كتب : مصطفى النعمان
حين انتصف نهار 21 سبتمبر (أيلول) 2014، كان اللواء علي محسن الأحمر المستشار العسكري للرئيس هادي قد فقد السيطرة على كل ما تبقى له من قوات في المقر الشهير للفرقة الأولى مدرع، مركز نفوذه منذ نهاية السبعينيات، بعد أن حاصره مسلحو جماعة الحوثي. وفي ذلك اليوم أدرك أن حياته صارت عبئاً على العهد الجديد، وأن مغادرته صارت أمراً محتوماً، واستدعى تأمين خروجه تدخلاً مباشراً وصريحاً من الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، إنقاذاً له من انتقام محتمل.
مهّد خروج اللواء علي محسن الطريق لحدوث تفاهمات توصلت مساء الليلة نفسها إلـى الاحتفال بـ “اتفاق السلم والشراكة الوطنية” الذي وقعه قادة الأحزاب مع ممثلي الحوثيين في 21 سبتمبر 2014، برعاية وحضور الرئيس هادي الذي اعتبره إنجازاً تاريخياً يُحسب له، وبمباركة إقليمية ودولية، وهو الاتفاق الذي مثل نقطة التحول الحاسمة في الحال اليمنية، التي بدأت ملامحها بالتشكل بتنازل الرئيس الراحل علي عبدالله صالح عن السلطة، ثم اختيار نائبه خلفاً له في استفتاء جرى في 21 فبراير (شباط) 2012، ومثّل الاتفاق اعترافاً ضمنياً صريحاً بأن السلاح يمكن القبول به فيصلاً في تحديد المسارات، مشكلاً بداية مرحلة تاريخية انعكست على ما تلاها، وصولاً إلى اندلاع الحرب فجر 26 مارس (آذار) 2015، واستمرارها حتى اليوم.
من الثابت أن كل القوى السياسية التي كانت تشارك في مؤتمر الحوار الوطني رضخت ولم تقاوم زحف مسلحي الحوثي على عمران، ثم اقتحام العاصمة في 21 سبتمبر 2014، بل على العكس من ذلك، فقد انتظرت جميعها في دار الرئاسة منذ صباح ذلك اليوم وحتى انتهاء العملية العسكرية التي شنها مسلحو جماعة الحوثي، ثم حضور ممثليها للتوقيع على الوثيقة التي أسست لكل ما تشهده البلاد حتى اليوم، وربما لمراحل تاريخية قادمة. ومن غير المعقول تغافل كثيرين بأن السيطرة على صنعاء صادفت قبولاً شعبياً في تلك اللحظة، لأنها جاءت بغطاء شعارات براقة، منها إسقاط الجرعة التي أقرتها حكومة محمد سالم باسندوة الذي شعر بأنه سيكون الضحية لتفاهمات غير معلنة تخرجه من منصبه، فقدم استقالة استثنائية في 24 سبتمبر 2014، ولم يوجهها الى الرئيس بموجب الدستور، بل خاطب فيها الشعب مباشرة، بعد إدراكه بأن اتفاقاً تم بين القوى السياسية والحوثيين على تشكيل حكومة جديدة سيتم استبعاده منها، وهو ما حدث بالفعل.
خلال أيام تمكنت جماعة الحوثي من السيطرة على معسكرات الجيش والأمن كافة، وعينت مشرفين يمثلونها في كل الوزارات والمصالح الحكومية، مستندة في ذلك إلى حال الغضب التي كانت مسيطرة على الناس نتيجة فشل حكومة باسندوة في تحقيق أي إنجاز اقتصادي أو معيشي، وهو ما جعلهم يقبلون بدخول الحوثي كبديل، ظنوا أنه سيأتي لهم بأيام أفضل.
جاءت استقالة باسندوة مريحة لجميع الفرقاء السياسيين بمن فيهم أحزاب المعارضة التي اختارته رئيساً للحكومة في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2011 بموجب المبادرة الخليجية، ثم تخلت عنه ولم تكن جادة لدعمه، ولم تمض إلا أيام قليلة حتى ظهر مدى تضخم شهية الاستحواذ على السلطة لدى الوافد الجديد إلى الحكم، لكنهم مارسوها بقسوة وعنف غير مسبوقين، ومن دون دراية بأساليب الإدارة الحكومية، وبطريقة أثارت قلق كثيرين بالرغم من أن المزاج الشعبي لم يكن قد أدرك فداحة الأمر، بل ظلت التوقعات بأن يجري تنفيذ اتفاق “السلم والشراكة” للخروج إلى أفق إيجابي، سراباً ووهماً كبيرين.
كانت الصدمة الأولى حين خالف الرئيس هادي بنود المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، فكلف في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2014 السفير الحالي في الولايات المتحدة أحمد بن مبارك بتشكيل الحكومة الجديدة، وبالرغم من ذلك لم يواجه القرار أي اعتراض من غالبية القوى السياسية، لكن الحوثيين رفضوا القبول به، ورضخ الجميع والرئيس معهم من دون مقاومة.
استمر الانسداد السياسي بعد استقالة حكومة باسندوة التي كانت مشكّلة مناصفة بين المؤتمر الشعبي وحلفائه مع أحزاب المعارضة، إلى أن تم التوافق على اسم السفير في كندا وقتذاك خالد بحاح، لتشكيل الحكومة التي أطلق عليها اسم حكومة الكفاءات، وكانت أيضاً مناقضة لبنود المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، وضمت كثيراً من الأسماء التي لم تكن تمتلك أي تجربة سابقة في العمل السياسي أو الإداري، ولم يكن حظها في النجاح أفضل من سابقتها، فظهر سريعاً عجزها الفاضح عن التعامل مع الأوضاع الجديدة.
إن حال الانهيار التي سبقت 21 سبتمبر 2014 كان لابد أن تذهب إلى المآل الذي وصلت إليه، فقد جرى التعامل مع القضايا الكبرى باسترخاء وسذاجة وعشوائية مدهشة، وتقدمت المصالح الحزبية والخاصة على المصلحة الوطنية، فتعامل الجميع مع سقوط عمران بخفة مذهلة، بل إن بعضهم كان يرى في انهيار الجيش مساراً واجب الحدوث، لتصفية ما كانوا يطلقون عليه الجيش العائلي، وفق حسابات ضيقة قديمة، ووجد فيها آخرون فرصة للتخلص من القوى القبلية التي تسيدت المشهد، وتحكمت في مساراته لعقود طويلة، ولم يدرك كل هؤلاء أن الحسابات الوطنية تستدعي تعاملاً أكثر ترفعاً من الصغائر، وأن تبتعد عن الثارات والأحقاد.
كان يوم 21 سبتمبر 2014 تتويجاً منطقياً طبيعياً لمرحلة الابتعاد عن روح المسؤولية الأخلاقية تجاه الناس، إذ مرت الفترة منذ فبراير 2012 بصراعات ونزاعات يومية بين شركاء حكومة باسندوة، وكان تعطيل عملها مستداماً، وعدم الثقة عنواناً للتعامل بين الوزراء، وتوالت التسريبات عن الفساد الذي قيل إنه تجاوز ما كان يحدث في عهد صالح، لكن الأكثر خطورة كانت القطيعة بين الرئيس هادي والحكومة، وبخاصة رئيسها باسندوة الذي لم يسمح له ترفعه الأخلاقي وتكوينه الإنساني التصالحي وطبيعته المسالمة ونزاهة ذمته المالية، بالدخول في صراع سياسي حول صلاحياته المنتهكة منذ اليوم الأول، وهو ما عبر عنه في خطاب استقالته الموجه إلى المواطنين حين قال، “جرى التفرد بالسلطة لدرجة أنني والحكومة أصبحنا لا نعلم أي شيء، لا عن الأوضاع العسكرية والأمنية، ولا عن علاقات بلادنا بالدول الأخرى”. وأضاف في خطابه أنه قاطع مؤتمر الحوار الوطني لأنه لم يدع للمشاركة في التحضير والإعداد له، كما نصت على ذلك الآلية التنفيذية.
ومنذ 21 فبراير 2012 صار أسلوب إدارة الدولة مرتبكاً ومبتعداً عن القواعد المعروفة، ومنتهكاً للدستور على الدوام، فأصيب الناس بالإحباط وتزايد غياب العمل المؤسسي، وتنامت المؤامرات البينية لتصفية الحسابات، وانحصر قرار حسم القضايا الكبرى واتخاذ القرارات كافة على الرئيس ودائرته الأسرية، والأمين العام لمؤتمر الحوار الوطني أحمد بن مبارك، ولم يكن أحد سواهم يعلم كيفية صنع واتخاذ القرارات، فصار من الطبيعي نشوء فراغات في هيكل العمل المؤسسي تمنع أي تحرك إيجابي يحقق تطلعات الناس وأمنياتهم، وأسهم ذلك كله فعلياً في تسهيل سيطرة الحوثيين المتلاحقة.
إنني أدرك أن كثيرين يعتبرون أن الواجب حالياً هو توجيه الجهود لإنهاء الانقلاب الذي حدث في 21 سبتمبر 2014 وهو أمر صحيح، لكني مازلت على موقفي بأن ما حدث قبلها هو السبب الحقيقي لكل ما تلاه، وعليه فليس من المعقول ولا من المقبول انتظار الخروج من الهاوية بنفس الشعارات والآليات والأدوات التي أوقعت البلاد في هذه المحنة، وستبقى الأسئلة الحقيقية، هل كان من الممكن تفادي ما حدث في 21 سبتمبر؟ من الذي تأمر وتواطأ في عمران ثم صنعاء؟ ومن الذي سمح وتغاضى عن تهجير المواطنين من دماج؟ وستكون الإجابة عليها مدخلاً لمعرفة المسؤولين عن الحال التي وصلت إليها البلاد، وسقوط العاصمة ثم جر اليمن والمنطقة إلى الحرب.