كريتر نت – العرب
المجزرة التي ارتكبتها إحدى الميليشيات الشيعية في محافظة صلاح الدين العراقية، تؤكّد مجدّدا أن مناطق شمال وغرب العراق التي دارت على أرضها الحرب الدامية ضدّ تنظيم داعش بين سنتي 2014 و2017، لا تزال بعيدة عن استعادة استقرارها، وذلك لوجود عيب جوهري في المعادلة الأمنية في تلك المناطق يتمثّل في سيطرة ميليشيات من خارجها على بعض أجزائها، حيث حوّلت تلك الميليشيات سلاحها من مواجهة داعش إلى صدور الأهالي، لاسيما النازحين منهم لمنعهم من العودة إلى ديارهم.
سلّطت المجزرة التي راح ضحيّتها ثمانية أشخاص من بين اثني عشر شخصا تم اختطافهم على يد ميليشيا شيعية في ناحية الفرحاتية بمحافظة صلاح الدين شمالي العاصمة العراقية بغداد، الضوء مجدّدا على المعضلة التي واجهها سكّان مناطق سُنّية بشمال وغرب العراق بعد نهاية الحرب الدامية التي دارت في مناطقهم ضدّ تنظيم داعش، وتتمثّل في وقوع العديد من تلك المناطق تحت سيطرة الميليشيات الشيعية التي شاركت في المعارك، الأمر الذي مازال يمنع تعافيها من آثار الحرب المدمّرة واستعادة أمنها واستقرارها.
وصنّفت مصادر عراقية المجزرة ضمن “أعمال الترهيب التي تقوم بها الميليشيات لسكان المئات من القرى والبلدات التي شهدت حركة نزوح كثيفة أثناء الحرب على داعش وذلك بهدف منعهم من العودة إلى مناطقهم والاستيلاءّ، من ثمّ، على ممتلكاتهم من مساكن ومتاجر وأراض وبساتين وغيرها”.
ولا تزال العديد من فصائل الحشد الشعبي من بينها عصائب أهل الحق بزعامة قيس الخزعلي، وسرايا السلام التابعة لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، وميليشيات أخرى تتولى إدارة الملف الأمني لبعض مناطق محافظة صلاح الدين التي تمت استعادتها من تنظيم داعش بين سنتي 2014 و2017.
ووجّهت العديد من الجهات العراقية من بينها المركز العراقي المستقلّ لتوثيق جرائم الحرب أصابع الاتّهام إلى ميليشيا عصائب أهل الحق باختطاف المدنيين الـ12 من الفرحاتية بقضاء بلد جنوبي تكريت مركز محافظة صلاح الدين وقتل عدد منهم.
وكشفت مصادر “العرب” في بغداد عن اعتقال ستّة من عناصر الميليشيات الشيعية التابعة لإيران في ناحية بلد، مؤكدة أن الجيش العراقي اشتبك مع قوة تابعة للواء 43 في الحشد الشعبي قرب موقع اختطاف الشبان الإثني عشر.
وقالت المصادر إن اللواء 43 هو الاسم الرسمي لميليشيا عصائب أهل الحق بعد اندماجها الشكلي في قوات الحشد الشعبي التي يفترض أنها خاضعة للقائد العام للقوات المسلحة، وهو وفقا للدستور رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي.
وتسيطر ميليشيا العصائب التي يتزعمها قيس الخزعلي، المطلوب للولايات المتحدة بجرائم إرهابية وانتهاكات لحقوق الإنسان، على منطقة بلد بحجة حماية سكانها الشيعة. ومنعت العصائب السكان السنّة، الذين كانوا يخضعون لعمليات التدقيق الأمني للتأكد من عدم صلتهم بتنظيم داعش من العودة إلى مناطق سكناهم بالرغم من حصولهم على التصاريح اللازمة.
وعندما سيطر تنظيم داعش على معظم مناطق محافظة صلاح الدين صيف 2014، نزح معظم السكان منها نحو إقليم كردستان ومناطق أخرى.
وبالرغم من أن ملف النازحين يكاد أن يغلق بعد عودة معظمهم إلى مناطقهم الأصلية، إلاّ أنّ الميليشيات التابعة لإيران تمنع عودة سكان مناطق عدة تقع تحت سيطرتها بحجة حماية أبناء المكون الشيعي فيها.
وقال شهود عيان إن ميليشيا الخزعلي هدّدت سكان قرية الفرحاتية التابعة لناحية بلد بالقتل ما لم يغادروا منازلهم، في إطار حملة جديدة للتطهير الطائفي هدفها استمرار الانتفاع بالأراضي الزراعية الخصبة التي يملكها المهجّرون في الأصل.
وعندما شاهدت ميليشيا عصائب أهل الحق دفعة جديدة من المهجّرين السنّة وهي تعود إلى منازلها وأرضها في الفرحاتية نهاية الأسبوع الماضي، قررت تنفيذ تهديداتها، فقامت باختطاف 12 منهم.
وفُجع سكان الفرحاتية بجثث 8 من المختطفين ملقاة على قارعة الطريق فجر السبت، فيما بقي مصير الأربعة الآخرين مجهولا.
ولم تتوقف ميليشيا عصائب أهل الحق عند هذا الحد، بل استخدمت نبأ قتل الشبان الثمانية لترغم المزيد من سكان الفرحاتية السنّة على النزوح، وهو ما تصدى له الجيش العراقي في المنطقة.
وقالت مصادر أمنية إن عددا من عناصر ميليشيا الخزعلي جُرحوا في تصادم مسلح محدود مع الجيش العراقي في صلاح الدين، وذلك عندما اعترض هؤلاء العناصر قوافل السيارات المدنية المحمّلة بالمئات من الأهالي الذين حاولوا الفرار إثر مجزرة الفرحاتية إلى خارج المحافظة وهدّدوا ركابها “بإنزال أقسى العقوبات بهم إذا تكلموا لوسائل الإعلام وكشفوا حيثيات ما حصل”، بحسب ضابط في الشرطة المحلّية.
وأذكت المجزرة المطالبات بإخلاء المناطق السنّية المستعادة من داعش من الميليشيات الشيعية وتسليم ملفها الأمني للقوات النظامية. حيث طالب أعضاء البرلمان العراقي عن محافظة صلاح الدين، الأحد في بيان، بإخراج جميع القوات المرتبطة بالأحزاب السياسية وأن “تبقى الكلمة الفصل في الشأن الأمني للقوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي حصرا”.
وعلى صعيد سياسي أحرجت مجزرة الفرحاتية رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الذي جاء إلى رئاسة الحكومة رافعا شعار ضبط السلاح المنفلت واستعادة هيبة الدولة العراقية.
وأثناء زيارته، الأحد، محافظة صلاح الدين برفقة وزيري الدفاع جمعة عناد والداخلية عثمان الغانمي ورئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، تعهد الكاظمي بحماية سكان المحافظة.
وبحسب بيان حكومي، قال الكاظمي خلال اجتماع أمني عقده في المحافظة إن “رسالتنا لمواطني صلاح الدين بأن الدولة ستحميهم، وأن عقيدة القوات المسلحة تلتف حول الولاء للوطن والقانون، لا للأفراد أو المسميات الأخرى”.
وأضاف “الإرهاب وأفعاله الإجرامية لا ينتظره إلا القانون والقصاص ولا مكان لعودته تحت أي صورة أو مسمى”، داعيا إلى “ابتعاد قادة الأمن عن الانجرار نحو أي شأن سياسي.. وعدم استباق الأحكام والقرارات قبل إتمام التحقيقات”.
وربطت مصادر عراقية بين حادثة حرق مقرّ الحزب الديمقراطي الكردستاني في بغداد ومجزرة الفرحاتية بصلاح الدين، معتبرة أن الميليشيات الشيعية التابعة لإيران في العراق كشرت عن أنيابها، متحدية السلطات العسكرية والأمنية، ضاربة عرض الحائط الحساسيات الطائفية والقومية في بلد متعدد الأديان والأعراق والقوميات والمذاهب، وسط تحذيرات من أن يؤدي سلوكها الإجرامي إلى التقسيم.
ففي أقل من 24 ساعة، تورطت تلك الميليشيات في عمليين إجراميين ضد المكونين الكردي والسني، عندما أحرقت مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني في بغداد واختطفت وقتلت الشبان السنّة العائدين من النزوح إلى مناطق سكناهم في محافظة صلاح الدين.
وبينما كانت الأنظار مشدودة إلى مشهد عنف في وضح النهار وسط بغداد، حيث يظهر عناصر الميليشيات وهم يحطمون ويسرقون قبل أن يحرقوا مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يترأسه السياسي الكردي المخضرم مسعود البارزاني لأن أحد أعضائه طالب بضبط تصرفات قوات الحشد الشعبي، صُدم الرأي العام العراقي بقيام ميليشيا عصائب أهل الحق باختطاف الشبان من سكان القرية السنية التابعة لناحية بلد ذات الأغلبية الشيعية في محافظة صلاح الدين قبل أن تُعدم عددا منهم، لترهيب سكان المنطقة ومنعهم من العودة إليها، بالرغم من اجتيازهم التدقيق الأمني وحصولهم على تصاريح أمنية رسمية تسمح لهم بالرجوع إلى مساكنهم، إثر تهجيرهم على أيدي عناصر تنظيم داعش في 2014.
وكان رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي حريصا في التعبير عن قلقه من أن يؤدي هذان العملان إلى انزلاق البلاد نحو حرب طائفية جديدة، ستنتهي إلى تقسيمها بلا شك.
وأعلن الكاظمي الأحد أن “لا عودة إلى التناحر الطائفي أو استعداء العراقي ضد العراقي لمآرب سياسية”، مضيفا أن العراقيين تجاوزوا “تلك المرحلة معا ولن نعود إلى الوراء”.
وأضاف أن “جريمة بلد مرفوضة والاعتداء على مقر الديمقراطي الكردستاني مرفوض وأي اعتداء ضد العراقيين نواجهه باسم الدولة والشعب”. وكشف الكاظمي أن القوات العراقية اعتقلت بعض المتورطين في العمليتين، مؤكدا استمرار المطاردة بحق “آخرين لتحقيق العدالة”.
ويقول ساسة عراقيون إن جريمة حرق مقر الحزب الديمقراطي في بغداد ومجزرة الفرحاتية في صلاح الدين تضعان الدولة في مواجهة صريحة مع الميليشيات الشيعية التابعة لإيران، التي يشكل وجودها خطرا مباشرا وعاجلا على وحدة البلاد.
ويعتقد مراقبون أن الميليشيات رفعت سقف التحدي لإرباك خطط حكومة الكاظمي ومنعها من ترتيب أوراقها قبيل الانتخابات المقرر إجراؤها صيف العام 2021.
وكعادتها، اختبأت الميليشيات خلف جدران وهمية عندما ارتكبت جريمتي بغداد وصلاح الدين، ففي الأولى قالت إن “جمهور الحشد الشعبي هو من أحرق مقر الحزب الكردي ردا على تصريحات أحد قادته”، فيما ذكرت أن “تنظيم داعش هو من نفذ عملية اختطاف وقتل الشبان السنة”.
ويعدّ هذا الأسلوب مثاليا لخلط الأوراق والتخلص من مسؤولية جرائم كبيرة على المستوى السياسي والقانوني، لكنه لم يعد نافعا على المستوى الشعبي، إذ يبدو أن الشارع الشيعي يدرك يوما بعد آخر أن المشروع الإيراني يقوم على تحويل العراق إلى ساحة لصراع مفتوح.