كتب : عبدالله بشارة
أبتعد قليلاً عن قضايا الوطن نحو المستجدات في الفضاء الخليجي، وأشدها إزعاجاً التطورات الإستراتيجية بين الصين وإيران التي سجلت الصحافة العالمية الكثير من التعليقات حول أهدافها، وآثارها، ومستقبلها على الطرفين، والأهم على دول الخليج، ومنها العراق وسوريا ولبنان واليمن، وهي محطات يتفوق فيها النظام الإيراني نفوذاً وقوة. لا أعرف الكثير عن الصين، ونادراً ما ألتقي مع وفودها، لكن تجربتي مع الوفد الصيني في الأمم المتحدة غرست عندي الفضول لقراءة ما تعنيه كلمات هذا الوفد، وأعترف بالخيبة لأنني لم أنجح في فهم تقاسيم الوجوه، فلا أعرف البهجة من الصدمة، ولا الابتسامة من الغلاظة، ولا الصدق من التلفيق، حيث ممارسة الدبلوماسية في التكتم المتشدد، وهو من مسارات الأيديولوجيات اليسارية، ويمارسها الوفد الصيني باتقان، فلا تفيد التخمينات لأنها لا تنفذ عبر جدران الصمت والمفاجأة.
ورغبة في الإيجاز، أود إبداء بعض الملاحظات التي ترافق السلوك الصيني في علاقاته مع إيران:
أولاً – في الوقت الذي تشتد فيه آليات الحصار الأميركي المتواصل على إيران عبر العقوبات الاقتصادية الفاعلة التي وضعت خزينة إيران على مشارف الإفلاس وسببت نزيفاً لا يتوقف للاقتصاد الإيراني، ووسط الحذر الأوروبي من الاقتراب من إيران، وترك طهران تتخبط في مستنقع العزلة والحيرة، تأتي الصين إلى منطقة ظلت تتعامل معها بلطافة وحنية في مسار اقتصادي وتجاري محدود ويتلمس طريق المستقبل، معتمداً على دبلوماسية خالية من الحساسيات وفي منأى عن وسوسة المخاوف، في مظهر يوحي بأن الصين تمارس علاقات إنقاذ للوضع السياسي والاقتصادي الإيراني، في خطوات جريئة غير مسبوقة في السلوك الصيني الخارجي المبني على تقاليد تاريخية للحذر والابتعاد عن المطبات المؤذية، مع الدعوة إلى الالتزام التاريخي بالتكتم المهذب من دون انفعال والحفاظ الشديد على سرية المكتوم.
ثانياً – يردد كبار الساسة في الولايات المتحدة من السيناتور ومجلس النواب وكتاب الإعلام التحذيرات المتواصلة الموجهة للرئيس ترامب بعلاج التوتر الطاغي على العلاقات الأميركية – الصينية، وأشعلها الجانب الأميركي في غضبه من سياسة الصين التجارية وإغراقها السوق الأميركي بالصناعات الصينية المغرية في أسعارها وفي وجودها، مع إضافات كثيرة من مخازن التوتر التي تسببها خطوط التماس بين المصالح الأميركية والمصالح الصينية في بحرالصين وإقليم جنوب شرق آسيا، تضاف إليها المواجهات الأمنية بين الصين والهند في مناطق الهملايا والتبت، حيث لم تتوقف الانفجارات والحرائق بين الطرفين خلال السنوات الأخيرة.
وفوق ذلك يأتي استياء الولايات المتحدة من تمكن التكنولوجيا الصينية من الحصول على عقود مع بعض دول حلف الأطلسي وضغوط واشنطن على هذه الدول للتخلي عن المشاركة مع الصين في مجالات لها تأثير على الأمن الأوروبي، وغضب الرئيس ترامب من هذا المنحى الذي يضعف أسنان الحصار الذي فرضه على إيران.
ثالثاً – من واقع المتابعة والقراءة، واضح أن الصين تعدت ساحة التجارة والتصدير إلى الوجود في الخليج عبر الاتفاقيات التي حققتها مع إيران للحصول على قواعد تجارية على أكبر الجزر الإيرانية في الخليج، جزيرة «كيس» القريبة من حدود الإمارات، ذات الموقع المؤثر في الممرات البحرية للملاحة الدولية في الخليج، لأجل بناء ميناء كبير يستوعب احتياجات الصين بكل جوانبها، ويحولها من دولة بعيدة بعلاقات تجارية إلى دولة حاضرة في الفضاء الخليجي والإستراتيجي، أمنيا وسياسيا وتجاريا، إضافة إلى ما لديها من اتفاقيات مع حكومة باكستان لتجديد موانئ باكستانية على بحر العرب لاستخدامها قواعد بحرية تخرج منها بوارجها الحربية لتتجول في المحيط الهندي بتأثير مباشر على علاقتها مع الهند وتجهيز نفسها لمواجهة ممكنة.
رابعاً – منذ عام 1971، تخلص الخليج من دبلوماسية التخويف والابتزاز -Gun-Boat Diplomacy، بعد رحيل بريطانيا الذي استمر ثلاثة قرون، كان الخليج فيها شبه محمية بريطانية لتأمين دروب الملاحة إلى الهند، وصار الخليج يتنفس وفق مصالحه، نظيفاً من قواعد الأطماع والهيمنة، وتناغمت الدبلوماسية الخليجية مع هذا الواقع، فكنا لا نجامل الدول الكبرى في مداولات الأمم المتحدة، ونتبع القناعة الصادقة بالوفاء لمبادئ الميثاق، ونندد وبصوت قوي بدبلوماسية البوارج الباحثة عن مناطق نفوذ، ما يؤدي إلى تصاعد حدة التوتر في منطقة رقيقة لا تقبل ضغوط الدول الكبرى.
من المؤكد مع هذا التطور الذي وفر للصين، الدولة الدائمة العضوية في مجلس الأمن، صاحبة الاقتصاد الثاني عالمياً، مكاناً إستراتيجياً في أهم المواقع العالمية ارتباطاً بالأمن والاستقرار العالمي، تكسب من خلاله نفوذاً غير مسبوق، يعطيها حق تأمين مصالحها المكتسبة باتفاقيات شرعية، من المؤكد أنها ستقود إلى المواجهة العنيفة بين محور الصين – إيران، مسنوداً من روسيا وربما من بعض أصدقاء إيران في المنطقة، مثل سوريا وحزب الله، ومن مختلف الدول من القارات الأخرى من جهة، ومحور الولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى، والحصيلة ستنعكس على دول مجلس التعاون بغياب السكينة وتصاعد التدخلات الإيرانية بعد الحصول على الحماية الصينية للسلوكيات الإيرانية وتحصين إيران من إدانات أو عقوبات أو مقاطعات يسعى مجلس الأمن إلى فرضها على إيران..
خامساً – لا بد من الإشارة إلى حصاد الصين من هذه الصفقة، فالحصيلة لا تنحصر في المزايا التجارية والاستثمارية، وإنما في تأمين الحصول على الطاقة بفضل اتفاقيات شرعية موقعة مع إيران، وبسعر يراعي مقتضيات التحالف الإستراتيجي، ويحمي إيران من التهديدات الحاضرة، ويظل الأهم من كل ذلك استحضار الصين الحذرة إلى بقعة حساسة في تباينات في المواقف، ليس فقط بين أطرافها، وإنما بين الدول الكبرى صاحبة الشهية لنشر المزيد من النفوذ، وأخطر ما في هذا الواقع هو تحول الخليج من دون رغبته إلى فضاء تتسابق الدول الكبرى إلى المزيد من الوجود فيه.
وتمكن الإشارة أيضاً إلى أن هذا الواقع الذي نتحدث عنه تولَّد من دبلوماسية الرئيس ترامب الذي قرر الانسحاب من الاتفاق بين الدول الدائمة وإيران حول برنامج إيران النووي، وقد تطرأ تغييرات جوهرية إذا ما خسر ترامب وفاز المرشح الديموقراطي بايدن بالرئاسة، فسيعود إلى الاتفاق وقد تتلاشى الأزمة، لكن ذلك سيتقرر في الثالث من نوفمبر القادم.
ولا أستبعد أن الصين وفق حساباتها رأت أن تسبق الآخرين في ساحة البحث عن أسواق متعطشة لكل جديد.. ومن الغريب أن هذا التطور في إستراتيجية الصين تمت الترتيبات له بهدوء وبابتعاد واضح عن ماكينة الإعلام، وصمت من المسؤولين الصينيين، وما نعرفه جاء من مصادر صحافية وبيانات رسمية من دول غريبة والولايات المتحدة.. هل سنصبح في الأسبوع الأول من نوفمبر مع ترامب وبالتالي مع التوترات التي نراها أو نعود إلى ما كان الوضع عليه أيام الرئيس أوباما.. قريباً سنعرف.
* نقلا عن “القبس”