تبقى أكبر عامل مؤثر في شخصيات ثقافية وفكرية وإبداعية عربية ومغاربية
كتب : أمين الزاوي كاتب ومفكر
كل ما في باريس يبهر، الآداب والعطور والحدائق العريقة والمتاحف العامرة والنساء الجميلات والمقاهي والنبيذ الممتاز. تتجلى في هذه المدينة الحياة كما يتخيلها الإنسان في أركان الدنيا جميعها وكما يرغب فيها. ولأن كل ما فيها يبهر فعيون أعداء الحياة الجميلة تترقّبها.
هي ليست رؤية إكزوتيكية أو حس إغرابي، هي ليست بطاقة بريدية سياحية عن باريس، إنها الحقيقة التاريخية والإنسانية والفنية، فعلى مدى قرون كانت باريس الجميلة، الهادئة، الصاخبة، المتناقضة، المثيرة تمثّل طاقة الحلم الإيجابي الذي يتقاسمه المثقفون والفنانون من كل أصقاع الدنيا.
الجميع كان يحلم، من المثقفين والمبدعين والفلاسفة على اختلاف لغاتهم ودياناتهم وميولهم الجمالية وتوجهاتهم السياسية، وعلى مدى قرنين كاملين (التاسع عشر والعشرين) وأزيد، أن يزور باريس، ويقف على بعض من سر سحرها.
المدن أساطير، وباريس كانت أسطورة قبل أن يقتحمها طاعون الإرهاب.
باريس “مدينة الجن والملائكة”، هكذا وصفها طه حسين حين وصل إليها عشية الحرب العالمية الأولى، كان ذلك عام 1914، ليغرف منها علماً ومنهجاً وأفكاراً وجرأة، ويتعرف فيها على امرأة مسيحية فرنسية ستكون عينه وعصاه وطريقه إلى المجد، وزوجته وأم أطفاله.
فقد ظل طه حسين مديناً لباريس بشكل خاص وفرنسا بشكل عام على كل ما منحته إياه من حس حضاري ومن رؤية جديدة للعالم، ومن منهج قراءة للآداب ومن طريقة سلوك في الحياة، بخاصة علاقته بالمرأة، زوجة وابنة وأماً ورفيقة، فباريس هي التي كانت وراء إنتاج طه حسين لواحد من أهم الكتب النقدية في القرن العشرين وأعني به كتابه “في الأدب الجاهلي”، الذي أثار حفيظة المحافظين وخلق له خصوماً على كل الجبهات الثقافية والدينية والجامعية.
وهي أيضاً المدينة التي زارها الكاتب توفيق الحكيم عام 1925، وهو أحد عمداء الكتابة المسرحية والروائية في الأدب العربي، ليتابع دراسة القانون.
لكن مدينة مثل باريس وبلداً مثل فرنسا، مهما كان بلد حقوق الإنسان، إلا أنه وقبل كل شيء فضاء غواية الآداب العالية والفنون الجميلة. من هنا فقد أنست باريس توفيق الحكيم “درس الحقوق” التي هاجر لتحضير أطروحة الدكتوراه فيها، ليعود بعد ثلاث سنوات أديباً كبيراً وكاتباً مسرحياً متميزاً، ويكتب واحداً من أجمل كتبه وهو “عصفور من الشرق”، الذي نشر عام 1938. يكتب بكثير من الوفاء ومن خلال علاقة البطل محسن، الذي ليس سوى توفيق الحكيم نفسه، بسوزي عاملة شباك التذاكر، علاقة الشرق بالغرب في مفترق الطرق، ليرسم أيضاً ملامح وجه باريس المسرح والليالي والفن والمغامرة.
وهي باريس المدهشة بلياليها التي جاءها أيضاً سهيل إدريس، فهام في العوالم الليلية لحي باريسي أسطوري لا يشبهه حي آخر، إنه “الحي اللاتيني” الذي كان محج كل الوافدين إلى المدينة، من زارها ولم يقصد الحي اللاتيني فكأنه لم يزر المدينة، فكتب إدريس واحداً من أهم نصوصه السردية على الإطلاق وأعطاه اسم هذا الحي، رواية “الحي اللاتيني” (1953)، التي صنّفت واحدة من أهم مئة رواية عربية حتى الآن.
وبعد 67 سنة على نشرها، لا تزال تقرأ بشكل متواصل جيلاً بعد جيل وبكثير من الدهشة والإعجاب. علاقة سهيل إدريس بباريس لم تتوقف عند كتابة هذه الرواية الجميلة، بل باتت ممرّاً حاسماً للفكر الوجودي إلى بيروت أي إلى الثقافة العربية بشكل عام، إذ ستتكفل دار الآداب التي أنشأها لاحقاً، بترجمة ونشر كثير من كتاب الوجودية لسارتر وألبير كامو وسيمون دو بوفوار وغيرهم…
وإذا كانت صورة باريس، تختلف بعض الشيء من الشرق إلى شمال أفريقيا، ومع أن المدينة ارتبطت في المخيال الجزائري والمغاربي بشكل عام بظاهرة الاستعمار، إلا أنها لم تفقد بعدها التحرري، فقد كانت مدينة الحرية الفكرية ومنفى المثقفين الجزائريين، فساعدت في صناعة أسماء أدبية جزائرية كبيرة في الآداب والفكر، أيام الاستعمار وسنوات حرب التحرير الجزائرية، ورافقتهم نحو النجاح والعالمية ومنهم كاتب ياسين ومحمد ديب وآسيا جبار ومولود فرعون ومولود معمري ومالك حداد ومالك واري وجان عمروش وغيرهم…
كانت دور النشر الفرنسية التقدمية كـ “مينوي” و”لوسوي” و”جوليار” و”غاليمار”، تأخذ النصوص الجزائرية المعادية للاستعمار وتنشرها وتروّج لها في معارضة صارخة للنظام السياسي الكولونيالي الفرنسي. وفي باريس، تشكّلت مجموعة 121 من المثقفين الثوريين الذين دعوا إلى استقلال الجزائر ونبذ الحرب والوقوف إلى جانب حق الشعب الجزائري في الحرية والاستقلال، كما تكوّنت أيضاً جماعة المناضل فرنسيس جونسون التي سمّيت بـ”حملة الحقائب” (Les porteurs de valises) والتي عملت على نقل المساعدات المالية إلى الثورة الجزائرية وتوزيع المناشير الخاصة بتنظيماتها السرية وتسهيل وثائق هويات مزوّرة لتنقل الثوار.
في الحرب كما في السلام، كانت باريس دائماً مدينة الغواية والمغامرة والحرية خلال القرنين الماضيين، لا أعتقد أن كاتباً أو فيلسوفاً أو مناضلاً سياسياً لم يدخل باريس أو لم تؤثر فيه بشكل مباشر أو غير مباشر.
حين كانت تضيق الدنيا بمثقفي العالم الثالث وبمثقفي العالم العربي وبلدان شمال أفريقيا تحديداً، كانت باريس تفتح لهم أبوابها، تحتضنهم من دون أن تكمّم أفواههم أو تساومهم في قناعاتهم.
باريس القنابل والإرهاب
اليوم، حين يغتال أستاذ للتاريخ في ضواحي باريس، وقبله بخمس سنوات الهجوم الإرهابي على مقر الجريدة الساخرة شارلي إيبدو واغتيال صحفييها والهجوم على باتاكلان ومحطة الميترو، وغيرها من الأعمال الإرهابية التي قامت بها الجماعات الإسلامية المتطرفة، حين يغتال أستاذ أمام ثانويته ويفصل رأسه عن جسده وكأننا في القرون الهمجية الظلماء، نتساءل ما الذي حدث لباريس؟ وأين هي مدينة الآداب الجميلة والحدائق العمومية العريقة والنبيذ المعتق والعطور التي لا تشبهها عطور والمسارح وقاعات السينما وضجيج نقاشات المقاهي الفلسفية والفنون التشكيلية؟
ماذا أصاب العالم؟ ماذا أصاب باريس؟ إننا ندخل عصراً من التوحش الفكري والسياسي والديني الذي يغتصب الجميل ويغتال المجتهد ويقتل المختلف ويصادر الرأي الحر.
أقيم أمس الأربعاء، في 21 أكتوبر (تشرين الأول)، في باحة السوربون حفل تكريمي وطني للأستاذ صموئيل باتي (Samuel Paty) الذي اغتاله الإرهاب الإسلامي. وفي هذا المكان المقدس، مكان العلم، درس طه حسين وتوفيق الحكيم وسهيل إدريس ومحمود المسعدي ومحمد أركون وغيرهم كثر ممن حملوا الفكر النقدي إلى الثقافة العربية المعاصرة. حين نتأمل هذا المشهد الصارخ في تناقضه بين جيل أتى إلى باريس ليحمل التنوير، وجيل يقيم في باريس ليفرض الظلامية، هنا يكمن الجواب عن أسباب تخلّفنا، وتوجّس العالم من ديننا ومن سلوكنا.
تظل باريس أكبر عامل مؤثر في أكبر الشخصيات الثقافية والفكرية والإبداعية العربية والمغاربية التي بدورها أثرت تأثيراً استثنائياً على مدى القرن العشرين.
نعم، اليوم، لم تعد باريس مدينة “الجن والملائكة” كما وصفها طه حسين، فبعد قرن من الزمن حوّلها فكر الداعية طارق رمضان وأتباعه إلى مدينة الشياطين والساطور والدم.
نقلا” عن أندبندنت عربية