كتب : علي ناصر محمد
المشهد الذي لم يفارق ذاكرتي طوال السنوات الماضية، كان مشهد الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات يلوح لمودعيه، بنظرات مليئة بالمحبة وحزن الفراق، ويرسل لهم القبلات في الهواء من باب الطائرة العمودية التي غادرت به إلى عمان فباريس. وبذكاء المدرك أنه الوداع الأخير، أصر “الختيار” الخارج من الحصار رغم مرضه أن يتماسك ليودع شعبه مبتسماً، كاتباً السطر الأخير في الملحمة العاصفة التي استمرت لأكثر من أربعين عاماً، كتبه بذات القوة والشجاعة التي كتب بها سطورها الأولى قبل نصف قرن من الزمن.
المشهد الآخر أو الأخير، كان مشهد التابوت الملفوف بالعلم الفلسطيني محمولاً على أكتاف الحرس الجمهوري الفرنسي إلى الطائرة التي ستقل جثمان القائد الفلسطيني الكبير “المصري الهوى” إلى القاهرة، ومنها إلى رام الله ليوارى الثرى هناك، منتظراً اليوم الذي ينقل فيه رفاته إلى القدس عاصمة الدولة الفلسطينية ليتحقق حلمه الكبير.
تابع الملايين حول العالم باهتمام، خلال فترة مرضه، التطور الدراماتيكي الغامض لصحة الزعيم الفلسطيني، والاعتقاد يتزايد بأنه قتل بأحد السموم التي يعمل الإسرائيليون منذ سنين طويلة على تطويرها فيما يسمى “وحدة السموم السرية” والتي تنتج سموماً لا يمكن اكتشافها ومنها ما هوجم به المناضل خالد مشعل في عمان، يوم ضغط الملك حسين رحمه الله على إسرائيل لجلب الترياق الذي أنقذه.
لماذا بالسم؟ كالرئيسين جمال عبد الناصر وهواري بومدين والمناضل وديع حداد.
بالسم! لأنه لم يكن ممكناً قتله بشكل مباشر أو علانية، وهو رمز وحدة ونضال الشعب الفلسطيني والرمز الدولي الذي استطاع أن يعطي قضية فلسطين بعدها العالمي رغم سيطرة إسرائيل على وسائل الإعلام، وهو الذي وجه حديثه مباشرة إلى الدكتور كورت فالدهايم الأمين العام للأمم المتحدة عام 1974م قائلاً: “سيدي الرئيس، لقد جئتكم يا سيادة الرئيس بغصن زيتون مع بندقية ثائر… فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي، سيدي الرئيس الحرب تندلع من فلسطين، والسلام يبدأ من فلسطين”.
ومن ينسى أيضاً الدروع البشرية الأجنبية التي دافعت عنه أثناء محاولة الاقتحام والحصار؟ ولكن لماذا لم يُنقذ عرفات؟؟ ضغوط العالم كلها لم تكن لتمنع إسرائيل من تحقيق حلم راودها أربعين عاماً، وهو التخلص من هذا القائد، الذي حاولت اغتياله عشرات المرات في بيروت وتونس وعمان، فازداد إصراراً على الحياة. نجا حتى من ذئاب وسباع الصحراء الليبية حين هبطت طائرته الانتينوف السوفياتية اضطرارياً على رمال الصحراء الليبية.
رحل أبو عمار، ذلك الرجل الذي اعتاد أن يحمل قضيته في قلبه، ورجاله خلفه، يتنقل بها في أصقاع الأرض، مرة يرحل عن عمان عام 1970م وتارة يرحل عن لبنان عام 1982م وأخرى عن طرابلس عام 1983م وكان من العدل إن يرحل إلى وطنه الذي اغتصبته إسرائيل ولم تستطع الشرعية الدولية أن تجبرها على احترام وتنفيذ قراراتها المتعددة منذ عام 1948م بشأن قيام الدولة الفلسطينية وعودة اللاجئين.
وأثناء الحرب في لبنان على الفلسطينيين نقل لنا، وكنت حينها رئيساً لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، المناضل عباس زكي طلب الرئيس ياسر عرفات حاجتهم لأسلحة مضادة للطيران، وأرسلنا لهم بطارية الدفاع الجوي 100 ملم من مطار عدن وأسلحة أيضاً للدفاع عن بيروت…
وعندما غادروا بيروت كنت شخصياً في استقبالهم في ميناء عدن، ثم أقام الفلسطينيون أول احتفال للثورة في عدن يناير1983م وحضر آلاف الفلسطينيين العرض العسكري الفلسطيني واستمعوا إلى خطاب القائد أبو عمار الذي خسر المعركة ولكنه لم يخسر القضية، وفي المساء أُقيم حفل فني كبير حضرته كل القيادات الفلسطينية واليمنية وغنى فيه الفنان عبد الله حداد أغنيته المشهورة عن التكتيك العربي وكأنه يتحدث عن واقعنا اليوم.
وبعد خروجي من السلطة انتقلت وأنصاري إلى صنعاء، ويومها قال لي: “أنت دفعت ثمن مواقفك المبدئية”. ولا أنسى أبداً لأبو عمار أنه كان يحرص في كل زيارة لصنعاء على زيارتي بعد زيارته للرئيس علي عبد الله صالح ونصب الجندي المجهول. وفي كثير من الأحيان التي أكون فيها خارج صنعاء كان يصر على زيارة مقري حتى في غيابي ليشرب الشاي وينطلق في رحلاته المكوكية التي حطم بها الرقم القياسي لسفر السياسيين في العالم.
لكل مرحلة رجالها وبدون شك أن أبو عمار كان قائداً وطنياً لمرحلة تاريخية هامة، وقد أرسى ورفاقه الأسس لقيام الدولة الفلسطينية، وعلى الشعب الفلسطيني الذي ينجب كل يوم أبطالاً وقيادات أن يواصل مسيرة النضال الوطني وتعزيز الوحدة الوطنية التي تعتبر مصدر قوة للثورة وصمودها واستمرارها فقوتهم في وحدتهم وعليهم تجاوز خلافاتهم من أجل تحقيق هدفهم في إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.