كتب : محمد حسن مفتي
قبل عدة سنوات شاهدت لقاء تليفزيونياً بإحدى القنوات الفضائية للفنان الفلسطيني الراحل غسان مطر، الذي كان مقيماً بمصر، تحدث خلاله عن علاقته بالرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وبالسلطة الفلسطينية، وقد ذكر الفنان مطر أن القيادة المصرية كلفته عام 1978 بتوصيل رسالة إلى ياسر عرفات تتضمن دعوة لحضور قمة ثلاثية مصغرة تشمله هو والرئيس المصري السادات ومناحم بيجن، وقد سارع الفنان الراحل بالسفر إلى بيروت مقر عرفات وقتذاك، وقد ذكر أن الرئيس السادات طلب منه عدم العودة إلى مصر إلا ومعه الرد على الدعوة.
سافر الفنان مطر إلى بيروت وقام بتسليم الرسالة إلى عرفات، حيث طالب الأخير القيادات الفلسطينية المقيمة ببيروت بعقد اجتماع عاجل في نفس اليوم لمناقشة أمر الدعوة، وقد ظل الفنان مطر منتظراً خارج القاعة نتائج الاجتماع، وقد تناهى إلى سمعه خلال انعقاد الاجتماع ضجيج وأصوات محتقنة متعالية منددة بالقمة وبالدعوة، وقد تطايرت الاتهامات هنا وهناك واصفة الدعوة بالخيانة والتخاذل، اضطر الفنان الراحل للإلحاح على عرفات للرد على الدعوة لأن الطائرة التي أقلته من القاهرة لبيروت كانت في انتظاره، فما كان من عرفات إلا أن طلب منه المغادرة دون إعطائه رداً محدداً، وهو كان في ما يبدو نوعاً من التنصل من إعطاء رد حاسم وواضح.
تصريحات الفنان غسان مطر التي أذيعت قبل سنوات تأتي متسقة تماماً مع ما ذكره الأمير بندر بن سلطان مؤخراً في قناة العربية عن تخبط القيادة الفلسطينية، فما يبدو من حديث الأمير بندر والفنان غسان مطر أن الرئيس ياسر عرفات لم يكن يملك القرار المنفرد في تحديد مسار القضية، وإنما كان واقعاً تحت ضغوط القيادات الأخرى في المنظمة التي فضلت المتاجرة بالقضية، وعاشت تحت مظلة أحلام التحرير الكامل للأراضي المحتلة، وهذا لا يبرئ ساحة الرئيس عرفات الذي كان واقعاً بين مطرقة المجتمع الدولي ووسطاء السلام وسندان المتاجرين بالقضية، فمثل هذه الفرص لا تأتي تباعاً كما ذكر الأمير بندر، وإنما هي مرحلية إن ذهبت فإنها لن تعود.
من المؤكد أن حديث الأمير بندر بن سلطان الذي كشف الكثير من الحقائق من داخل البيت الفلسطيني يعد علامة فارقة في سياق سرد تاريخ القضية الفلسطينية، وهو يعد بمثابة وضع النقاط على الحروف في ظل الهجمة الملغمة غير المحسوبة من القيادات الفلسطينية الحالية على قيادات الخليج، وعلى الرغم من أن أغلب الجمهور العربي لديه بعض المعرفة بأوضاع سير القضية الفلسطينية، إلا أن حديث الأمير جاء من العمق، فليس من سمع كمن عايش الأحداث، ولا يخفى على أحد مدى قرب السياسي المخضرم الأمير بندر من القضية الفلسطينية، فحديث الأمير لا يعني إطلاقاً التنكر لحقوق الشعب الفلسطيني ولا يعني التخلي عن حقوقهم، ولكنه هدف لإلقاء الضوء على فشل بعض القيادات الفلسطينية في إدارة ملف القضية، ومن ثم اتهامها لدول الخليج بالتقصير في دعم القضية.
من المؤكد أن هناك حقوقاً للجانب الفلسطيني مقابل تعنت أيضاً من الجانب الإسرائيلي، وخلال سبعين عاماً من الصراع كانت فرص السلام تأتي وتذهب في مهب الريح، وهذا يؤكد حقيقة واضحة وجلية كالشمس، وهي عدم وجود رؤية واضحة موحدة من الجانب الفلسطيني لإدارة ملف القضية، ويبدو لي أن بعض القيادات الفلسطينية -كانت ولا تزال- تخشى المضي قدماً في أي اتفاق حتى لو حقق بعضاً من المكاسب على الأرض، لاعتقادهم أن الأجيال اللاحقة للشعب الفلسطيني ستحملهم المسؤولية، وهذا لا يبرئ ساحتهم، فإما أن ترضى بالسلام كخيار استراتيجي وتتحمل ما له وما عليه وإما أن ترفضه كلية، ومن ليست لديه القدرة على تحمل المسؤولية عليه فوراً التخلي عنها، لأن التخبط والتردد في اتخاذ القرار سيضران بالقضية وسيدفعان الخصم لاستغلال جميع الفرص الضائعة لصالحه، وهو ما فعلته إسرائيل.
في اعتقادي أن هناك العديد من الرموز المؤثرة في عملية صنع القرار داخل السلطة الفلسطينية، كانوا يغذون القضية تارة بالقبول وتارة بالرفض غير المؤسس على قراءة واقعية أو إدراك لمتغيرات الواقع، ومن الجلي أن السلطة الفلسطينية الحالية هرمت دون أن تتمكن من إحراز أي نجاح ميداني يبرر وجودها في هرم السلطة، ولا تزال حتى هذه اللحظة تتصف بالجمود والتخبط والانقسام، وهو ما يعبر بشكل صارخ عن فساد سياسي عميق داخل هيكل وبنية القيادة الفلسطينية الحالية، التي أحوج ما تكون الآن لدماء جديدة شابة، تكون قد استوعبت دروس التاريخ بذكاء ودونما تشنج، وتكون قادرة في نفس الوقت على فهم متغيرات الواقع وطبيعته ومستجداته، بحيث تستطيع التعامل مع الصراع المزمن بما يحقق أقصى استفادة للشعب الفلسطيني الشقيق.
نقلا عن عكاظ