د. هيثم العقيليكاتب
ومحلل أردني
مرحلة التحول (interregnum)
لخصت في مقال سابق أننا نعيش أحد أهم السنوات في التاريخ الإنساني بانتقال العالم من عصر الصناعة إلى عصر المعرفة و الذي برأيي سيسطر على العالم خلال أقل من خمسة سنوات ويسرع في سيطرته جائحة كورونا التي فرضت تسارعا في استخدام التقنية الرقمية في كافة المجالات. أما هذه السنوات الخمس فهي انتقالية لا أجد لها توصيفا مناسبا أكثر من المصطلح الفلسفي الفكري (interregnum ( أو التحول لذلك فإن العالم يعيش الآن فترة من انعدام الوزن ظاهرها فوضى وباطنها صراع على من سيقود الخمسين عاما القادمة ومن سيكون في ركب عصر المعرفة بعنصريه الاقتصادي والثقافي.
الأول نمط الإنتاج القائم على صناعة المعرفة و ثورة الاتصالات وتيار الرقمية والثاني نمط التفكير الرقمي الذي سيحدد من سيكون في قاطرة العصر الجديد ومن يبقى أسير العصور الماضية.
جوهر عصر المعرفة هو الجيل الرقمي الأصيل (native digital) وفهم هذا الجيل هو الطريق للاستقرار ودخول العصر الجديد. الجيل الرقمي هو جيل ماهر جدا في استخدام التكنولوجيا بثقافة عابرة للحدود لا تعنيه كثيرا القضايا السياسية أو الإيديولوجيا ولا تعنيه كثيرا مسألة الأعراف والتقاليد لذلك فهو برأيي جيل سهل ممتنع بمعنى أنه سهل التوجيه إذا استخدمت الوسائل المناسبة وعصي على المواجهة إذا اعتقد أحد أنه يمكن السيطرة عليه بالوسائل التقليدية وبما أن الفيزياء لا تقبل الفراغ فإذا لم تقم الحكومات الوطنية باتباع الآليات المناسبة ستتركه فريسة للجماعات المشوهة فكريا والموجهة خارجيا. المواجهة الخشنة مع هذا الجيل مستحيلة فامتداده العابر للحدود والمناطق قوة هائلة ويكفي أن نرى تأثير فيديو لثوان على هاتف محمول مثلما حدث مع جورج فلويد في الولايات المتحدة لنفهم قوة هذا الجيل الذي سيتسابق السياسيون في الدول الكبرى لكسب أصواته بما لذلك من تحد أمام الحكومات في دولنا التي لن تستطيع مواجهة رأي عام عالمي يصنعه فيديو مدته أقل من دقيقة.
الهوية الوطنية للجيل الرقمي تحتاج إلى التعامل معه باحترام و حفظ لكرامته فهو جيل لا يتحمل القهر في تفاصيل الحياة اليومية وفي نفس الوقت فإن دور الأسرة في تكوين الهوية سيتراجع حيث إن هذا الجيل أكثر معرفة ومهارة من الوالدين أما دور المدرسة كحارسة للقيم و الأخلاق والهوية الوطنية فسينتهي مع سيطرة التعليم الرقمي المجرد من العواطف والمشاعر والرقابة لذلك فإن المصطلح النظري وزارة التربية والتعليم سيتحول عمليا إلى وزارة التعليم فإذا لم تجد الحكومات من يتولى التربية أو لنقل نمط التفكير السليم فإنها تتركه لجماعات متعصبة تملأ الفراغ بما في ذلك من خطورة.
برأيي أن وزارة الثقافة ستكون أهم مؤسسة في الحكومات التي تستشرف المستقبل وستمثل ما يشبه عسكريا التوجيه المعنوي أي أنها وحدها ستكون القادرة على التوجيه المعنوي ونمط التفكير وتعزيز الهوية الوطنية والانتماء والولاء إن وضعت فلسفة ورؤية واضحة وليس دورا هامشيا كما هو الآن.
أما الجامعات فدورها في تشكيل الهوية الوطنية انتهى بل إنني أستشرف خطرا أكبر على الجامعات في منطقتنا وهو قدرتها على البقاء في ظل الجمود الذي تعاني منه حاليا. فتطور التعليم الرقمي سيؤدي إلى شهادات رقمية معتمده من الدول الكبرى يستطيع الطلبة الدراسة فيها من المنزل أو من هاتف ذكي و قضاء بضعة شهور فقط في الجامعة و هنا لنا أن نتساءل إذا خير الطالب و الأهل بين شهادة من هارفارد أو أكسفورد أو جون هوبكنز بالتعليم الرقمي عن بعد و معتمدة في الدول الغربية و الولايات المتحدة و بين الحصول على شهادة جامعة من جامعاتنا (والتي لها كل الاحترام والتقدير طبعا) فمن سيختار. أنا متأكد أن الغالبية ستختار شهادة غربية تفتح له الأفاق خصوصا أن الكلفة ستكون أقل وأن تلك الجامعات ستكون قادرة رقميا على استيعاب أضعاف الطلبة الحاليين.
تراجع أهمية و دور جامعاتنا (باستثناء تلك المتقدمة في التصنيفات العالمية) تحدي تعليمي اقتصادي اجتماعي. فالكثير من جامعاتنا لها دور في تنمية المجتمع المحلي و النشاط الاقتصادي القائم على خدمة الطلبة و الذي سيتلاشى مع تقدم التعليم الرقمي بحيث أن المصالح الاقتصادية و السكنية التي تقوم على الجامعة ستفقد جل زبائنها مع ما يتبع ذلك من تراجع في أسعار العقارات المحيطة بالجامعات و فقدان آلاف الأعمال و الوظائف. الأهم من ذلك أن غالبية جامعاتنا لن تكون قادرة على تحقيق معايير الاعتمادية الدولية الجديدة التي ستطلبها الدول الكبرى مما يضع خريجي جامعاتنا في مهب الريح و يدفع الغالبية لجامعات غربية رقمية كبرى ستكيف نفسها لاستقبال أعداد اكبر على منصاتها بما لذلك من فائدة اقتصادية لها.
التحدي الأكبر في عصر المعرفة هو أمني فقدرات التواصل و التأثير و حشد الرأي العام داخليا و خارجيا للجيل الرقمي ستتلاشى أمامها الحدود و الحواجز خصوصا مع تفكير شركات كبرى بتوفير الانترنت من منصات فضائية فالشركات الكبرى تجد في ذلك مصلحة اقتصادية و الدول الكبرى ستجد في ذلك مصدر قوة وتأثير وتوجيه لذلك فإن القوانين والأنظمة والتعليمات التي توضع حاليا لمحاصرة حرية الرأي والتعبير ستفقد قدرتها أما الأساليب الخشنة فستنقلب إلى عوامل تدمير ذاتية و كلها ستمهد للفوضى والصراعات مع الجيل الرقمي الذي ستسهلك الجميع.
لذلك فإنني أرى أن العمل على نمط التفكير الثقافي القائم على الاحترام وحفظ الكرامة وتطبيق روح القانون في التفاصيل اليومية لهذا الجيل أقل كلفة و أكثر فاعلية خصوصا أننا نتحدث عن جيل اهتماماته السياسية محدودة جدا و بالتالي يمكن احتوائه بسهولة بالتأثير بنمط التفكير في حين أن مواجهته ستدفعه إلى أحضان جماعات و دول تبحث عن أطماعها و أطماع داعميها متخفية بقشرة نبيلة في ثناياها السم الزعاف.
ألخص هذا المقال بالقول أننا في مرحلة تحول عالمي يحمل في ثناياه تحولات في كل مجال و منطقة و مع قناعتي أن غالبية القيادات في دولنا واعية لذلك و تعمل على مواكبة عناصر الإنتاج بأثرها الاقتصادي و السياسي و العسكري و لكن الطبقات التي تلي القيادات لا تولي العنصر الثاني و هو نمط التفكير الثقافي أهميته و ما زالت تتعامل معه بالوسائل و المعايير ما قبل الرقمية و التي ستؤتي نتائج عكسية.
في المقال القادم سأكتب في الآلية التي تحتاجها وزارة الثقافة أو المؤسسات الرديفة لها لتعزيز الهوية الوطنية للجيل الرقمي و التي برأيي تشكل الأساس للحفاظ على بلداننا مستقرة هذا طبعا إذا تعاونت معها المؤسسات الأخرى ولم تبق حبيسة فلسفتها الحالية.
نقلا” عن العربية نت