د. هيثم العقيلي
كاتب ومحلل أردني
كل عصر مرت به البشرية اعتمد على نمط إنتاج اقتصادي مادي ونمط تفكير ثقافي، الأول شكل الاقتصاد والسياسة والقوة الخشنة وأما الثاني فقد شكل العادات والتقاليد والثقافة والقوة الناعمة التي تخدم نمط الإنتاج.
نحن نعيش الآن لحظة مفصلية في التاريخ الانساني حيث يحزم عصر الصناعة حقائبه ليفسح المجال لعصر المعرفة الذي بدأ يتشكل منذ ربع قرن واعتقد أن انطلاقته الحقيقية خلال بضع سنوات مع دخول الجيل الخامس للانترنت.
بالتأكيد أن الصناعة سيبقى لها نصيب في العصر الجديد ولكنه سيكون هامشي اذا تم استثناء صناعة المعرفة. البشرية مرت بثلاثة عصور رئيسية كل بنمط انتاج ونمط تفكير ثقافي، الاول عصر الرعي والذي استمر عشرات الالاف من السنين واعتمد على جمع الثمار والصيد مع نمط تفكير قائم على الغزو والصيد وتكوين تحالفات للدفاع عن الامن السكني وللغزو ولكن ذلك العصر بدأ بالتلاشي مع انتقال الانسان من افريقيا باتجاه مصر ثم الى الهلال الخصيب ومن خلال القرن الافريقي باتجاه اليمن والجزيرة العربية.
اما العصر الثاني فكان الزراعة والتي انطلقت من الهلال الخصيب بنمط انتاج قائم على الزراعة مع نمط تفكير قائم على الاستقرار وتكوين مجتمعات اوسع وذلك وفر تطوير الزراعة بحيث زاد الانتاج وتلاشت الحاجة للتنقل الا في حالات الكوارث الطبيعية والحروب. العصر الثالث بدأ منذ 350 عاما تقريبا مع نمط انتاج قائم على الآله والطاقة ونمط تفكير قائم على المصالح وبالتالي الفردية والتي احتاجت في النهاية الى فكرة الدولة لتنظم ما سبق.
نلاحظ مما سبق ان نمط الانتاج (الاقتصاد) كان هو المحرك ولكن نمط التفكير الثقافي شكل عائقا أو قوة دفع للأول. لذا تغيرت القوى المسيطرة عبر التأريخ بناء على تقبلها وقدرتها على تغيير نمط التفكير الثقافي بحيث تتقبل العادات والتقاليد والفكر والتفكير للعصر القادم. الأمم التي رفضت التغيير في النمط الثقافي تلاشت أو فقدت أهميتها لقوى جديدة استشرفت التغير في العصور وتأقلمت معه وقد تكون امتنا من اكثر الخاسرين عندما استكانت الى نمط تفكير جامد ثقافيا خلال الانتقال من عصر الزراعة الى الصناعة.
أكتب هذا المقال لقناعتي اننا لم نستعد بنمط تفكير ثقافي مناسب للعصر الذي سيداهمنا خلال سنوات خصوصا والبعض ما زال يصر على التباكي على الزراعة والصناعة التقليدية في الوقت الذي يحزم الجميع حقائبه استعدادا للعصر الجديد. طبعا سيبقى للزراعة والصناعة اهمية في الامن الوطني ولكنها لن تؤهل وحدها لتكون دولنا فاعلة في العصر الجديد بالرغم من أن دولا عربية تسعى بجد لتطوير نمط الانتاج لكن هذه المشاريع والسياسات ستبقى تحت مطرقة الرأي العام الذي يتأثر عاطفيا بالشعارات الثورية الجوفاء وبين سندان قوى عشائرية ومتنفذين توارثت مناصب الدول وارتبطت مصالحها بالعصر الحالي ما قبل الرقمي. فالرقمية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي انتجت رأي عام مؤثر لكنه للاسف في اغلبه سطحي وعاطفي وجيل المتنفذين في ما قبل الرقمية والذي يمثل الجسر بين القيادات والرأي العام عقيم ثقافيا فيرمي اخطائه على القيادات امام الرأي العام وبالمقابل يعطي صورة مغلوطة للقيادات بتضخيم تأثيره وقدراته بالرغم أن اغلبه ليس مقنعا او مؤثرا ولا مواكبا للتغيير.
كنت اتمنى ان أقرأ رؤية واضحة من وزراء الثقافة لتواكب العصر القادم فالثقافة ليست فقط قراءة كتب وروايات (على اهميتها) ولكن تغيير في نمط التفكير المجتمعي بحيث يقبل الآخر ويؤمن بالحوار ويحترم القانون (مع اهمية تطبيق روح القانون وليس نصوصة المجردة). ما يحدث حاليا أن هنالك هوة كبير تحتاج للردم بين جيل ما قبل الرقمية الذي يضع الخطط والسياسات وجيل الرقمية المتعجل فكأننا نعيش صمم وضجيج في نفس الزمان والمكان.
يأتي دور وزارات الثقافة والاعلام والشباب لتفعيل آليات تشكل نمط تفكير اجتماعي جديد يواكب ويتقبل العصر الذي سنعيشه قريبا والذي ان ركبنا قاطرته مبكرا سيكون نعمة تختصر ما ضيعناه بعناد عصر الصناعة أما اذا بقي الاصرار على نمط التفكير الثقافي الحالي الذي يخضع كل جديد للمعايير القديمة أو اذا ترك الرأي العام دون توجيه أو اذا اصر جيل ما قبل الرقمية الى اخضاع الجيل الرقمي للمعايير الحالية فسيكون العصر القادم أزمة لنا.
سأحاول في مقالات لاحقة طرح رؤيتي الفكرية للنمط الفكري الثقافي الذي نحتاج له لقناعتي أن الجيل المهاجر الى الرقمية قادر على إحداث التوازن الثقافي المطلوب لتجسير الهوة بين الجيل التقليدي وجيل الرقمية الاصيل.
نفلا” عن العربية نت