسراي الحكومي، فذهب إلى سفارة بلاده وعقد مؤتمراً صحافياً!
هذه المكابشة بوجه الرئيس المكلف، ومحورها النكوص عن التعهد أمام الرئيس الفرنسي، بتسهيل قيام «حكومة مهمة» للإنقاذ، لها أكثر من وجه، تحت طائلة إفشال المسعى الفرنسي، وتستهدف الاحتفاظ بأوراقٍ رابحة ومكاسب. ينطلق أولها من القلق الذي يساور كل منظومة الفساد من أن تُسلّم الوزارات إلى شخصيات مختصة كفوءة، ما سيكشف الحقائق عن مغاور «علي بابا»؛ حيث حوّل الفرقاء الوزارات إلى مستعمرات لملء جيوبهم ومصالحهم الخاصة وتمويل أحزابهم على حساب المال العام! لذلك خلف هذا التصعيد دعوة إلى إصلاحٍ «متوافق عليه» بحيث لا تُفتضح الخبايا والارتكابات! وفوق ذلك كله الإحجام عن مطالب يرفضها «حزب الله»، من نوع بسط سيادة الشرعية على الحدود البرية والبحرية والجوية، كما ممارسة الضغوط لتنفيذ متكامل للقرار الدولي 1701!
ثاني هذه الأهداف ابتزاز الجانب الفرنسي، الحريص على نجاح المبادرة التي أطلقها الرئيس الفرنسي ويحتضنها ويراهن على نجاحها لأسباب فرنسية أيضاً، وذلك بالضغط لانتزاع موافقة فرنسا على استمرار الاستئثار بوزارة المال تحت العنوان «الميثاقي»، فينتزع هذا الفريق إذ ذاك مكسباً دستورياً، وهذا الأمر بالغ الخطورة على مستقبل البلد، ويكون آنياً قد جوّف المبادرة الفرنسية من خلال التسليم بشروط «حزب الله».
أما الأمر الثالث فهو الرهان غير الواقعي على إمكانية فتح كوة تفاوض بشأن العقوبات الأميركية والسعي لطيها أو إرجائها. وهنا يخشى «حزب الله» أن تطال العقوبات تيار رئيس الجمهورية، وبالأخص جبران باسيل، ما سيؤدي إلى ابتعاده أكثر فأكثر عن الالتزام باتفاق مار مخايل الذي وفّر غطاء مسيحياً لكل سياسات «حزب الله» وممارساته!
جلجلة طويلة تعترض مشروع الحكومة التي يعمل عليها الرئيس المكلف مصطفى أديب، وهو مشروع حمل بارقة أمل بإمكانية ولوج مرحلة انتقالية بدليل الاعتراض الشديد عليه من جماعة متسلطة، لا تكترث إلا لمصالحها الضيقة وزيادة ثرائها. أما كل ما يتعلق بمصلحة عامة أو شأن عام، وخاصة الأزمة المعيشية التي تتعمق بضوء الفقر والعوز، وما ينجم عن ذلك من أجواء لدى بعض الأوساط كاستسهال محاولات الهجرة غير الشرعية عبر المتوسط، إنما يقع في منزلة هامشية، بعدما حوّل الفريق المتسلط الأكثرية إلى ضحايا سياسات، تجمع بين الازدراء والإذلال والإهمال والاستغلال!
* نقلا عن “الشرق الأوسط”